معنى اسم الحافظ والحفيظ
الدَّلَالَاتُ اللُّغَوِيَّةُ لاِسْمَيِ (الحَافِظِ - الحَفِيظِ)
الحَفِيظُ فِي اللُّغَةِ مُبَالَغَةٌ مِنِ اسْمِ الفَاعِلِ الحَافِظِ فِعْلُهُ حَفِظَ يَحْفَظُ حِفْظًا، وَحِفْظُ الشَّيءِ صِيَانَتُهُ مِنَ التَّلَفِ وَالضَّيَاعِ، وَيُسْتَعْمَلُ الحِفْظُ فِي العِلْمِ عَلَى مَعْنَى الضَّبْطِ وَعَدَمِ النِّسْيَانِ، أَوْ تَعَاهُدِ الشَّيءِ وَقِلَّةِ الغَفْلَةِ عَنْهُ، وَرَجُلٌ حَافِظٌ وَقَوْمٌ حُفَّاظٌ هُم الذِينَ رُزقُوا حِفْظَ مَا سَمِعُوا وَقَلَّمَا يَنْسَوْنَ شَيْئًا، وَالحَافِظُ وَالحَفِيظُ أَيْضًا هُوَ المُوَكَّلُ بِالشَّيْءِ يَحْفَظُهُ، وَمِنْهُ الحَفَظَةُ مِنَ المَلَائِكَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11]
أَيْ: تَحْفَظُ الأَنْفُسَ بِأَمْرِ اللهِ حَتَّى يَأْتِيَ أَجَلُهَا، وَكَذَلِكَ الحَفَظَةُ الذِينَ يُحْصُونَ الأَعْمَالَ وَيَكْتُبُونَهَا عَلَى بَنِي آَدَمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِهَم:
﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 - 12]
وَيُقَالُ حَفِظَ المَالَ وَالسِّرَّ حِفْظًا رَعَاهُ وَصَانَهُ، وَاحْتَفَظَ الشَّيءَ لِنَفْسِهِ يَعْنِي خَصَّهَا بِهِ، وَالتَّحَفُّظُ قِلَّةُ الغَفْلَةِ فِي الأُمُورِ وَالكَلَامِ.
وَالحَفِيظُ سُبْحَانَهُ هُوَ العَلِيمُ المُهَيْمِنُ الرَّقِيبُ عَلَى خَلْقِهِ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي مُلْكِهِ، وَهُوَ الحَفِيظُ الذِي يَحْفَظُ أَعْمَالَ المُكَلَّفِينَ، وَالذِي شَرَّفَ بِحِفْظِهَا الكِرَامَ الكَاتِبِينَ، يُدَوِّنُونَ عَلَى العِبَادِ القَوْلَ وَالخَطَرَاتِ، وَالحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ، وَيَضَعُونَ الأَجْرَ كَمَا حُدِّدَ لَهُم بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيئَاتِ، وَهُوَ الحَفِيظُ الذِي يَحْفَظُ عَلَيهِم أَسْمَاعَهُم وَأَبْصَارَهُم وَجُلُودَهُم لِتَشْهَدَ عَلَيْهِم يَوْمَ اللِّقَاءِ وَهُوَ الحَفِيظُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنَ الشَّرِّ وَالأَذَى وَالبَلَاءِ، وَمِنْهُ الدُّعَاءُ الذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بِيْنَ يَدَيَ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي".
وَالحَفِيظُ أَيْضًا هُوَ الذِي يَحْفَظُ أَهْلَ التَّوْحِيدِ وَالإِيمَانِ، وَيَعْصِمُهُم مِنَ الهَوَى وَشُبُهَاتِ الشَّيْطَانِ، وَيَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ مِنَ الوُقُوعِ فِي العِصْيَانِ، وَيُهَيِّئُ لِتَوْفِيقِهِ إِلَى الطَّاعَةِ وَالإِيمَانِ، وَيَشْهَدُ لِمِثْلِ هَذِهِ المَعَانِي مَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو:
"اللَّهُمَّ احْفَظْنِي بِالإِسْلَامِ قَائِمًا، وَاحْفَظْنِي بِالإِسْلَامِ قَاعِدًا، وَاحْفَظْنِي بِالإِسْلَامِ رَاقِدًا، وَلَا تُشْمِتْ بِيَ عَدُوًّا حَاسِدًا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ خَزَائِنُهُ بِيَدِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ كُلِّ شَرٍ خَزَائِنُهُ بِيَدِكَ"
وَالحَفِيظُ أَيْضًا هُوَ الذِي حَفِظَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقُدْرَتِهِ، قَالَ تَعَالَى:
﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]
فَاللهُ حَفِيظٌ لِمَخْلُوقَاتِهِ يُبْقِيَهَا عَلَى حَالِهَا لِغَايَاتِهَا، وَيُنَظِّمُ تَرَابُطَ العِلَلِ بِمعْلُولَاتِهَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَحْفَظُ الأَشْيَاءَ بِذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ الغَزَّالِيُّ أَنَّ الحِفْظَ فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَينِ:
الوَجْهُ الأَوَّلُ: إِدَامَةُ وُجُودِ المَوْجُودَاتِ وَإِبْقَاؤُهَا، وَيُضَادُّهُ الإِعْدَامُ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الحَافِظُ لِلسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالمَوْجُودَاتِ التِي يَطُولُ أَمَدُ بَقَائِهَا وَالتِي لَا يَطُولُ أَمَدُ بَقَائِهَا، مِثْلَ الحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتِ وَغَيْرِهِمَا.
الوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الحِفْظَ صِيَانَةُ المُتَقَابِلَاتِ المُتَضَادَّاتِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، كَالتَّقَابُلِ بَيْنَ المَاءِ وَالنَّارِ، فَإِنَّهُمَا يَتَعَادَيَانِ بِطِبَاعِهِمَا، فَإِمَّا أَنَّ يُطْفِئَ المَاءُ النَّارَ، وَإِمَّا أَنْ تُحِيلَ النَّارُ المَاءَ إِلَى بُخَارٍ، وَقَدْ جَمَعَ اللهُ عز وجل بَيْنَ هَذِهِ المُتَضَادََّاتِ المُتَنَازِعَةِ فِي سَائِرِ العَنَاصِرِ وَالمُرَكَّبَاتِ، وَسَائِرِ الأَحْيَاءِ كَالإِنْسَانِ وَالنَّبَاتِ وَالحَيَوَانِ، وَلَوْلَا حِفْظُهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الأَسْبَابِ وَتَنْظَيمُ مُعَادَلَاتِهَا، وَارْتِبَاطُ العِلَلِ بِمَعْلُولَاتِهَا لتَنَافَرَتْ وَتَبَاعَدَتْ وَبَطَلَ امْتِزَاجُهَا وَاضْمَحَلَّ تَرْكِيبُهَا، وَهَذِهِ هِيَ الأَسْبَابُ التِي تَحْفَظُ الإِنْسَانَ مِنَ الهَلاَكِ وَتُؤَمِّنُ لَهُ بِحِفْظِ اللهِ الحَيَاةَ.
قَالَ اللهُ عز وجل:
﴿ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ [سبأ: 21]
﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ﴾ [الشورى: 6]
وَقَالَ الحُليْمِيُّ: وَمَعْنَاهُ المَوْثُوقُ مِنْهُ بِتَرْكِ التَّضْييعِ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فِيمَا أُخْبِرْتُ عَنْهُ: الحَفِيظُ هُوَ الحَافِظُ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ كَالقَدِيرِ وَالعَلِيمِ، يَحْفَظُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا فِيهِمَا لِتَبْقَى مُدَّةَ بَقَائِهَا فَلاَ تَزُولُ وَلاَ تُدْثَرُ، قَالَ اللهُ عز وجل:
﴿ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ [البقرة: 255]
﴿ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ﴾ [الصافات: 7]
أَيْ: حَفِظْنَاهَا حِفْظًا، وَهُوَ الذِي يَحْفَظُ عِبَادَهُ مِنَ المَهَالِكِ وَالمَعَاطِبِ، وَيَقِيهُمْ مَصَارِعَ الشَّرِّ، قَالَ اللهُ عز وجل:
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11]
أَيْ بِأَمْرِهِ، وَيَحْفَظُ عَلَى الخَلْقِ أَعْمَالَهُمْ، وَيُحْصِي عَلَيهِمْ أَقْوَالَهُم، وَيَعْلَمُ نِيَّاتِهِم، وَمَا تُكِنُّ صُدُورُهُم، فَلَا تَغِيبُ عَنْهُ غَائِبَةٌ، وَلَا تَخْفَى عَلَيهِ خَافِيَةٌ، وَيَحْفَظُ أَوْلِيَاءَهُ فَيَعْصِمَهُم عَنْ مُوَاقَعَةِ الذُّنُوبِ، وَيَحْرُسُهُم مِنْ مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ، لِيَسْلَمُوا مِنْ شَرِّهِ وَفْتِنَتِهِ".
فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الحَافِظُ لِجَمِيعِ المُمْكِنَاتِ وَالحَفِيظُ، وَأَعْظَمُ الحِفْظِ حِفْظُ القُلُوبِ، وَحِرَاسَةُ الدِّينِ عَنِ الكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَأَنْوَاعِ الفِتَنِ، وَفُنُونِ الأَهْوَاءِ وَالبِدَعِ حَتَّى لَا يَزِلَّ عَنِ الطَّرِيقَةِ المُثْلَى.
قَالَ اللهُ العَظِيمُ:
﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27]
لَا الحِفْظَ مِنْ بَلَايَا الأَمْرَاضِ وَالأَوْصَابِ، وَالبَلَايَا النَّازِلَةِ بِالمَالِ وَالوَلَدِ، فَإِنَّ هَذَا يُؤَدِّي إِلَى الجَنَّةِ، وَالأَوَّلُ يُؤَدِّي إِلَى النَّارِ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ القَائِلُ:
وَيَجِبُ عَلَيهِ حِفْظُ حُدُودِهِ، وَحِفْظُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِهِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَعْرِفَةُ الإِيْمَانِ وَالإِسْلاَمِ وَسَائِرِ مَا يَتَعَيَّنُ عِلَيْهِ عِلْمُهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُ مَا اسْتَحْفَظَهُ اللهُ إِيَّاهُ بِحُسْنِ الرِّعَايَةِ لَهُ وَالقِيَامِ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: مَنْ حَفِظَ للهِ جَوَارِحَهُ حَفِظَ اللهُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ، وَمَنْ حَفِظَ للهِ حَقَّهُ حَفِظَ اللهُ حَظَّهُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا بُنَيِّ احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ" وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ، وَذَكَرَ القُشَيْرِيُّ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ رحمه الله يَقُولُ: وَرِثَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ عَنْ مَوْرُوثٍ لَهُ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَقَالَ إِلَهِي إِنِّي مُحْتَاجٌ إِلَى هَذِهِ الدَّرَاهِمِ، ولكنِّي لستُ أُحْسِنُ حِفظَها؛ فأدفعَها إليك لتُردَّها عليَّ وقت حاجتي، وتصدَّق بتلك الدراهمِ وَلَزِمَ الفَقْرَ، قَالَ: فَمَا احْتَاجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ قَطُّ طُولَ حَيَاتِهِ إِلَى شَيءٍ، فَكَانَ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَتَحَ اللهُ لَهُ فِي الوَقْتِ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ أَنَّهُ وَقَعَ بَصَرُهُ يَوْمًا عَلَى مَحْظُورٍ فَقَالَ: إِلَهِي إِنَّمَا أَرُدُّ بَصَرِي هَذَا لأَجْلِكَ، فَإِذَا صَارَ سَبَبًا لِمُخَالَفَةِ أَمْرِكَ فَاسْلُبْنِيهِ، قَالَ: فَعَمِيَ الرَّجُلُ، قَالَ: وَكَانَ يَقُومُ بِاللَّيْلِ وَيُصَلِّي، فَغَابَ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي مَنْ كَانَ يُعِينُهُ عَلَى الطَّهَارَةِ فَقَالَ: إِلَهِي إِنَّمَا قُلْتُ خُذْ بَصَرِي لأَِجْلِكَ، فَاللَّيْلَةَ أحْتَاجُ إِلَيْهِ لأَِجْلِكَ فَرُدَّهُ عَلَيَّ، قَالَ: فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ وَصَارَ يُبْصِرُ بَعْدَ العَمَى، وَيُحْكَى أَنَّ اللِّصَّ دَخَلَ دَارَ رَابِعَةَ العَدَوِيَّةِ وَكَانَ النَّوْمُ أَخَذَهَا، فَأَخَذَ اللِّصُّ المُلَاءَةَ فَخَفِىَ عَلَيْهِ بَابُ الحُجْرَةِ، فَوَضعَ المُلَاءَةَ فَأَبْصَرَ البَابَ، فَرَفَعَ المُلَاءَةَ ثَانِيًا فَخَفِيَ عَلِيْهِ البَابُ، وَلَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَرَّاتٍ، فَهَتَفَ هَاتِفٌ: ضَعْ المُلَاءَةَ فَإِنَّا نَحْفَظُهَا لَهَا وَلَا نَدَعُهَا وَإِنْ كَانَتْ نَائِمَةً، فَهَذَا تَحْقِيقُ الحِفْظِ.
وَرَدَّ بِهِ التَّنْزِيلُ فَقَالَ:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]
﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ﴾ [يوسف: 64]
قَالَ الحُلَيْمِيُّ: وَمَعْنَاهُ الصَّائِنُ عَبْدَهُ عَنْ أَسْبَابِ الهَلَكَةِ فِي أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرِةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْزَعْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ، فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ، ثُمَّ لِيَتَوَسَّدْ يَمِينَهُ، وَيَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، اللَّهُمَّ إِنْ أَمْسَكْتَهَا فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ".
وَهَذَا الاسْمُ يَدُلُّ عَلَى مَنْ لَهُ حِفْظٌ وَهُوَ فِعْلُ الفَاعِلِ، وَيَتَضَمَّنُ العِلْمَ وَالحَيَاةَ وَسَائِرَ شُرُوطِهَا، وَيَخْتَصُّ بِرِعَايَةِ المُمْكَنَاتِ فِي النَّفْي وَالإِثْبَاتِ، وَحِفْظِ جَمِيعِ المَوْجُودَاتِ مِنْ أَنْ يُوجِدَ فِيهَا مَا لَا يُرِيدُهُ وَمَا لَا يَرْضَاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عز وجل: ﴿
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ [البروج: 21، 22]
أَيْ مَمْنُوعٍ مِنَ الغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ وَالتَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ، وَقَالَ تَعَالَى:
﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾ [الطارق: 1 - 4]
فَهَذَا الاِسْمُ يَكُونُ مِنْ أَوْصَافِ الذَّاتِ، وَمِنْ أَوْصَافِ الفِعْلِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى العَلِيمِ؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ بِعِلْمِهِ جَمِيعَ المَعْلُومَاتِ، فَلَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيءٌ مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَحْفَظُ القُرْآنَ، أَيْ: هُوَ حَاضِرٌ فِي قَلْبِهِ. وَفِي مُقَابَلَةِ هَذَا الحِفْظِ النِّسْيَانُ، وَعَلَى هَذَا خَرَجَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾ [مريم: 64]
﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾ [طه: 52]
وَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَاتِ الفِعْلِ فَيرْجِعُ إِلَى حِفْظِهِ لِلْوُجُودِ.
وَضِدُّ هَذَا الحِفْظِ الإِهْمَالُ، وَعَلَى هَذَا خَرَجَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ﴾ [يوسف: 64]، فَحِفْظُ اللهِ تَعَالَى لِلْجَمِيعِ يَكُونُ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَبِمَلَائِكَتِهِ: قَالَ اللهُ العَظِيمُ: ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ﴾ [الأنبياء: 42]، وَقَالَ: ﴿ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ﴾ [الأنعام: 61]، أَيْ: مَلَائِكَةً تَمْنَعُهُم وَتَصُدُّهُم.
وُرُودُهُ فِي القُرآنِ الكريمِ:
وَرَدَ اسْمُهُ (الحَفِيظُ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ [هود: 57]
﴿ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ [سبأ: 21]
﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ﴾ [الشورى: 6]
وَأَمَّا (الحَافِظُ) فَقَدْ وَرَدَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64]
وَوَرَدَ مَرَّتَيْنِ بِصِيغَةِ الجَمُعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
﴿ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ﴾ [الأنبياء: 82]
مَعْنَى الاسْمَينِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى:
قَالَ الخَطَّابِيُّ: "هُوَ الحَافِظُ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ، كَالقَدِيرِ وَالعَلِيمِ، يَحْفَظُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا فِيهَا، لِتَبْقَى مُدَّةَ بَقَائِهَا، فَلَا تَزُولُ وَلَا تُدْثَرُ، كَقَوْلِهِ عز وجل:
﴿ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ [البقرة: 255]
وَقَالَ:
﴿ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ﴾ [الصافات: 7]
أَيْ: حَفِظْنَاهَا حِفْظًا وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَهُوَ الذِي يَحْفَظُ عَبْدَهُ مِنَ المَهَالِكِ وَالمَعَاطِبِ، وَيَقِيَهُ مَصَارِعَ السُّوُءِ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11]
أَيْ بِأَمْرِهِ.
وَيحْفَظُ عَلَى الخَلْقِ أَعْمَالَهُمْ، وَيُحْصِي عَلَيْهِم أَقْوَالَهُمْ، يَعْلَمُ نِيَّاتِهِم وَمَا تُكِنُّ صُدُورُهُم، وَلَا تَغِيبُ عَنْهُ غَائِبَةٌ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.
وَيَحْفَظُ أَوْلِيَاءَهُ، فَيَعْصِمُهُم عَنْ مُوَاقَعَةِ الذُّنُوبِ، وَيحْرُسُهُمْ عَنْ مُكايَدةِ الشَّيْطَانِ، لِيَسْلَمُوا مِنْ شَرِّهِ، وَفِتْنَتِهِ".
وَقَالَ الحُلَيْمِيُّ: "(الحَافِظُ) وَمَعْنَاهُ: الصَّائِنُ عبْدَهُ عَنْ أَسْبَابِ الهَلَكَةِ فِي أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ".
قَالَ القُرْطُبِيُّ: "فَهَذَا الاِسْمُ يَكُونُ مِنْ أَوْصَافِ الذَّاتِ، وَمِنْ أَوْصَافِ الفِعْلِ.
فَإِذَا كَانَ مِنْ أَوْصَافِ الذَّاتِ فَيْرجِعُ إِلَى مَعْنَى (العَلِيمِ)؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ بِعِلْمِهِ جَمِيعَ المَعْلُومَاتِ فَلَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيءٌ مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَحْفَظُ القُرْآنَ: أَيْ هُوَ حَاضِرٌ فِي قَلْبِهِ، وَفِي مُقَابَلَةِ هَذَا الحِفْظِ النِّسْيَانُ، وَعَلَى هَذَا خَرَجَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾ [مريم: 64]
﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾ [طه: 52]
وَإِذَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الفِعْلِ فَيرْجِعُ إِلَى حِفْظِهِ لِلْوُجُودِ، وَضِدُّ هَذَا الحِفْظِ الإِهْمَالُ، وَعَلَى هَذَا خَرَجَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا﴾ [يوسف: 64]
وَقَالَ: "وَالحِفْظُ أَيْضًا قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الجَمْعِ وَالوَعْيِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: حَفِظْتُ القُرْآنَ: أَيْ جَمَعْتُهُ إِذَا قَرَأْتُهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَحَفِظْتُ المَتَاعَ إِذَا جَمَعْتُهُ فِي الوِعَاءِ، وَالوَعْيُ وَالجَمْعُ حِرَاسَةٌ فَاعْلَمْ.
وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى المُرَاقَبَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ ﴾ [الشورى: 6]
وَقَدْ يَكُونُ الحِفْظُ بِمَعْنَى الأَمَانَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ يُوُسُفَ: ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55]، أَيْ: جَمُوعٌ لِمَا يَكُونُ فِي الخَزَائِنِ مِنْ مَظَانِّ حُقُوقِهَا، مَنُوعٌ لَهَا مِنْ غَيْرِ وَاجِبِهَا.
وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الإِحْصَاءِ عَدَدًا وَعِلْمًا".
وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ فِي نُونِيَّتِهِ:
وَهُوَ الحَفِيظُ عَلَيْهِمُ وَهُوَ الكَفِيـ ♦♦♦ لُ بِحِفْظِهِم مِنْ كُلِّ أَمْرٍ عَانِ
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيُّ: "(الحَفِيظُ): الذِي حَفِظَ مَا خَلَقَهُ، وَأَحَاطَ عِلْمُهُ بِمَا أَوْجَدَهُ، وَحَفِظَ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ وُقُوعِهِم فِي الذُّنُوبِ وَالهَلَكَاتِ، وَلَطُفَ بِهِم فِي الحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ، وَأَحْصَى عَلَى العِبَادِ أَعْمَالَهُم وَجَزَاءَهَا.
ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بهَذَينِ الاِسْمَيْنِ
1- إِنَّ الحَافِظَ لِهَذِهِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا هُوَ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَحْفَظُ السَّمَاوَاتِ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 32]
أَيْ: كَالسَّقْفِ عَلَى البَيْتِ، قَالَهُ الفَرَّاءُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ
﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [الحج: 65]
وَقَالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ ﴿ مَحْفُوظًا ﴾؛ أَيْ: مِنَ الشَّيَاطِينِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ﴾ [الحجر: 16- 18]
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: "يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَحَفِظْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ لَعِينٍ، قَدْ رَجَمَهُ اللهُ وَلَعَنَهُ {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ}؛ يَقُولُ: لَكِنْ قَدْ يَسْتَرِقُ مِنَ الشَّيَاطِينِ السَّمْعَ مِمَّا يَحْدُثُ فِي السَّمَاءِ بَعْضَهَا، فَيَتْبَعُهُ شِهَابٌ مِنَ النَّارِ مُبِينٌ، يَبِينُ أَثَرُهُ فِيهِ إِمَّا بِإِخْبَالِهِ وَإِفْسَادِهِ، أَوْ بِإِحْرَاقِهِ"
وَقِيلَ: مَحْفُوظًا مِنَ الهَدْمِ وَالنَّقْضِ، وَعَنْ أَنْ يَبْلُغَهُ أَحَدٌ بِحِيلَةٍ.
وَقِيلَ: مَحْفُوظًا فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى عِمَادٍ.
وَاللهُ يَحْفَظُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِلَا مَشَقَّةٍ وَلَا كُلْفَةٍ، وَدُونَ أَدْنَى تَعَبٍ أَوْ نَصَبٍ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:
﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]
2- أَنَّ المَحْفُوظَ هُوَ مَا حَفِظَهُ اللهُ سبحانه وتعالى، وَشَاءَ لَهُ أَنْ يُحْفَظَ وَيَبْقَى، وَأَمَّا مَنْ شَاءَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضِيعَ أَوْ يَضْمَحِلَّ وَيَضْعُفَ أَوْ يَهْلَكَ، فَإِنَّهُ ضَائِعٌ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ.
فَقَدْ تَكَفَّلَ اللهُ بِحِفْظِ كِتَابِهِ العَزِيزِ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، عَلَى مَرِّ العُصُورِ وَالدُّهُورِ، قَالَ سُبْحَانَهُ:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]
فَبَقِيَ كَذَلِكَ - كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ - هَذِهِ القُرُونَ الطَّوِيلَةَ مَحْفُوظًا بِحِفْظِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، فَهُوَ مِنْ آيَاتِ اللهِ الظَّاهِرَةِ لِلْعَيَانِ، الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ وَعْدِ اللهِ جَلَّ شَأْنُهُ.
وَلَقَدْ أَتَى عَلَى المُسْلِمِينَ أَيَّامُ فِتَنٍ سَوْدَاءَ، انْتَشَرَ فِيهَا أَهْلُ البِدَعِ وَالأَهْوَاءِ، وَأَدْخَلُوا عَلَى هَذَا الدِّينِ أَنْوَاعَ المُحْدَثَاتِ، وَافْتَرَوْا عَلَى رَسُولِ الأُمَّةِ صلى الله عليه وسلم أَنْوَاعَ المُفْتَرَيَاتِ، وَلَكِنَّهُم عَجَزُوا جَمِيعًا عَنْ أَنْ يُحْدِثُوا فِي هَذَا القُرْآنِ شَيْئًا، أَوْ أَنْ يُغَيِّرُوا فِيهِ حَرْفًا وَاحِدًا، فَبَقِيَ كَمَا هُوَ، وَبَقِيَتْ نُصُوصُهُ كَمَا أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَكَذَا أَماكِنُ العِبَادَةِ، فَإِنَّ المَحْفُوظَ مِنْهَا هُوَ مَا حَفِظَهُ اللهُ سبحانه وتعالى، وَهُوَ خَيْرٌ حَافِظًا.
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ رحمه الله عَنْ آيَاتِ اللهِ العَظِيمَةِ: وَكَذَلِكَ الكَعْبَةُ، فَإِنَّهَا بَيْتٌ مِنْ حِجَارَةٍ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، لَيْسَ عِنْدَهَا أَحَدٌ يَحْفَظُهَا مِنْ عَدُوٍّ، وَلَا عِنْدَهَا بَسَاتِينُ وَأُمُورٌ يَرْغَبُ النَّاسُ فِيهَا، فَلَيْسَ عِنْدَهَا رَغْبَةٌ وَلَا رَهْبَةٌ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ حَفِظَهَا بِالهَيْبَةِ وَالعَظَمَةِ، فَكُلُّ مَنْ يَأْتِيَهَا يَأْتيَهَا خَاضِعًا ذَلِيلًا مُتَوَاضِعًا فِي غَايَةِ التَّوَاضُعِ، وَجَعَل فِيهَا مِنَ الرَّغْبَةِ مَا يَأْتِيَهَا النَّاسُ مِنْ أَقْطَارِ الأَرْضِ مَحَبَّةً وَشَوْقًا مِنْ غَيْرِ بَاعِثٍ دُنْيَوِيٍّ، وَهِيَ عَلَى هَذِهِ الحَالِ مِنْ أُلُوفٍ مِنَ السِّنِينَ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُعْرَفُ فِي العَالَمِ لِبِنْيَةٍ غَيْرِهَا، وَالمُلُوكُ يَبْنُونَ القُصُورَ العَظِيمَةَ فَتَبْقَى مُدَّةً، ثُمَّ تُهْدَمُ لَا يَرْغَبُ أَحَدٌ فِي بِنَائِهَا، وَلَا يَرْهَبُونَ مِنْ خَرَابِهَا.
وَكَذَلِكَ مَا بُنِيَ لِلْعِبَادَاتِ قَدْ تَتَغَيَّرُ حَالُهُ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ، وَقَدْ يَسْتَوْلِي العَدُوُّ عَلَيْهِ كَمَا اسْتَوْلَى عَلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، وَالكَعْبَةُ لَهَا خَاصَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا، وَهَذَا مِمَّا حَيَّرَ الفَلَاسِفَةَ وَنَحْوَهُم، فَإِنَّهُم يَظُنُّونَ أَنَّ المُؤَثِّرَ فِي هَذَا العَالَمِ هُوَ حَرَكَاتُ الفَلَكِ، وَأَنَّ مَا بُنِيَ وَبَقِيَ فَقَدْ بُنِيَ بِطَالِعٍ سَعِيدٍ، فَحَارُوا فِي طَالِعِ الكَعْبَةِ إِذْ لَمْ يَجِدُوا فِي الأَشْكَالِ الفَلَكِيَّةِ مَا يُوجِبُ مِثْلَ هَذِهِ السَّعَادَةِ وَالفَرَحِ وَالعَظَمَةِ وَالدَّوَامِ وَالقَهْرِ وَالغَلَبَةِ، وَكَذَلِكَ مَا فَعَلَ اللهُ بِأَصْحَابِ الفِيلِ لَمَّا قَصَدُوا تَخْرِيبَهَا قَالَ تَعَالَى:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ [الفيل: 1 - 5]
قَصَدَهَا جَيْشٌ عَظِيمٌ وَمَعَهُمُ الفِيلُ، فَهَرِبَ أَهْلُهَا مِنْهُم فَبَرَكَ الفِيلُ، وَامْتَنَعَ مِنَ المَسِيرِ إِلَى جِهَتِهَا، وَإِذَا وَجَّهُوهُ إِلَى غَيْرِ جِهَتِهَا تَوَجَّهَ، ثُمَّ جَاءَهُم مِنَ البَحْرِ طَيْرٌ أَبَابِيلُ أَيْ جَمَاعَاتٍ فِي تَفْرِقَةٍ فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ رَمَوْا عَلَيْهِم حَصًى هَلَكُوا بِهِ كُلُّهُم، فَهَذَا مِمَّا لَمْ يُوجَدْ نَظِيرُهُ فِي العَالَمِ فَآيَاتُ الأنْبِيَاءِ هِيَ أَدِلَّةٌ عَلَى صِدْقِهِم"3- وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ هُوَ الذِي يَحْفَظُ الإِنْسَانَ مِنَ الشَّرُورِ وَالآفَاتِ وَالمَهَالِكِ، وَيَحْفَظُهُ مِنْ عِقَابِهِ وَعَذَابِهِ وَسَخَطِهِ، إِنْ هُوَ حَفِظَ حُدُودَ اللهِ وَاجْتَنِبَ مَحَارِمَهُ، فَبِتَقْوَى اللهِ وَخَوْفِهِ يُحْفَظُ الإِنْسَانُ، وَبِقَدْرِ ذَلِكَ يَكُونُ الحِفْظُ وَالكَلَاءَةُ، قَالَ تَعَالَى
﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 34]
فَالآَيَةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ فَلأَِنَّهُنَّ صَالِحَاتٌ حَافِظَاتٌ لِمَغِيبِ أَزْوَاجِهِنَّ - مِنْ عِرْضٍ وَمَالٍ وَوَلَدٍ - حَفِظَهُنَّ اللهُ سُبْحَانَهُ، وَأَعَانَهُنَّ وَسَدَّدَهُنَّ عَلَى ذَلِكَ، فَبِحْفْظِهِنَّ اللهَ – أَيْ: أَمْرَهُ وَدِينَهُ - حَفِظَهُنَّ اللهُ.
وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لاِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "يَا غُلاَمُ إِنِّي مُعلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تِجَاهَكَ...".
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله: "يَعْنِي احْفَظْ حُدُودَ اللهِ، وَحُقُوقَهُ وَأَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ، وَحِفْظُ ذَلِكَ هُوَ الوُقُوفُ عِنْدَ أَوَامِرِهِ بِالامْتِثَالِ، وَعِنْدَ نَوَاهِيهِ بِالاجْتِنَابِ، وَعِنْدَ حُدُودِهِ فَلاَ يَتَجَاوَزُ وَلَا يَتَعَدَّى مَا أُمِرَ بِهِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ فِعْلُ الوَاجِبَاتِ جَمِيعًا، وَتَرْكُ المُحَرَّمَاتِ جَمِيعًا".
وَقَدْ مَدَحَ اللهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ الذِينَ يَحْفَظُونَ حُقُوقَهُ وَحُدُودَهُ، فَقَالَ فِي مَعْرِضِ بَيَانِهِ لِصِفَاتِ المُؤْمِنِينَ الذِينَ اشْتَرَى مِنْهُم أَنْفُسَهُم وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُم الجَنَّةَ:
﴿ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 112]
وَقَالَ:
﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 32، 33]
4- وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ عَلَى المُسْلِمِ حِفْظُهُ مِنْ حُقُوقِ اللهِ هُوَ التَّوْحِيدُ، أَنْ يَعْبُدَهُ وَلَا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه إِذْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ" قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: "هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ؟" قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا"...
ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: "يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ" قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: "هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوْا ذَلِكَ؟" قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "أَنْ لَا يُعَذِّبَهُم"
فَهَذَا هُوَ الحَقُّ العَظِيمُ الذِي أَمَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَه أَنْ يَحْفَظُوهُ وَيُرَاعُوهُ، وَهُوَ الذِي مِنْ أَجْلِ حِفْظِهِ أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الكُتَبَ.
فَمَنْ حَفِظَهُ فِي الدُّنْيَا، حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ عَذَابِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَسَلَّمَهُ وَأَمَّنَهُ مِنْهُ، وَكَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ وَيُجِيرَهُ مِنَ النَّارِ.
وَإِنْ عُذِّبَ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِ، فَإِنَّهُ أَيْضًا مَحْفُوظٌ بِتَوْحِيدِهِ مِنَ الخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ مَعَ الكُفَّارِ الذِينَ ضَيَّعُوا هَذَا الحَقَّ العَظِيمَ.
5- وَمِنْ أَعْظَمِ مَا أُمِرَ بِحِفْظِهِ مِنَ الوَاجِبَاتِ: الصَّلَاةُ، قَالَ تَعَالَى:
﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ﴾ [البقرة: 238]
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [المؤمنون: 9] وَفِي [المعارج: 34]
فَمَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَحَفِظَ أَرْكَانَهَا، حَفِظَهُ اللهُ مِنْ نِقْمَتِهِ وَعَذَابِهِ وَكَانَتْ لَهُ نَجَاةً يَوْمَ القِيَامَةِ.
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله:
"الصَّلَاةُ مَجْلِبَةٌ لِلرِّزْقِ، حَافِظَةٌ لِلصِّحَّةِ، دَافِعَةٌ لِلأَذَى، مَطْرَدَةٌ لِلأَدْوَاءِ، مُقَوِّيَةٌ لِلقَلْبِ، مُبيِّضَةٌ لِلوَجْهِ، مُفْرِحَةٌ لِلنَّفْس، مُذْهِبَةٌ لِلْكَسَلِ، مُنَشِّطَةٌ لِلجَوَارِحِ، مُمِدَّةٌ لِلقُوَى، شَارِحَةٌ لِلصَّدْرِ، مُغَذِّيَةٌ لِلرُّوحِ، مُنَوِّرَةٌ لِلقَلْبِ، حَافِظَةٌ لِلنِّعْمَةِ، دَافِعَةٌ لِلنِّقْمَةِ، جَالِبَةٌ لِلبَرَكَةِ، مُبْعِدَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، مُقَرِّبَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ...
وَبِالجُمْلَةِ: فَلَهَا تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي حِفْظِ صِحَّةِ البَدَنِ وَالقَلْبِ وَقُوَاهُمَا، وَدَفْعِ المَوَادِ الرَّدِيئَةِ عَنْهُمَا، وَمَا ابْتُلِيَ رَجُلاَنِ بِعَاهَةٍ أَوْ دَاءٍ أَوْ مِحْنَةٍ أَوْ بَلِيَّةٍ إِلَّا كَانَ حَظُّ المُصَلِّى مِنْهُمَا أَقَلَّ، وَعَاقِبَتُهُ أَسْلَمَ.
وَلِلصَّلَاةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي دَفْعِ شُرُورِ الدُّنْيَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أُعْطِيَتْ حَقَّهَا مِنَ التَّكْمِيلِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَمَا اسْتُدْفِعَتْ شُرُورُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلَا اسْتُجْلِبَتْ مَصَالِحُهَا بِمِثْلِ الصَّلَاةِ.
وَسِرُّ ذَلِكَ: أَنَّ الصَّلَاةَ صِلَةٌ بِاللهِ عز وجل، وَعَلَى قَدْرِ صِلَةِ العَبْدِ بِرَبِّهِ عز وجل تَفْتَحُ عَلَيْهِ مِنَ الخَيْرَاتِ أَبْوَابَهَا، وَتَقْطَعُ عَنْهُ مِنَ الشَّرُورِ أَسْبَابَهَا، وَتُفِيضُ عَلَيْهِ مَوَارِدَ التَّوْفِيقِ مِنْ رَبِّهِ عز وجل، وَالعَافِيَةُ، وَالصحَةُ، وَالغَنِيمَةُ وَالغِنَى، وَالرَّاحَةُ وَالنَّعِيمُ، وَالأَفْرَاحُ وَالمَسَرَّاتُ، كُلُّهَا مُحْضَرةٌ لَدَيْهِ، وَمُسَارِعَةٌ إِلَيْهِ".
وَمِمَّا جَاءَ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ تَحْفَظُ صَاحِبَهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللهِ عز وجل؛ أَنَّهُ قَالَ: "يَا ابْنَ آدَمَ، ارْكَعْ لِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَكْفِكَ آخِرَهُ".
وَقِيلَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَحْفَظُ صَاحِبَهَا الحِفْظَ الذِي نَبَّهَ عَلِيْهِ فِي قَوْلِهِ:
﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]
وَأَمَّا مَنْ ضيَّعَ الصَّلَاةَ فَقَدْ تَوَعَّدَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ بِالهَلَاكِ وَالشَّرِّ العَظِيمِ.
قَالَ سُبْحَانَهُ:
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ [مريم: 59]
وَمِمَّا أَمَرَ اللهُ بِحِفْظِهِ السَّمْعُ وَالبَصَرُ وَالفُؤَادُ، قَالَ سُبْحَانَهُ:
﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36]
فَاحْفَظْ سَمْعَكَ، فَلَا تَسْمَعْ إِلَّا مَا يُرْضِيهِ، وَاحْفَظْ بَصَرَكَ فَلَا تَنْظُرْ إِلَّا إِلَى مَا يُرْضِيِهِ، وَاحْفَظْ قَلْبَكَ وَعَقْلَكَ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا يُغْضِبُهُ وَيُسْخِطُهُ، وَيَنْشَغِلَا بِغَيْرِهِ.
7- وَمِمَّا أَمَرَ سبحانه وتعالى بِحِفْظِهِ الفُرُوجُ، قَالَ سُبْحَانَهُ:
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30]
وَمَدَحَ المُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ فَقَالَ:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾ [المؤمنون: 5، 6]
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لِحْيَيْهِ وَرِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ"
8- وَمِمَّا أَمَرَ اللهُ بِحِفْظِهِ الأَيْمَانُ، فَقَالَ: ﴿ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ﴾ [المائدة: 89]؛ لِأَنَّ حِفْظَ اليَمِينَ يَدُلُّ عَلَى إِيمَانِ المَرْءِ وَوَرَعِهِ، فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَسَاهَلُ فِي الحَلِفِ وَالقَسَمِ، وَقَدْ تَلْزَمُهُ الكَفَّارَةُ وَهُوَ لَا يَدْرِي، أَوْ يَعْجَزُ عَنْهَا، فَيَقَعُ فِي الإِثْمِ لِتَضْييِعِهِ وَعَدَمِ حِفْظِهِ لأَِيْمَانِهِ وَاسْتِقْصَاءُ هَذَا يَطُولُ.
وَبِالجُمْلَةِ فَالمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ دِينِهِ أَجْمَعَ، فَلَا يَتْرُكُ مِنْهُ شَيْئًا لِتَعَارُضِهِ مَعَ هَوَاهُ وَمَصْلَحَتِهِ، بَلْ هُوَ مُطِيعٌ لِرَبِّهِ عَلَى أَيِّ حَالٍ، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
وَكُلَّمَا كَانَ وَفَاؤُهُ بِحِفْظِ حُدُودِ اللهِ وَشَرَائِعِهِ أَعْظَمَ، كَانَ حِفْظُ اللهِ لَهُ كَذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى
﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152]
﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ [البقرة: 40]
﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ﴾ [محمد: 7]
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رحمه الله: "وَحِفْظُ اللهِ سُبْحَانَهُ لَهُ يَتَضَمَّنُ نَوْعَيْنِ:
أَحَدَهُمَا: حِفْظُه لَهُ مَصَالِحَ دُنْيَاهُ، كَحِفْظِهِ فِي بَدَنِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنَّي أَسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنَ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي".
قَالَ: وَدَعَا رَجُلٌ لِبَعْضِ السَّلَفِ بِأَنْ يَحْفَظَهُ اللهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَخِي لَا تَسْأَلْ عَنْ حِفْظِهِ وَلَكِنْ قُلْ يَحْفَظُ الإِيمَانَ.
يَعْنِي أَنَّ المُهِمَّ هُوَ الدُّعَاءُ بِحِفْظِ الدِّينِ، فَإِنَّ الحِفْظَ الدُّنْيَويَّ قَدْ يَشْتَرِكُ فِيهِ البَرُّ وَالفَاجِرُ، فَاللهُ تَعَالَى يَحْفَظُ عَلَى المُؤْمِنِ دِينَهُ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُفْسِدُهُ عَلَيْهِ بِأَسْبَابٍ قَدْ لَا يَشْعُرُ العَبْدُ بِبَعْضِهَا وَقَدْ يَكُونُ يَكْرَهُهُ.
وَهَذَا كَمَا حَفِظَ يُوسُفَ؛ قَالَ:
﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24]
فَمَنْ أَخْلَصَ للهِ خَلَّصَهُ مِنَ السُّوءِ وَالفَحْشَاءِ وَعَصَمَهُ مِنْهُمَا مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسْبَابِ المَعَاصِي المُهْلِكَةِ. قَالَ: وَفِي الجُمْلَةِ فَمَنْ حَفِظَ حُدُودَ اللهِ وَرَاعَى حُقُوقَهُ، تَوَلَّى اللهُ حِفْظَهُ فِي أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَفِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ يَتَوَلَّى مَصَالِحَهُم فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلاَ يَكِلَهُمْ إِلَى غَيْرِهِ، قَالَ سبحانه وتعالى:
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [البقرة: 257]
وَقَالَ تَعَالَى:
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 11]
﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]
﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36]
9- اللهُ سُبْحَانَهُ يَحْفَظُ أَعْمَالَ عِبَادِهِ فَلَا يَضِيعُ شَيءٌ مِنْهَا، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ، صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ، وَيُوَافِيهِم بِهَا يَوْمَ الحِسَابِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَلَا يَنْسَى اللهُ مِنْهَا شَيْئًا وَإِنْ نَسِيَهُ النَّاسُ، قَالَ تَعَالَى:
﴿ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ﴾ [المجادلة: 6]
﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ﴾ [النبأ: 29]
وَقَدْ وَكَّلَ اللهُ بِذَلِكَ حَفَظَةً كِرَامًا مِنَ المَلاَئِكَةِ.
قَالَ تَعَالَى:
﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 - 12]
﴿ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾ [الطارق: 4]
وَلاَ يَسْقُطُ مِنْ هَذِهِ الصُّحُفِ شَيءٌ وَلَوْ صَغُرَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:
﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]
وَقَالَ:
﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ﴾ [القمر: 52، 53]
وَهَذَا الأَمْرُ لَيْسَ مِنْ مَهَامِّ الرُّسُلِ وَلَا أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، بَلْ هُوَ للهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ:
﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ [الأنعام: 104]