تاجر مع الله لا مع الناس
تتوالى عبر الأزمنة والعصور قصص عجيبة من المتاجرة مع الله وما نال أصحابها - أو إن شئت قلت: "أبطالها" - من فيض كرم الله وعطائه وتوفيقه، ولكن أكثر الناس زاهدون؛ يخاف الواحد منهم أن ينقص ماله، أو يضيع وقته إن مشى في حاجة غيره، أو يُتبعون صدقاتهم بالمن والأذى، والمن شعور خسيس لا يجيش في قلب طيّب، والمنّان يَتوجه بعطائه للناس لا لله؛ فإن بدر منهم ما لم يرُق له، أو لم ينله منهم شكر يُرضيه قطع عنهم العطاء، والله غني عن هذه الصدقة المؤذية. ومع أنهم قد لا ينفقون سوى القليل من أموالهم أو أوقاتهم ومع ذلك يشعرون بالتفضل على من يتصدقون عليهم مع أنهم أصحاب حق في أموالهم هذه والتي هي مال الله، جعله الله في أيديهم لا ليستأثروا بها وحدهم ينفقونها على ملذاتهم وشهواتهم؛ بل هناك حقوق لآخرين غيرهم في هذا المال، وهناك مروءات، والمعطي والآخذ كلاهما آكل من رزق الله.
الصدقة الطيبة هي الجود بأفضل الموجود، وهي تأليف للقلوب، وتغسل أحقاد النفوس، ذات خير وبركة، وفيها الزكاة والنماء، وهي ليست تَفضُّلًا من المانح؛ وإنما هي قَرض لله، ومن أراد أن يستظل بظل وارف يوم القيامة فليكثر من الصدقات؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: "كلُّ امرِئٍ في ظلِّ صَدقتِهِ، حتَّى يُفصَلَ بينَ النَّاسِ، أو قالَ: يُحكَمَ بينَ النَّاسِ" [الصحيح المسند: 943].
والأمر لا يقتصر على الزكاة فقط وإن كانت على رأس الصدقات؛ بل إنه أوسع من ذلك، ومن ينفق قرشه الطيب يجده في يومه الصعب، وبقدر ما تنفق ينفق الله عليك، وبقدر ما توسع على غيرك يوسع الله عليك، وبقدر سعيك في تنفيس كرب إخوانك ينفس الله عنك، وبقدر ما تكون في عون إخوانك يكن الله في عونك، والله واسع العطاء، عليم بالنوايا.
ولا تتاجر مع الناس؛ تنتظر منهم أن يظهروا لك امتنانهم لإحسانك، أو أن يبادلوك معروفًا بمعروف؛ بل تاجر مع الله ولا تنتظر الخير والجزاء إلا منه سبحانه، كما قال سبحانه عن موسى عليه السلام: ﴿ فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24]؛ سقى للفتاتين ثم تولى غير طالب منهما أجرة أو ثناءً، ولا قصد له غير وجه الله.
ذكر أحدهم قصة رجل كان يسير مهمومًا مغمومًا لمرض ولده، وإذ به يرى امرأة تبحث في القمامة؛ علّها تجد ما يسد الرمق، فاقترب منها ليتبين الأمر، فأخبرته أن ليس في بيتها ما تأكله هي وعيالها، فتكفل بنفقتهم، فما كان إلا أن شفى الله له ولده.
وآخر تكفل بنفقة امرأة أرملة وأولادها لا يمتون له بصلة، وكتب في وصيته موصيًا أولاده أن يعطوهم ـ بعد موته ـ نفقتهم مطلع كل شهر، وكان يعتقد أن أيامه معدودة في هذه الحياة ـ كما قال له الأطباء ـ وأنه لن يعيش أكثر من شهر، ولكنه عاش بعد هذه الحادثة عشرين عامًا.
وغيرها من القصص لمن تاجروا مع الله، ولم يستولي حب الدنيا على قلوبهم، وكانت هِمتهم الآخرة، فبذلوا المعروف وأغاثوا الملهوف وجبروا الخواطر لوجه الله، لا يريدون من الناس جزاءً ولا شُكورًا.
يقول سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ﴾ [فاطر: 29].. أربح تجارة؛ فهم يتاجرون مع الله وحده، وما عند الله خيرٌ مما ينفقون، والذين يبخلون فإنما يبخلون على أنفسهم.. لو كانوا يعلمون.