معرفةُ جمالِ الله عز وجل


أحمد بن عثمان المزيد

من أعزِّ أنواعِ المعرفةِ: معرفةُ الربِّ سبحانه بالجمالِ، وهي معرفةُ خواصِّ الخلقِ، وكلُّهم عَرَفَهُ بصفةٍ من صفاتِه، وأتمُّهم معرفةً من عَرَفَهُ بكمالِه وجلالِه وجمالِه سبحانه، ليسَ كمثلِه شيءٌ في سائرِ صفاتِه، ولو فَرَضْتَ الخلقُ كلُّهم على أجملِهم صورةً، وكلُّهم على تلكَ الصورةِ، ونَسَبْتَ جمالَهم الظاهرَ والباطنَ إلى جمالِ الربِّ سبحانَه لكانَ أقلَّ من نسبةِ سراجٍ ضعيفٍ إلى قرصِ الشمسِ، ويكفِي في جمالِه أنَّه لو كَشَفَ الحجابَ عن وجْهِه لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُه ما انتهى إليه بصرُه من خلقِه. ويكفِي في جمالِه أنَّ كلَّ جمالٍ ظاهرٍ وباطنٍ في الدنيا والآخرةِ فمن آثارِ صنعَتِه، فما الظنُّ بمَنْ صدرَ عنه هذا الجمالُ؟! 

ويكفِي في جمالِه: أنَّه لَهُ العزَّةُ جميعًا، والقوَّةُ جميعًا، والجودُ كلُّه، والإحسانُ كلُّه، والعلمُ كلُّه، والفضلُ كلُّه، ولِنُورِ وجهِه أَشْرَقَتِ الظلماتُ، كما قالَ النبيُّ ﷺ في دعاءِ الطائفِ: 

«أعوذُ بنورِ وجهِكَ الذي أشرقَتْ لهُ الظلماتُ  وصلُحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرةِ"

وقال عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: ليسَ عندَ ربِّكُم ليلٌ ولا نهارٌ، نورُ السمواتِ والأرضِ من نورِ وجهِه، فهو سبحانَه نورُ السمواتِ والأرضِ، ويومَ القيامةِ إذا جاء لفصلِ القضاءِ تُشْرِقُ الأرضُ بنُوره. ومن أسمائِه الحسنى (الجميلُ). وفي الصحيح عنه ﷺ: 

«إن اللهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ»

وجمالُه سبحانَه على أربعِ مراتِبٍ: جمالُ الذاتِ، وجمالُ الصفاتِ، وجمالُ الأفعالِ، وجمالُ الأسماءِ. فأسماؤُه كلُّها حُسْنَى، وصفاتُه كلُّها صفاتُ كمالٍ، وأفعالُه كلُّها حكمةٌ ومصلحةٌ وعدلٌ ورحمةٌ. وأمَّا جمالُ الذَّاتِ، وما هو عليه، فأمرٌ لا يُدْرِكُهُ سِوَاهُ، ولا يعلمُه غيرُه، وليسَ عندَ المخلوقينَ منه إلا تعريفاتٌ تَعَرَّفَ بها إلى مَنْ أَكْرَمَهُ من عبادِه، فإنَّ ذلكَ الجمالَ مصونٌ عن الأغيارِ محجوبٌ بسترِ الرداءِ والإزارِ، كما قال رسوله ﷺ فيما يُحْكَى عنه: 

«الكبرياءُ رِدَائي، والعظمةُ إزاري"

ولما كانت الكبرياءُ أعظمُ وأوسعُ كانتْ أَحَقَّ باسمِ الرداءِ؛ فإنه سبحانَه الكبيرُ المتعالِ، فهو سبحانَه العليُّ العظيمُ.

قال ابنُ عباسٍ: حجبَ الذاتَ بالصفاتِ، وحجبَ الصفاتِ بالأفعالِ، فما ظنُّكَ بجمالٍ حُجِبَ بأوصافِ الكمالِ وسُتِرَ بنعوتِ العظمةِ والجلالِ؟!

ومن هذا المعنى يُفْهَمُ بعضُ معانِي جمالِ ذاتِه؛ فإنَّ العبدَ يترقَّى من معرفةِ الأفعالِ إلى معرفةِ الصفاتِ، ومن معرفةِ الصفاتِ إلى معرفةِ الذاتِ. فإذا شاهدَ شيئًا من جمالِ الأفعالِ، استدلَّ به على جمالِ الصفاتِ، ثم استَدَلَّ بجمالِ الصفاتِ على جمالِ الذاتِ. 

  ومن ههنا يتبينُ أنَّهُ سبحانَه لهُ الحمدُ كلُّه، وأنَّ أحدًا من خَلْقِهِ لا يُحصِي ثناءً عليه، بل هو كما أثْنَى على نفسِه، وأنه يستحقُّ أن يُعْبَدَ لذاتِه، ويُحَبَّ لذاتِه، ويُشْكَرَ لذاته، وأنه سبحانَه يُحِبُّ نفسَه ويُثني على نفسِه ويحمدُ نفسَه، وأن محبَّتَه لنفسِه وحمدَه لنفسِه وثناءَه على نفسِه وتوحيدَه لنفسِه، هو في الحقيقةِ الحمدُ والثناءُ والحبُّ والتوحيدُ؛ فهو سبحانه كما أَثْنَى على نفسِه، وفوقَ ما يُثْنِي به عليه خلقُه. 

وهو سبحانه كما يُحِبُّ ذاتَه يحبُّ صفاتِه وأفعالَه، فكلُّ أفعالِه حسنٌ محبوبٌ، وإن كانَ في مفعولاتِه ما يُبْغِضُهُ ويكرهُه، فليس في أفعالِه ما هو مكروهٌ مسخوطٌ، وليسَ في الوجودِ ما يُحَبُّ لذاتِه ويُحْمَدُ لذاتِه إلا هو سبحانَه. وكل ما يُحَبُّ سواهُ، فإنْ كانَتْ محبَّتُه تابعةٌ لمحبتِه سبحانَه بحيثُ يُحَبُّ لأجلِه، فمحبَّتُه صحيحةٌ، وإلا فهي محبةٌ باطلةٌ. وهذا هو حقيقةُ الإلهيةِ؛ فإنَّ الإلهَ الحقَّ هو الذي يُحَبُّ لذاتِه ويُحْمَدُ لذاتِه. فكيفَ إذا انضافَ إلى ذلكَ إحسانُه وإنعامُه وحلمُه وتجاوزُه وعفوُه وبرُّه ورحمتُه؟

فعلى العبدِ أنْ يعلَمَ أنَّه لا إلهَ إلا اللهُ، فيحبُّه ويحمدُه لذاتِه وكمالِه، وأنْ يعلمَ أنَّه لا مُحْسِنَ على الحقيقةِ بأصنافِ النعمِ الظاهرةِ والباطنةِ إلا هو ، فيحبُّه لإحسانِه وإنعامِه، ويحمَدُه على ذلكَ؛ فيحبُّه من الوجهينِ جميعًا. 

وكما أنَّه ليسَ كمثلِه شيءٌ، فليسَ كمحبَّتِه محبةٌ. والمحبَّةُ معَ الخضوعِ هي العبوديةُ التي خُلِقَ الخلقُ لأجلِها؛ فإنَّها غايةُ الحبِّ بغايةِ الذُّلِّ، ولا يصلحُ ذلكَ إلَّا له سبحانَه. والإشراكُ به في هذا، هو الشركُ الذي لا يَغْفِرُه اللهُ، ولا يقبلُ لصاحِبِه عملًا. 

  وحمدُه يتضمَّنُ أصلينِ: الإخبارُ بمحامدِه وصفاتِ كمالِه، والمحبةُ له عليها. فمَنْ أخبرَ بمحاسنِ غيرِه من غيرِ محبةٍ له لم يَكُنْ حامدًا. ومن أحبَّه من غير إخبارٍ بمحاسنِه لم يَكُنْ حامدًا حتى يجمَعَ الأمرينِ. 

وهو سبحانَه يحمدُ نفسَه بنفسِه، ويحمدُ نفسَه بما يُجْرِيهِ على ألسنةِ الحامدينَ له من ملائكتِه وأنبيائِه ورُسلِه وعبادِه المؤمنينَ؛ فهو الحامدُ لنفسِه بهذا وهذا؛ فإن حمدَهم له بمشيئتِه وإذنِه وتكوينِه؛ فإنَّه هو الذي جعلَ الحامدَ حامدًا، والمسلمَ مسلمًا، والمصلِّيَ مصليًا، والتائبَ تائبًا؛ فمنه ابتدأتِ النعمُ وإليه انتهَتْ، فابتدأَتْ بحمدِه وانتهَتْ إلى حمدِه. 

وهو الذي ألهمَ عبدَه التوبةَ، وفرحَ بها أعظمَ فرحٍ، وهي من فَضْلِه وجُودِه. وألهمَ عبدَه الطاعةَ، وأعانَه عليها، ثم أثابَه عليها، وهي من فَضْلِهِ وجودِه. 

وهو سبحانَه غنيٌّ عن كلِّ ما سواهُ بكلِّ وجهٍ، وما سواهُ فقيرٌ إليه بكلِّ وجهٍ، والعبدُ مفتقرٌ إليه لذاتِهِ في الأسبابِ والغاياتِ؛ فإنَّ ما لا يكونُ به لا يكونُ، وما لا يكونُ له لا يَنْفَعُ.


السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ معرفةُ جمالِ الله عز وجل

  • التعرف على الله في الرخاء

    فريق عمل الموقع

      ·  قال - صلى الله عليه وسلم - : ( تعرَّف إلى الله في الرَّخاء ، يعرفكَ في الشِّدَّةِ

    17/08/2012 11623
  • بعض ما يريد الله منّا ؟

    فريق عمل الموقع

      قال الله تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ

    20/08/2012 17174
  • ضرورة في القلوب

    عماد الصامت

    ضرورة في القلوب لقد تظاهرت الآيات القرآنية، وتواترت الأحاديث النبوية، وشهدت الفِطَر المستقيمة، واتفقت كلمة

    12/11/2013 2933
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day