أسباب التأثر السلبي بالشبهات الفكرية المعاصرة
يميل كثير من الناس عند تحليله لمشكلة أو ظاهرة اجتماعية الى اختزال أسبابها، والحكم عليها بناء على ما يمليه طرف الذهن وحديث المجالس، وحين يطرح سؤال: لماذا يلحد بعض شبابنا؟ أو ينكرون السنة؟
تجد البعض يختصر أسباب المشكلة في سبب واحد أو اثنين، وهذا غير صحيح، فهي مشكلة معقدة مبنية على مجموعة من الأسباب متداخلة فيما بينها، ولذا؛ فقد حاولت جمع ما استبان لي – بعد التأمل – من الأسباب لهذه المشكلة، ثم ضممت النظير الى نظيره منها، وصنفتُها تحت أنواع من المؤثرات يندرج تحت كل نوع عدد من الأسباب:
النوع الأول: مؤثرات خارجية، وسأذكر منها خمسة مؤثرات:
1. شبكات التواصل الاجتماعي:
لا يخفى على أحد ما في شبكات التواصل من جوانب الخير والمعرفة والتكافل، غير أنها في الوقت ذاته تعد أكبر عامل في تسريع تداول الشبهات والإشكالات، وساهمت في بناء الجسور بين مصادر الإشكالات القديمة وبين الشريحة القابلة للتأثر، كما أنها يسرت لأصحاب الشبهات بث شبهاتهم دون إجراءات وتعقيدات، ومنحت لطالبي الشهرة فرصة لأن يبحثوا عنها في المخالفة والشذوذ، على قاعدة (خالف تعرف)، وكونها توصل الشبهات الى المتابعين دون استئذان فهذا مكمن آخر لخطرها.
2. الأفلام والروايات:
قل أن تجد في الاعلام المرئي أو الكتب المقروءة ما يتمتع بجاذبية كبيرة للشباب من الجنسين مثل الأفلام والروايات، مما يوسع من الشريحة المتأثرة بها، وتكمن إشكالية كثير منها في التأثير غير المباشر، وذلك عن طريق نقل الثقافة الأجنبية بما فيها من صواب وخطأ، وخير وشر، دون تمييز لما يتعارض منها مع قيم الإسلام.
3. التواصل والاحتكاك المباشر بالثقافات الأجنبية عن طريق الدراسة ونحوها:
والإشكال الأبرز هنا أن الشاب المسلم يجلس على مقعد التعلم والتلقي من معلمين غير مسلمين، وفيهم من هو مهتم بنشر بعض الأفكار الإلحادية، وقد تأثر بعض الطلاب بذلك حتى من أصحاب الدراسات العليا، ولو كان الشاب قبل ذهابه الى الدراسة هناك على مستوى عال من الإيمان واليقين، وكان يملك قدرا لا بأس به من التأصيل الشرعي والأدوات المعرفية التي يقيم بها المعلومات الجديدة و يخضعها للنقد العلمي، لكان الأمر أهون من ذهابه وهو عري عن ذلك كله.
4. انتشار الشهوات المحرمة:
نحن نعيش مرحلة استثنائية مخيفة في انفجار وسائل الإغراء الجنسي، فهل هناك علاقة بين انتشار الشهوات المحرمة وبين قابلية التأثر بالشبهات؟
الإشكال في طبيعة الشهوات المعاصرة أنها متشعبة ومتسلسلة، ويدعو أولها الى آخرها، ويمكن أن تستقطب كل اهتمام الشاب وعواطفه وتفكيره اليها، وهذا كله قد يؤدي ببعض المتعلقين بها إلى أن يستثقلوا التكاليف الشرعية، ثم إلى أن يبحثوا عن قطع ما ينغص عليهم كمال الاستمتاع بهذه الشهوات وهو تأنيب الضمير من ممارسة الحرام، ومن طرق ذلك الخروج من الدين أو إنكار الجزاء والحساب.
هناك وجه آخر: ألا وهو أن الاكثار من الذنوب، وعدم التوبة منها يؤدي الى تكون (الران) الذي إذا تكاثر على القلب حجبه عن البصر بالحق. كما قال الله سبحانه:
{كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ }
[المطففين: 14 ]
واذا كثرت الحواجب على القلب فإن نور الايمان يخفت، فيصبح قابلا للتأثر بأدنى شبهة أو تشكيل.
5. النقد المادي للعالم الغربي وتأثير الثقافة الغربية:
الكاتبة الألمانية الشهيرة زيجريد هونكه صاحبة كتاب ((شمس الله تشرق على الغرب)) الذي صدر عام 1960 ميلادي، كتبت أيضا: (الله ليس كذلك) وهو كتاب تدافع فيه عن المسلمين والحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، وقد نقلت فيه نصا طريفا ومهما في الوقت ذاته، يتحدث عن موقف مشابه تماما لما يعيشه كثير من المسلمين من الانبهار بالحضارة الغربية اليوم، ولكن بصورة عكسية، المتحدث هو أسقف قرطبة (ألقاروا) وقت تفوق الحضارة الإسلامية، وقد راح يجأر بشكواه بكلمات مؤثرة تصور بلواه – على حد تعبير المؤلفة، فقال: ((إن كثيرين من أبناء ديني يقرؤون أساطير العرب ويتدارسون كتابات المسلمين من الفلاسفة وعلماء الدين، ليس ليدحضوا وإنما ليتفقوا اللغة العربية، ويحسنون التوسل بها حسب التعبير القويم والذوق السليم، وأين يقع اليوم على النصراني من غير المتخصصين الذي يقرأ التفاسير اللاتينية للانجيل؟ بل من ذا يدرس منهم حتى الأناجيل الأربعة، والأنبياء ورسائل الرسل ؟
واحسرتاه ! أن الشبان النصارى جميعهم اليوم، الذين لمعوا وبذلوا أقرانهم بمواهبهم لا يعرفون سوى لغة العرب والأدب العربي، أنهم يتعمقون دراسة المراجع العربية باذلين في قراءتها ودراستها كل ما وسعهم من طاقة، منفقين المبالغ في اقتناء الكتب العربية، و يذيعون جهرا في كل مكان أن ذلك الأدب العربي جدير بالاكبار والإعجاب ! ولئن حاول أحد اقناعهم بالاحتجاج بكتب النصارى فإنهم يردون باستخفاف ، ذاكرين أن تلك الكتب لا تحظى باهتمامهم !
إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وان عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: {كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
وا مصيبتاه ! ان النصارى قد نسوا حتى لغتهم الأم، فلا تكاد تجد اليوم واحدا في الألف يستطيع أن يدبج رسالة بسيطة باللاتينية السليمة، بينما العكس من ذلك لا تستطيع احصاء عدد من يحسن منهم العربية تعبيرا وكتابة وتعبيرا، بل إن منهم من يقرضون الشعر بالعربية، حتى لقد حذفوا وبذلوا في ذلك العرب أنفسهم ) انتهى.
لقد سبق أن ذكرت في المؤثر الثاني: أن الأفلام والروايات من وسائل تمرير القيم الغربية بطريقة غير مباشرة الى مجتمعنا، وليس هذا مؤثرا قويا وحده ما لم يكن مصحوبا بانهزام حضاري داخل نفس المسلم.
لقد أطلق ابن خلدون في مقدمته قاعدة بلغت شهرتها الآفاق، ألا وهي تأثير الغالب على المغلوب، فقال " ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل في سائر أحواله. ....... حتى انه إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير" انتهى باختصار.
ومن الكتابات اللطيفة في هذا الباب كتاب ((ينبوع الغواية الفكرية)) لعبد الله العجيري، وقد قرر في مقدمة الكتاب أن كثيرا من الانحرافات الفكرية في هذا الزمان عائدة الى مركب من أمرين:
(هيمنة النموذج الثقافي الأجنبي مع ضعف التسليم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ).
ومع أهمية تفكيك المفاهيم الليبرالية وبيان ما فيها من إشكاليات وانحرافات وعدم توائم مع كثير من القيم الشرعية، فستظل هذه الجهود محدودة الأثر نتيجة استقواء هذه المفاهيم بالحضارة الغربية الطاغية انتهى باختصار.
وسيأتي بإذن الله في القواعد الوقائية أن اعادة الأولويات الكبرى في النظر الانساني من الأمور المهمة في إبطال تأثير هذا السبب. ومن الكتابات المثرية أيضا في الموضوع، كتاب ((سُلطة الثقافة الغالبة)) لإبراهيم السكران.