الدر الثمين في فقه اسم الله المبين
الحمد لله الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، الذي له ملك السموات والأرض وخلق كل شيء فقدره تقديرا، خلق الإنسان من نطفة أمشاج يبتليه فجعله سميعا بصيرا، ثم هداه السبيل إما شاكرا وإما كفورا، فمن شكر كان جزاؤه جنة وحريرا ونعيما وملكا كبيرا، ومن كفر لم يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا، نحمده تبارك وتعالى حمدا كثيرا ونعوذ بنور وجهه الكريم من يَومٍ كان شره مستطيرا، ونسأله أن يلقينا يوم الحشر نضرة وسرورا، وأن يظلنا بظل عرشه حيث لا نرى شمسا ولا زمهريرا.
وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تجعل الظلمة نورا، وتحول موات القلب بعثا ونشورا, وتحيل ضيق الصدر انشراحا وحبورا، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده المرسل مبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، قام الليل حتى تورمت قدماه وقال أفلا أكون عبدا شكورا، وأكل ورق الشجر حتى تشققت شفتاه وكان لله محتسبا صبورا، و جاهد الشرك والمشركين وما لانت له قناة وقال مقالة الحق وما نطق زورا، فاز بالحسنى من آمن وشاهد محياه وكل طائع له بات مأجورا، وضل من شذ عن طريقه وعصاه ومن كفر به مات مثبورا .
أما بعد عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي الوصية المبثوثة، والدرة الموروثة, وصّى بها رب البرايا، وحثّ عليها كل نبي، ودعا إليها كل رسول، وصلح بأمرها حال الفائزين، وهلك بضياعها كل الخاسرين.
عباد الله: إن من أعظم نعم الله عز وجل على الإنسان أنه سبحانه وتعالى قد اختصه من دون خلقه بالبيان والإفصاح، فإنّ صِفَة البيان من امْتِنان الله عز وجل على الإنسان، ومن أَخَصِّ خصائص الإنسان؛ والبيان هو القُدْرة عن التعبير، التعبير عن الأفكار وعن التصَوُّرات والمشاعر وعن العواطِف، وكلُّ ما يَعْتلج في نفْس الإنسان من مشاعر وعواطِف وخواطِر يمكِن أنْ يُعَبِّر عنها, فالبيان من أخصِّ خصائص الإنسان, فَيُمْكِن أنْ يُعَبِّر عنها بِلِسانِه, ويُمْكن أنْ يُعَبِّر عنها بِقَلَمِهِ, ويُمْكن أنْ يُصْغي إليها بِأُذُنِهِ, ويُمكن أنْ يفْهَمَها بِعقله, قال تعالى ممتنّا على بني البشر: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [ الرحمن 1ـ4]، فالبيان هو الإفْصاح والتعبير والكشف والإبانة والتوضيح وورد في الأثر أنَّ البيان يطرد الشيطان.
والله عز وجل الموصوف بصفات الكمال لم ينعم على عباده بصفة من صفات الكمال والقوة إلا اختص نفسه عز وجل بكمال الصفة واشتق منها لنفسه عز وجل اسما يوافق هذه الصفة الكاملة، وعلى هذه القاعدة المتعلقة بإرادة الله ومشيئته، فإن من أسمائه عز وجل: المبين ؛ والمبين هو الموصوف بالإبانة، وبيان الشيء ظهوره ووضوحه، والإبانة: الإظهار والإيضاح، وسمي الكلام بياناً لكشفه عن المقصود وإظهاره نحو: (هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ) [آل عمران:138].
والمبين كاسم من أسماء الله عز وجل له عدة معاني منها : أنه عز وجل المنفرد بوصفه المغاير لخلقه في الصفات والأسماء والأفعال, ومنها أنه سبحانه المبين لعباده سبيل الرشاد الموضح لهم الأعمال الصالحة التي ينالون بها الثواب العظيم, والأعمال السيئة التي ينالون عليها العقاب, قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)[التوبة: 115], أي ما كان الله ليصرف الهداية عن قوم ويكتب لهم الضلال أو يتركهم ضالين, جاهلين بأمور دينهم, إلا بعد أن يبين لهم ما يجب اتقاؤه من الأقوال والأفعال، ومن معاني اسمه "المبين" -كذلك - أنه سبحانه البَيِّنُ أمرُه في الوحدانية, فهو الإله الحقّ المُبِين لا شريك له، قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [الحج: 62], فهو الواحد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وله الأسماء الحسنى والصفات العلا، وله الجلال والجمال والكمال.
ورد اسم الله المبين في القرآن في قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور: 25], ولم يُذكر اسم الله المبين في القرآن الكريم سوى في هذا الموضع، إلا أن هذا اللفظ ورد وصفاً وصف الله به أموراً في نصوص كثيرة, ومن ذلك:
اللوح المحفوظ الذي حوى ما كان وما هو كائن وما سيكون, وقد وصفه الله تعالى بالمبين، فيما شمل وحوى من علم الله الواسع بقوله: (وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 59]. ووصف الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن أمر دعوته ومهمته ووظيفته, كل ذلك أمر مبين ظاهر البيان, لا يلتبس على من تفكّر في أمره قليلا: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الأعراف: 184], وزكى الله القرآن بقوله تعالى: (الر * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) [الحجر: 1], وما جاء به عليه الصلاة والسلام من الشرع الحكيم, والمنهاج القويم وصفه بقوله تعالى: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل: 79], وعن الجزاء الجميل والثواب الجزيل, وما يكافئ المولى المبين عباده الطائعين يوم القيامة، قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) [الجاثية: 30]، والقرآن الكريم مليء بالوصف بالمبين لكثير من الأشياء التي لا يتسع المقام لإيرادها, ولكن يكفي أن ندرك أن شريعة الإسلام، بل كل الشرائع السماويّة, وما يتعلق بدعوة الرسل ورسالاتهم إلى أممهم كل ذلك يوصف بالمبين، لأنه بيّن لا لبس فيه ولا خلط ولاشطط.
وقد بين الله لعباده آياته بكل أنواع البيان، وأقام حجته على خلقه بأنواع البرهان، قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) [الحج: 5]
(هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 138]
أي ما ذكرناه لكم من وعد ووعيد، وأوامر ونواهي، ومن أحوال المكذبين، فيه دلالة ظاهرة، أنها تبين للناس الحق من الباطل، وتحدد أهل السعادة من أهل الشقاوة, بيان يكشف لهم الحقائق ويرفع عنهم الالتباس, يهديهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم, لأنهم هم المنتفعون بالآيات فتهديهم إلى سبيل الرشاد، وتعظهم وتزجرهم عن طريق الغي، وأما باقي الناس فهي بيان لهم، تقوم به عليهم الحجة من الله، ليهلك من هلك عن بينة, مع أن الإشارة في قوله: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ) تحتمل أن تعود على القرآن العظيم، والذكر الحكيم، وأنه بيان للناس عموما، وهدى وموعظة للمتقين.
أيها المسلمون: وبجولة في كتاب الله، نجد أن اسم الله المبين له معاني كثيرة ودلالات هامة تعتبر بمثابة مجالات التبيين منه عز وجل لعباده، لأنه سبحانه وتعالى ما خلق عباده وتركهم هملا دون إرشاد وهداية وبيان، ومن هذه المعاني والمجالات:
أولا : أنه سبحانه المبيّن لعباده سبيل الرشاد، وأوضح لهم الأعمال الموجبة لثوابه، والأعمال الموجبة لعقابه، والمبين لهم ما يأتونه وما يذرونه، وما يحبه وما يكرهه، وما يرضاه وما يسخطه من الأقوال والأعمال:
(يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النساء: 26]
أي يريد ربكم من خلال رسله وكتبه أن يوضح لكم ما يجب عليكم من الحلال والحق وما يحرم عليكم من الحرام والباطل.
ثانيا : المبين عز وجل هو الذي أبان لكل مخلوق علة وجوده وغايته، ولم يتركه حيراناً من غير تبيين لا يستند إلى منهج قويم يتبعه ولا طريق مستقيم يسير عليه, بل أوضح له المهمة وحدد له الهدف, وشرح له الوظيفة، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : 56], وأبان لهم بالأدلة القاطعة والحجج الداحضة, والبراهين الواضحة على وحدانيته، وأبان لهم دينهم بأحكام شريعته.
ثالثا : والمُبِيْنُ يَعْنِي أنَّ أُلُوهِيتَهُ ظَاهِرَةٌ لا شَكَّ فِيْهِ، فكُلُّ شَيء يَدلُّ عَلَى وُجُودِهِ، من فلك أو مجرة أو حيوان أو إنسان أو طير أو جماد، كل ذلك يدل على وجود الله تعالى، فتبين من خلال ذلك أن الله ظاهر, وَإِنْ كُنَّا لا نَرَاهُ بِأَعْيُنِنَا، أو كَانَ لا يُحَسُّ وَلا يُمَسُّ وَلا يُجَسُّ لَكٍنَّهُ ظَاهِرٌ وكُلَّ شَيء في العَالَمِ يَشْهَدُ بِوُجُودِهِ مَعْنًى ولزوماً، قال تعالى:
(وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت: 37]
رابعا : ومن صور تبيين الله لشرائعه أن أرسل لكل أمّة رسولا يتحدّث بلسانها, ليحصل لهم البيان, قال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم: 4], يقول السعدي: " ما يحتاجون إليه، ويتمكنون من تعلم ما أتى به، بخلاف ما لو كانوا على غير لسانهم، فإنهم يحتاجون إلى أن يتعلموا تلك اللغة التي يتكلم بها الرسول أولاً، وبعدها يحاولون فهم ما يريده منهم، فإذا حصل البيان لما أمروا به، وما نهوا عنه، وقد يحصل أثر التبيين بمعرفة الاهتداء، وقد لا يحصل أثره بسبب ضلال المبين لهم، والمهم أن حجة الله المبين قامت عليهم".
خامسا : وهو سبحانه الحق المبين، الذي بيّن بمنه وكرمه سبيل المؤمنين، ورغّب الناس في سلوكها، وبيَّن سبيل المجرمين، وحذر الناس منها، وأرسل بذلك الرسل، وأنزل الكتب, كما قال سبحانه:
(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل: 89]
بياناً للناس لما بهم إليه من الحاجة من معرفة أصول الدين وفروعه، والحلال والحرام والثواب والعقاب, وكل ما يحتاج إليه العباد من أحكام الدارين، فهو مبين فيه أتم تبيين، بألفاظ واضحة ومعان جلية، فلما كان هذا القرآن تبيانا لكل شيء صار حجة الله على العباد كلهم فانقطعت به حجة الظالمين وانقطع به العذر على العاصين.
سادسا : ثم إن الله بيّن كل ما تحتاجه البشرية من أحكام العبادات والمعاملات وأحكام المعاد والبعث والنشور وأحكام الحساب والجزاء والعقاب ووصف الجنة وأهلها ووصف النار وأهلها حتى يستقر أهل الجنة في النعيم وأهل النار في الجحيم, وبين ما لهم بعد القدوم عليه، من نعيم دائم في الجنة، لمن آمن به وعمل بشرعه، ومن عذاب أليم في النار، لمن كفر به وأعرض عن شرعه, فقال سبحانه:
(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ*وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) [الروم: 14-16]
(وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) [الإسراء: 12]
(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ) [النحل: 39]
كما بيّن النبي صلى الله عليه وسلّم الشرع أشد البيان وأوضحه, فعَنْ الْعِرْبَاض بْنَ سَارِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلا هَالِكٌ, وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ " [أحمد(17142)].
كما بين الحلال والحرام، ولم يجعل الأمر ملتبسا, فعَنْ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فقد اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وقع في الحرام" [البخاري(52)مسلم(1599)].
فسبحان الملك الحق المبين الذي بيَّن لعباده كل شيء, فبين لعباده توحيده وتفرده بالخلق والأمر والحكم ليعبدوه وحده, وبين لعباده أسماءه الحسنى، وصفاته العلا، ليدعوه بها، ويسألوه بموجبها, ويتعبدوا بها ويمتثلوها عملاً واتصافاً, وبين لهم صفات عظمته وجلاله وكبريائه ليعظموه ويكبروه, وبين لهم صفات جماله وحسنه ليحمدوه ويشكروه، وبين لهم صفات أفعاله وحسنها واللطف فيها ليحبوه ويثنوا عليه, وبين لهم طريق العبودية المستقيم، الذي يحببهم إليه، ويوصلهم إليه قال سبحانه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153].
أيها المسلمون: إن التدبر والعمل باسم الله المبين يفرض على العبد أن يلتزم طريق الوضوح والبيان والصدق طوال حياته، وفي كل تصرفاته وأخلاقياته وسلوكياته، وعلى العبد المؤمن أن يعرف طريق العبودية لله عز وجل باسمه المبين، فيتحلّى بالبيان ويسعى في تبيين الحقائق، وإظهار الحقّ ولو على نفسه, ولا يغيّر الحقائق، لأن النهى عن ذلك:
(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:42]
ويتجنب فعل أهل الكتاب, الذين غيّروا وبدّلوا بعد أن عرفوا, ثم نبذوا الحقّ ورائهم وكتموه, قال سبحانه:
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران: 187]
فليصدع بالحق ولا يخاف جائرا لجوره، ولا ذي سلطان لسلطانه وبطشه؛ لأن غير الله أيا كان بقاؤه بإبقاء الله وقدرته, ولا يكتم من دين الله سبحانه شيئاَ لأجل مصلحة دنيوية أو لقول قائل، وقد ورد أن والي البصْرة جاءَهُ كِتابٌ من يزيد بن عبد الملك الخليفة، يَأْمُرُه بشيءٍ لا يُرْضي الله عز وجل، وكان عنده الإمام العلَم الجهبذ الحسن البصْري, فوقع هذا الوالي في حَيْرة أَيُنَفِّذ أمْر يزيد ويُغْضِب الله عز وجل ؟ أم يرفُض أمْر يزيد فَيرضي الله ويُغْضِب يزيد ؟ ولعَلَّهُ يخْلَعُهُ من عمَلَهَ فاسْتشار الإمام الحسن البْصري قال هذا الإمام كلِمَةً تُكْتَبُ بماء الذهب قال: إنَّ الله يمْنَعُك من يزيد, ولكِنّ يزيدا لا يمْنعك من الله، وفي الحديث الصحيح: عنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عَلِمَهُ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ" [الترمذي(2649) صححه الألباني].
ومن العبودية باسم الله المبين أن يحرص العبد على دعاء ربه بهذا الاسم العظيم، خاصة إذا كان في حاجة ماسة لبركات وحقائق هذا الاسم، مثل أن يكون العبد مظلوما ولا يجد حجة لبراءته أو دليلا قاطعاً أو منصفا، فيذكر الاسم في دعائه ليتقرب به إلى ربه طلبا لحاجته, كأن يقول: اللهم أنت الحق المبين فرّج كُربي وارفع الظلم عني، أو يكون العبد حائرا من أمره لا يدري أين الطريق، وما الصواب، وقد ورد الدعاء بالوصف الذي تضمنه الاسم في قول الله تعالى حكاية عن بني إسرائيل لما طلبوا من موسى أن يبيّن لهم في شأن البقرة:
(قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) [البقرة:68]
وقد كان من دعاء ابن الجوزي رحمه الله: " لا اله إلا الله توحيدا يباين عقائد المشركين، لا اله إلا الله تنزيها يناقض دعاوى المبطلين، لا اله إلا الله إقرارا بما أنكرته عقول الجاحدين، لا اله إلا الله إيقانا لا يشوبه تردد الشاكين، لا اله إلا الله الملك الحق المبين".
ألا صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه, فقال: ( إن الله وملائكته يصلون على النبي), اللهمّ صلّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم يا حنان يا منان يا ذا اللطف والجود والكرم والإحسان يا حي يا قيوم نسألك برحمتك أن تغفر لنا في ليلتنا هذه أجمعين. اللهم اغفر لنا في ليلتنا هذه أجمعين، وهب المسيئين منا للمحسنين.
اللهم إنا نقف ببابك في هذه الليلة الشريفة المباركة، اللهم إنا نقف ببابك خاشعين خاضعين متذللين، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، نعترف يا مولانا بتقصيرنا، نعترف بذنوبنا، نعترف بخطايانا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا. اللهم اغفر لنا خطايانا. اللهم تجاوز عن سيئاتنا. اللهم تجاوز عن زلاتنا، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عنا.
اللهم يا كريم! اللهم يا رحيم! اللهم يا عظيم! اعتق رقابنا من النار. اللهم اعتق رقابنا من النار. اللهم اجعلنا في هذا الشهر الكريم من عتقائك من النار. اللهم اجعلنا في هذا الشهر الكريم من الفائزين، ولا تجعلنا من الخائبين، ولا تجعلنا من الخاسرين، إلهنا، نلتجئ إليك يا رب، اللهم إليك نلتجئ، وبك نعتصم، يا مولانا! يا ربنا! يا خالقنا! لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، إن طردتنا يا ربنا فمن الذي يؤوينا؟! وإن أبعدتنا فمن الذي يقربنا؟! إلهنا أنت القائل: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) [الأعراف:156] ، نسألك أن تتغمدنا برحمتك. اللهم تغمدنا برحمتك، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، ويا رب العالمين.