الشبَهات حول اسم الله (الحكيم)
الشبهة الأولى:
يقول القائل: لو كانت أفعال الله معلقة بالحِكَم فلماذا هناك مشاهد تخلو عن الحِكَم، كإيلام الأطفال وخلق الشرور والكفر؟
الرد عليها:
عدم العلم بالحكمة لا يعني عدم وجودها.
الشبهة الثانية:
رجل خفيت عليه الحكمة في حكم من أحكام الله تعالى فظن في نفسه أنه أعلم من الله تعالى وأحكم.
الرد عليها:
إن الله تعالى جلت حكمته قد يبتلي عبده بأن يعمي عليه وجه الحكمة في أمر ، أو حكم من أحكامه سبحانه ، حتى يختبر إيمان عبده ، أيستسلم لحكم ربه، أم يعترض على الله تعالى ويستكبر؟
وإن العاقل المؤمن حقا : من استسلم لحكم ربه ، وإن خفي عليه وجه الحكمة فيه .
ثم بعد ذلك يدعو ربه ، ويتضرع له أن يهديه ، ويعلمه ما خفي عليه .
ولعلمه سبحانه : بأن العباد قاصرون عن أن يحيطوا علما بحكمته، وقدرته، وتدبيره لأمر خلقه: قطع سبحانه أطماعهم عن منازعته في سلطانه ، أو مساءلته في شانه ، فإن الرب هو الذي يسأل عباده ، ويحاكمهم ، وأما : العبيد ؛ فهم : عبيد !!
قال تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) القصص /68-70
إن الإيمان بالله تعالى ليس مجرد اعتقاد بوجوده جل وعلا , وإنما هو اعتقاد ذلك ، ومعه ـ بنفس القدر من الأهمية ـ : الاعتقاد باتصافه سبحانه بصفات الكمال ونعوت الجلال ، واستحقاقه لما لا تحيط به العقول من العظمة وعلو الشان , وهذا هو ما عبر عنه القرآن الكريم بالمثل الأعلى , قال سبحانه : ( لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [النحل: 60] , وقال جل شأنه : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [الروم: 27].
وللعلامة شمس الدين ابن القيم كلام بديع في تفسير هذا المثل الأعلى وتفهيمه للناس فقد قال رحمه الله تعالى في " الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة" (2 / 430):
" وإذا شئت زيادة تعريف بهذا المثل الأعلى ، فقدِّر قوى جميع المخلوقات ، اجتمعت لواحد منهم ، ثم كان جميعهم على قوة ذلك الواحد ؛ فإذا نسبت قوته إلى قوة الرب تبارك وتعالى ، لم تجد لها نسبة وإياها ألبتة ، كما لا تجد نسبة بين قوة البعوضة وقوة الأسد .
فإذا قدرت علوم الخلائق اجتمعت لرجل واحد ، ثم قدرت جميعهم بهذه المثابة ، كانت علومهم بالنسبة إلى علمه تعالى ، كنقرة عصفور من بحر .
وإذا قدرت حكمة جميع المخلوقين على هذا التقدير ، لم يكن لها نسبة إلى حكمته .
وكذلك إذا قدرت كل جمال في الوجود ، اجتمع لشخص واحد ، ثم كان الخلق كلهم بذلك الجمال: كان نسبته إلى جمال الرب تعالى وجلاله ، دون نسبة السراج الضعيف إلى جِرْم الشمس . وقد نبهنا الله سبحانه على هذا المعنى بقوله: ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [لقمان27] ؛ فقدِّر البحر المحيط بالعالم مدادا ، ووراءه سبعة أبحر تحيط به ، كلها مداد تكتب به كلمات الله ؛ نفدت البحار ، وفنيت الأقلام التي لو قدرت جميع أشجار الأرض من حين خلقت إلى آخر الدنيا ؛ ولم تنفد كلمات الله" انتهى.
إذا فهمت هذا يا عبد الله ؛ فلتعلم أن أحكام الله تعالى كلها صادرة عن علم وعدل وحكمة ولطف , قال تعالى : ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنعام: 115] , وقال تعالى حكاية عن عبده ونبيه هود : ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [هود: 56] .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في " مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1 / 44): " وأما آية هود: فصريحة لا تحتمل إلا معنى واحدا، وهو أن الله سبحانه على صراط مستقيم، وهو سبحانه أحق من كان على صراط مستقيم، فإن أقواله كلها صدق ورشد ، وهدى وعدل وحكمة ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) [الأنعام: 115] وأفعاله كلها مصالح وحكم، ورحمة وعدل وخير، فالشر لا يدخل في أفعال من هو على الصراط المستقيم، أو أقواله، وإنما يدخل في أفعال من خرج عنه، وفي أقواله" انتهى.
وقد أخبر سبحانه أن حكمه هو الحق والعدل ، وحكم غيره هو من الجاهلية .
وتنبه – أيها السائل- إلى ما تحتويه كلمة الجاهلية من الجهل والظلم والظلمات والجور والضلال, قال تعالى : ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) [المائدة: 50] .
قال العلامة ابن القيم في "الصواعق المرسلة" (3 / 1046): " أخبر سبحانه أن كل حكم خالف حكمه الذي أنزله على رسوله فهو من أحكام الهوى لا من أحكام العقل ، وهو من أحكام الجاهلية لا من حكم العلم والهدى فقال تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة50 , 49] .
فأخبر سبحانه وتعالى أنه ليس وراء ما أنزله ، إلا اتباع الهوى الذي يضل عن سبيله ، وليس وراء حكمه ، إلا حكم الجاهلية .
وكل هذه الآراء والمعقولات المخالفة لما جاء به الرسول ، هي من قضايا الهوى ، وأحكام الجاهلية ، وإن سماها أربابها بالقواطع العقلية والبراهين اليقينية ، كتسمية المشركين أوثانهم وأصنامهم آلهة ، وتسمية المنافقين السعي في الأرض بالفساد ، وصد القلوب عن الإيمان ، إصلاحا وإحسانا وتوفيقا" انتهى.
وما ذكرنا هنا ، وما يذكره الذاكرون ، ويصفه الواصفون ، ويتكلم به المتكلمون : إنما هو نقرة طائر من بحر عظيم ، وذرة في جبال وجبال من الرمال ، في جنب عظمه الله جل جلاله ، وعلمه ، وحكمته ، وخبره ...
أفبعد هذا كله تظن أيها السائل ، أيها العبد الصغير الحقير ، المخلوق الضعيف ، الضئيل الذليل : أنك قد تعلم فوق ما يعلمه الله تعالى ، وقد تدرك بعقلك القاصر الضعيف مالا يدركه علم علام الغيوب جل جلاله ؟!
جل الله في علاه ، سبحانه ما أعظم شانه ، سبحانه ، ما أعظمه ، وما أحلمه ؟!
لقد جئت شيئا إدّا ؛ تكاد السموات يتفطرن منه ، وتنشق الأرض ، وتخر الجبال هدا ؛ أن تجعل نفسك الضعيفة الحقيرة لرب العالمين : نِدّا !!
وأن تجعل عقلك العاجز ، ورأيك القاصر ، وجهلك بما هناك : عيارا ، وميزانا لكون رب العالمين ، وما يدبره فيه من أمره وخلقه ، سبحانه .. سبحانه ، وجل شانه ، وعز سلطانه .
أين يُذهب بك يا هذا ؟ وأي واد من أودية الغواية والضلال : أوردك الشيطان اللعين ؟!
اسمع لمقال العقلاء، والفلاسفة الحكماء ، إذ يقولون :
العلم للرحمن جل جلاله * وسواه في جَهَلاته يتغمغمُ
ماللتراب وللعلوم وإنما * يسعى ليعلم أنه لايعـلــمُ
استمع إلى هذا الفيلسوف الكبير ، أبا الوليد ابن رشد (ت: 595هـ) يقول :
"أصدق ما قال القوم [ يعني : الفلاسفة ] : أن للعقول حدا تقف عنده ، ولا تتعداه " !!
نص على ذلك في كتابه " تهافت التهافت" (2/534) .
إن الله جلت حكمته قد يبتلي عبده بأن يعمي عليه وجه الحكمة في أمر ، أو حكم من أحكامه سبحانه ، حتى يختبر إيمان عبده ، أيستسلم لحكم ربه، أم يعترض على الله تعالى ويستكبر؟
وإن العاقل المؤمن حقا : من استسلم لحكم ربه ، وإن خفي عليه وجه الحكمة فيه .
ثم بعد ذلك يدعو ربه ، ويتضرع له أن يهديه ، ويعلمه ما خفي عليه .
ولعلمه سبحانه : بأن العباد قاصرون عن أن يحيطوا علما بحكمته، وقدرته، وتدبيره لأمر خلقه: قطع سبحانه أطماعهم عن منازعته في سلطانه ، أو مساءلته في شانه ، فإن الرب هو الذي يسأل عباده ، ويحاكمهم ، وأما : العبيد ؛ فهم : عبيد !!
قال تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) القصص /68-70
وقال تعالى أيضا : ( وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ) الأنبياء/19-24
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وهو لا يسأل عما يفعل، لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرد قهره وقدرته." انتهى، من "مجموع الفتاوى" (8/511) .
إن الله جل جلاله ، لم يجعلك شريكا له في خلقه ، بل تفرد بالخلق ، ولم يكن هناك من يشاهد ذلك ، ولا يرقبه ، ولا يعلمه ، فضلا عن أن يكون معينا فيه أو مشاركا : (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ) الكهف (51) .
فكيف في أمر خفي عنك كنهه ، وغاب عنك خلقه وبدء أمره ، وجهلت أصله ، وفصله ؛ ثم أنت تنازع رب العالمين في علمه به ، وهو العالم بخلقه سبحانه : ( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) الملك/14
لقد جهلت ، يا هذا ، قدرك ، وتعديت طورك ، وظلمت - والله - نفسك ، وغششتها ، وما نصحتها ، وأوردتها الموارد ، وأشرفت بها على المهالك .
إن واحدا من أكبر أسباب زللك ، وضلالك ، يا عبد الله : أنك لم تفرق بين " مُحالات العقول" و" مَحارات العقول " ؟!
إن ما يخفى فيه وجه الحكمة ، أو يعجز العقل عن الإحاطة به ، هو من : " محارات العقول" ، يعني : ما تحار العقول فيه ؛ والدين قد يأتي بأمر تحار فيه العقول والألباب ، ابتلاء ، وامتحانا من الله لعباده .
لكنه لم يأت- قط - بأمر تُحيله العقول ، وتجتمع على بطلانه ، وعدم صوابه ؛ فهذا تنزه الله عنه في شرعه ، وتنزه عنه في خلقه ، وأمره كله ، سبحانه ؛ والغلط في ذلك الأمر ، سبب ضلال كثير من الخلق ، والناظرين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" ولا ريب أن الرسل صلوات الله عليهم يخبرون الخلق بما تعجز عقولهم عن معرفته، ولا يخبرونهم بما يعلمون امتناعه، فهم يخبرونهم بمَحارات العقول ، لا بمُحالاتها، فمن أراد أن يعرف ما أخبرت به الرسل بعقله، كان شبيهاً بمن قال الله تعالى فيه: (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته) ، وقال: (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة) انتهى .
"درء تعارض العقل والنقل" (7/327) .
وقال أيضا :
" ولا يجوز أن يخبر الرسل بشيء يُعلم بالعقل الصريح امتناعه ، بل لا يجوز أن يخبروا بما لا يعلم بالعقل ثبوته !!
فيخبرون بمَحارات العقول ، لا بمُحالات العقول .
ويجوز أن يكون في بعض ما يخبرون به ، ما يعجز عقل بعض الناس عن فهمه وتصوره ؛ فإن العقول متفاوتة ، وفي عظمة الرب تعالى وملكوته وآياته ومخلوقاته ، ما لا يستطيع الناس ، أو كثير منهم، أن يروه في الدنيا ، أو يسمعوا صوته ، أو يتصوروه .
ويكفيك أن موسى عليه السلام ، مع عظم قدره ، لما تجلى ربه للجبل: جعله دكّا ، وخر موسى صعقاً ، فلما أفاق قال : ( سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) [الأعراف 143] .
ولكنْ كثير من الناس يظن بعقله أشياء ممتنعة ، ولا تكون ممتنعة ، كما يظن أشياء جائزة أو واجبة ، ولا تكون كذلك " . انتهى، من "بيان تلبيس الجهمية" (8/534) .
إن أول قدم يخطوها العبد على طريق الإسلام لرب العالمين : أن يستسلم لله بكليته ؛ يستسلم لربوبيته ، فلا ينازعه في ملكه وسلطانه ، وأفعاله .
ويستسلم له في ألوهيته ، فينقاد لحكمه ، ويذعن لأمره ونهيه .
وهيهات أن يثبت لعبد من الإسلام شيء ، دون أن يستسلم في الأمر كله ، جليله وحقيره ، لرب العالمين ، ويرضى بشرعه ودينه ، على ما وافق هواه أو خالفه .
قال الله تعالى : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) النساء/65
إن الله لم يجعل لك الخِيَرة في شيء من دينه ، تؤمن ببعض ، إذا وافق عقلك أو هواك ، وتخترع لنفسك قانونا ، أو شرعا ، أو دينا ، إذا لم يعجبك شيء من ذلك ؛ فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك:
قال الله تعالى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) النور/47-52
وقال تعالى : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ) . الأحزاب/36
يقول الطحاوي رحمه الله تعالى : " وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التسليم والاستسلام ؛ فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ : حَجَبَهُ مَرَامُهُ عَنْ خالص التوحيد ، وصافي المعرفة ، وصحيح الإيمان ؛ فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ ، وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ ، وَالْإِقْرَارِ والإنكار ، موسوسا ، تائها ، شاكا ؛ لا مؤمنا مصدقا ، ولا جاحدا مكذبا" انتهى من في متن الطحاوية بتعليق الألباني (1 / 43) .
إن كراهة شيء مما أنزل الله ، وعدم الرضى وشرح الصدر به : هي الفاقرة ، تكسر ظهر صاحبها ، وتذهب إيمانه ، وتحبط له عمله كله .
قال الله تعالى : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) محمد/7-9
إنك بحاجة ، حقا وصدقا ، يا عبد الله ، أن تجدد إيمانك ، وإسلامك ، واستسلامك لرب العالمين ، وتتعهد قلبك ، وتنقيه مما وقع فيه من الوساوس والشكوك ، وتخلص توبتك ، وتجدد إنابتك ، لرب العالمين ؛ ساعتها تعرف حقا ؛ ماذا يعني الإيمان ، وكيف يكون ؟!
عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا) .رواه مسلم .
وليس لك ما ينجيك من لهيب الشك ، وجَدْب الشبهة ، وألم التردد والحيرة ، أعظم من كتاب الله جل جلاله ، تقرؤه بقلبك ، قبل لسانك وعقلك ، وتدمن تلاوته ، والنظر فيه ، وتطلب الهدى منه ، والراحة فيه ، والطمأنينة به ؛ كما قال الله جل جلاله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) الرعد/27-28
واستمع لهذه النصيحة ، من أديب ، أريب، عاقل فيلسوف ، جرب كلام الحكماء ، وخبر أهل الفلسفة والكلام ، ثم دلك على سبيل النجاة :
" كتاب الله عز وجل، وهو المقنع والمفزع، وفيه الشفاء والبيان ، والهدى والنور، وإليه مرَدُّ كل مُشكِل ، وعليه مُعَرَّجُ كلِّ حيران :
مُجْمَله كافٍ للقلوب السليمة ، ومُفَصَّلُه شافٍ للصدور السقيمة !!
وظاهره : داعيك ـ بما أوضح لك ـ إلى تسليم ما بطن عنك .
وباطنه : مناجيك ـ بما أشار إليه ـ لتقف مع ما ظهر لك .
هذا ؛ إن عرفت فرق ما بين الإلهية والعبودية .
فأما : وأنت مُتَرجِّح بين الشبهة والبهتان ، وبين الحجة والرهان ، لا تميز جَدْب هذا ، من خِصب هذا، ولا تفرق بين حقيقة هذا ، من تمويه هذا =
فما أخوفَني على رُكْنك أن يَنْثَلِم ، وعلى وجهك أن يتَوَقَّح ، وعلى نفسك أن تمرض ، وعلى عاقبتك أن تكون خُسْراً !! " . انتهى .
"البصائر والذخائر" للتوحيدي (2/112-113) .