النوع الثالث من المؤثرات في انتشار الشبهات:


أحمد يوسف السيد

وجود جوانب من النقص في طريقة الدعوة والتوجيه والمعالجة الشرعية.

وتظهر جوانب النقص في صور، منها:

1. الفجوة بين (كثير ) من المتخصصين الشرعيين وبين عموم الشباب، وهذه الفجوة تؤدي الى نقص في تصور الواقع، وتؤدي الى عزلة شعورية بين الطرفين، والأشد من ذلك أنها تؤدي الى تعطيل دور القدوات الذي له شأن كبير في الجانب الإصلاحي.

ولك أن تستحضر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقربه من مختلف طبقات المجتمع، وأثر ذلك على الناس الذين يرون الخلق العظيم والحلم والصبر متمثلا في إنسان يمشي على الأرض، فكم لذلك من معنى حسن وقيمة ايجابية في النفوس.

2. قلة تنويع الأساليب الدعوية بما يتناسب مع مؤثرات الواقع ومستجداته. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص في خطابه على تنويع الأساليب لإيصال المعلومة الشرعية؛ تارة بالسؤال، وأخرى بالرسم، وثالثة بالخطبة البليغة وغير ذلك، مع أن معه صلى الله عليه وسلم من نور الوحي، وتأييد الله ما يغني عن كثير من الأساليب، فالاقتداء به في ذلك صلى الله عليه وسلم من الأمور المؤكدة، خاصة في هذا العصر الذي راجت فيه سوق الإعلام، وربا فيه سحر الصورة.

3. ومن جوانب النقص أيضا: ضيق مساحة الحوار المفتوح، الذي يشعر فيه الشباب بوجود وسيلة آمنة، متسعة الأفق؛ لا ستقبال أسئلتهم واستشكالاتهم.

وكم يسرح خيالي الى حالة حوارية أتمنى رؤيتها في الساحة الدعوية، وتتمثل في صورة ذلك المسرح الممتلىء بالحضور الشبابي، وعلى المنصة محاضر متمكن شرعيا وناضج فكريا ومتوسع معرفيا، يمتلك الأسلوب الاقناعي، والقدرة الحوارية العالية، ويكون المجال مفتوحا لمداخلات الشباب وأسئلتهم واستشكالاتهم بكل حرية وأريحية، فيحسن استقبالها، ويبهر الحضور في الجواب عنها، كما كان يفعل أحمد ديدات، وكما يفعله ذاكر نايك حاليا، فكم من رسالة ايجابية ستغرس في نفوس الحاضرين، وكم من أفكار ستُصحح، وإشكالات تزال، ونفوس تصفو، وقلوب تطمئن، ولا أدري هل سيتحقق هذا الحلم؟ وهل سيكون قريبا؟ وكم هم أولئك الدعاة القادرون على الوقوف في مقام كهذا؟ اللهم أصلح أحوالنا.

4. ضعف الخطاب الشرعي / العقلي المبرهن. وهذا من أكبر الأسباب. وسأزيد تفصيلا في الفقرة القادمة التي هي:

سمات الخطاب الديني المؤثر في الساحة الفكرية المعاصرة:

سأذكر خمس سمات ان توفرت في الخطاب الدعوي فسيكون له أثر كبير بإذن الله في الساحة الفكرية المعاصرة، وقد أطلت نوعا ما في تفصيل السمة الأولى – لأهميتها – وأرجو ألا يقطع التفصيل تسلسل السمات في ذهن القارىء؛ فليكن على استحضار لذلك:

السمة الأولى: الاهتمام بالخطاب العقلي:

هناك من يظن خلو الأدلة الشرعية (النقلية) من الدلائل العقلية، ومن ثم يهون من الدليل النقلي في مقابل الدليل العقلي، ويجعل اليقين إنما يتحصل بالدليل العقلي لا بالدليل النقلي، وهذا كله غير صحيح؛ فإن الأدلة الشرعية مليئة بالدلائل العقلية على أصول العقيدة والتوحيد وغيرها. 

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: " بل الأمر ما عليه سلف الأمة وأئمتها أهل العلم والإيمان من أن الله عز وجل بين من الأدلة العقلية التي يحتاج إليها في العلم بذلك ما لا يقدر أحد من هؤلاء قدره، ونهاية ما يذكرونه جاء القرآن بخلاصته على أحســـن وجه "

وقال ابن أبي العز الحنفي " واذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية وجد الصواب منها يعود الى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأوضح عبارة و أوجزها، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما لا يجد عندهم مثله " انتهى. 

ومن يقرأ كتاب الله، ويتأمل في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يجد حضورا ظاهرا للخطاب العقلي فيهما.

فمِن ذلك على سبيل المثال: آيات إثبات البعث في القرآن ؛ كقوله سبحانه 

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّـهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}

وقوله:

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّـهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ۚ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

وهذا في غاية الإقناع العقلي؛ فإن مشركي قريش كانوا يقرون بأن الله خالق السماوات والأرض، فكان الاستدلال عليهم بأن الذي خلق السماوات والأرض من العدم قادرعلى أن يخلق مثلها، ومن باب أولى أن يخلق ما دونها

{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}

: ومن الخطاب العقلي في القرآن قوله سبحانه 

{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } 

فإن هذا التقسيم يجعل العقل يضرب الاحتمالات بين القسمين المذكورين، وحين لا يجد من البراهين ما يعضد أحدهما فانه سيبحث عن خيار ثالث تبينه الآيات التي تلت الآية المذكورة والتي سبقتها، وهو الله سبحانه وتعالى. ومن المراجع في الباب: كتاب الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد للدكتور سعود العريفي، وكتاب بلاغة الاحتجاج العقلي في القرآن الكريم لزينت الكردي، وكتاب مناهج الجدل في القرآن لزاهر بن عواض الألمعي. 

وحين ننتقل الى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فسنجد مواقف كان الإقناع العقلي فيها في غاية الجمال والبهاء، والحجة والاقناع، منها ما أخرجه البخاري ومسلم من عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: 

" جاء رجل من بني فزارة الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود. فقال النبي صلى الله عليه وسلم"هل لك إبل؟" قال: نعم. قال: " فما ألوانها؟ " قال: حُمر، قال: " فهل يكون فيها من أورق؟ " قال: إن فيها لورقا. قال: "فأنى أتاها ذلك ؟" قال: عسى أن يكون نزعة عرق، قال: "وهذا عسى أن يكون نزعة عرق".

 صحيح البخاري (6847)، صحيح مسلم (1500)

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ النوع الثالث من المؤثرات في انتشار الشبهات:

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day