قواعد للتعامل مع الإشكالات والشبهات بعد ورودها
كانت القواعد السابقة عن الوقاية من الشبهات قبل أن ترد على المسلم، وأما ان واجهته شبهة فهو بحاجة الى مزيد من القواعد المنهجية التي تعينه على إحسان التصرف تجاهها.
القاعدة الأولى: استعمال التفكير الناقد والتوثيق العلمي في التعامل مع المعلومات والأفكار:
يجب ألا يكون لأي معلومة قيمة تستحق النظر والنقاش، ما لم تكن تتوفر على أدنى درجات التوثيق العلمي، وأما ان كانت مرسلة لا زمام لها ولا خطام فالموقف الصحيح تجاهها هو الرد، وكذلك ربما تكون المعلومة صحيحة ولكن الاستدلال بها على المطلوب غير صحيح، فيجب أن يدقق الناقد في الكلام، ويتفحص، ولا يضطرب لمجرد إيراد معلومة لا تصمد أمام النقد العلمي!
أمثلة واقعية:
ورد أحاديث معاوية والطعن فيه رضي الله عنه بسبب دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم لعنه، وهذا خبر لا يثبت، وبالتالي بطلت الدعوى والنتيجة. مسند البزار (9/286) (3839)
التشكيك في السنة بسبب حرق عمر رضي الله عنه لصحف فيها أحاديث، وهذا الخبر يستدلون به كثيرا، وهو خبر غير صحيح ( مسند الطيالسي (4/286)(6285)
وهنا نوع آخر من الدعاوى، وهي المستندة على نقول صحيحة، ولكن عند التدقيق في طريقة بناء الحجة من هذه النقول نجد أن البناء غير صحيح، أمثلة على ذلك:
1 - الاستدلال بقول الله
{مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ}.
على انكار السنة، ووجه الخطأ أن الكتاب المقصود في الآية هو اللوح المحفوظ لا القرآن، وبالتالي لم تعد المعلومة الصحيحة موصلة الى النتيجة.
أما قول الله تعالى
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ}.
فسيأتي نقاش استدلالهم به عند الحديث عن الشبهات حول السنة
2 - الاستدلال بحديث النهي عن كتابة السنة على عدم حجيتها. فالمعلومة صحيحة عند كثير من العلماء، ولكنها لا توصل الى النتيجة؛ لأن النهي عن الكتابة لا يستلزم نفي الحجية؛ إذ نفي الحجية؛ الأخبار له طرق ليس منها عدم الكتابة.
وكذلك فإن من الثغرات التي يمكن اكتشافها بالتفكير الناقد: التناقضات الموجودة في الاستدلال بالشبهة.
مثال ذلك: نفس الحديث السابق ذكره في النهي عن كتابة ما سوى القرآن، ولكن نوع الثغرة هنا مختلف عن الفقرة السابقة في أن المُستدل به إنما يستدل بما لا يعتبره حجة؛ وهذا تناقض.
القاعة الثانية: سؤال المتخصصين:
من الملاحظ أن هناك تحفظا عند شريحة من المتأثرين بالشبهات الالحادية واللادينية، من الشباب والفتيات، في سؤال أهل العلم وطلابه عما يعرض لهم في هذه الأبواب، وقد مر معنا أن من سمات الموجة التشكيكية المعاصرة في المجتمع المحلي: (الخلفاء). وربما يكون لبعضهم مبرر في هذا التحفظ من جهة توقعهم أن يقابلوا بالزجر والنهر، لا بالترحيب وحسن الاستماع، وقد يكون تخوفهم هذا له ما يصدقه من واقع بعض المشايخ وطلاب العلم، الا أن هناك مبالغة في رسم صورة حالة عامة لهذه القضية، اذ ان الساحة لا تخلو ممن يفتح سمعه وعقله وقلبه لهذه الأسئلة، ويحسن التعامل معها.
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
[النحل: 43].
ولا ننسى أننا نتحدث في هذه القاعدة عن المتخصصين ذوي المعرفة والقدرة على الاجابة لا عن هواة أو كتاب لا شأن لهم في مجال هذه العلوم. قال الله سبحانه وتعالى:
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
القاعدة الثالثة: مراجعة الجهود السابقة في الرد على نفس القضية المُستشكلة:
فمن الأمور المهمة حيث يتعرض الإنسان لشبهة في باب شرعي أن يرجع الى الجهود السابقة في معالجة نفس الإشكالات التي واجهته، فكثيرا ما يجد الجواب الشافي لمساءلته، ويمكن سؤال المتخصصين عن أهم الكتب في الباب المستشكل.
وهناك كتب لم تقتصر على حل الإشكالات في باب واحد، وإنما ضمت أبرز الأسئلة في أبواب كثيرة، مثل موسوعة بيان الإسلام.
القاعدة الرابعة: رد المتشابه الى المُحكم:
ان قضية المحكم والمتشابه لمن الأمور المنهجية المهمة في فهم القرآن، وهي الفرقان بين الراسخين و الزائغين، فقد قال ربنا سبحانه وتعالى
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ}
{آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}؛
{هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}؛
{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}؛
وهذا يقودنا الى أمر في غاية الأهمية؛ ألا وهو ضرورة استعراض سائر نصوص الباب وعدم الانتقاء والاجتزاء، فقد يكون النص متشابها، فلا يستبين الا بالمحكم الذي نعرفه بنصوص أخرى.
حين يأتي نصرانيا فيقول: أن قرآنكم يدل على تعدد الآلهة، والدليل قول الله سبحانه:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
{قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ} ،
{وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّـهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ}
القاعدة الخامسة: التماسك أمام الشبهة التي لم يعرف جوابها:
أُصادفُ أحيانا ببعض السائلين الذين داخل قلوبهم الشك، وحين أسأل عن السبب يذكرون شيئا لا يوجب الريب؛ وغاية ما في الأمر أنهم لم يعرفوا الجواب عما عرض لهم، وهل ايمان المسلم بهذا الضعف بحث يهتز لأخف ريح؟ ألا يوجد موقف آخر عند عدم معرفة الجواب، اسمه (البحث، السؤال، نقد المعلومة ) قبل الشك مباشرة ؟
ان عدم العلم ليس علما بالعدم؛ أي: أن عدم علمنا بالجواب لا يعني أنه لا يوجد جواب، وحين ندقق في بعض هذه الإشكالات التي أوجبت الريب نجد أن الكلام فيها قد قُتل بحثا؛ فلو أن المستشكل قام ببحث سريع على المواقع الموثوقة في الشبكة لوجد عشرات الإجابات حاضرة أمامه.
القاعدة السادسة: دراسة سلبيات الانتقال الى الأفكار المخالفة للقرآن والسنة:
إذا كان يعتقد من واجهته بعض الإشكالات تحت مظلة الإيمان أنها ستحل في نفق الإلحاد فهو مخطىء جدا، فالواقع أنه إذا أشكلت عليه حال إيمانه عشرة أسئلة فإنها ستتضاعف إلى ألف سؤال ان انتقل الى اللادينية، والفرق بين الأسئلة هنا وهناك أن الاجابات تحت مظلة الإيمان قوية، بخلاف الاجابات في الطرف الآخر – لو وجدت بالأصل -.
مثال على ذلك: سؤال الشر؛ أو كما يحلو للبعض أن يسميه: معضلة الشر، وفي الحقيقة فانه معضلة ولكن على الملحد لا على المؤمن؛ فإن الايمان بالدار الآخرة وما فيها من قضاء وحساب وثواب وعقاب يجعلنا نعتقد أن كل من قتل ظلما، أو أحرق، أو اغتصب فانه سيأخذ حقه، وأن الظالم جزاءه، ولكن: ما جواب من لا يؤمن بالدار الآخرة؟ إن سألناه: ما مصير الظلمة على مر التاريخ؟ وهل دفنت حقوق من ظلموهم معهم تحت التراب ؟
ومن الأمثلة أيضا: سؤال: من أحدث الكون؟ ولماذا؟ إن الاجابة عن السؤال دون الإيمان بالخالق تبدو تائهة طائشة حائرة، ولذلك؛ تجد الملحد يتعلق بأتفه فرضية في هذا المجال ليعلق عليها الإجابة.
وعدد ما شئت من الأسئلة: لماذا يبدو الكون منتظما ومفهوما؟ لماذا تحكمه قوانين دقيقة ؟
كيف تنتج الصدفة المعلومات الوراثية الدقيقة داخل وعاء متناه في الصغر (النواة)؟ وكيف تفعلت هذه المعلومات لتصبح صفات حقيقية في شخص حاملها.
وكذلك من يترك السنة لأن فيها اشكالات، ويقول يكفيني نص القرآن، فأول ما سيواجهه هو نص القرآن ذاته، الأمر بطاعة الرسول واتباعه، والمحذر من مخالفة أمره، فسيقع هذا المنكر في إشكالات حقيقية تجاه تلك النصوص، كما أنه سيجد كثيرا من الأحكام التي أجمع المسلمون على العمل بها غير موجودة في نص القرآن، وهذا سيولد عنده تساؤلات أخرى متعددة. وفي واقع الأمر فانه لم يتخلص من الأسئلة والإشكالات، وإنما انتقل من اشكالات صغرى الى الاشكالات الحقيقة الكبرى.
القاعدة السابعة: عدم التعامل مع الوسواس كالتعامل مع الشبهة:
من الطبيعي أن تمر بالمؤمن وساوس وخواطر، تعكر عليه صفو إيمانه، تأتي بأمور مزعجة للقلب في حق الله سبحانه أو قضائه وقدره، أو غير ذلك من أبواب الشرع، وهذه الوساوس ليست دليلا على ضعف الإيمان، ولا على النفاق، ولم يسلم منها الصحابة ولا العلماء والعباد، ولكنهم يستعيذون بالله منها، ومن الشيطان الرجيم، ويصرفون تفكيرهم عنها.
وإذا كان المؤمن يتعامل معها في هذا الاطار فليست مشكلة، بل هي باب حسنات له بإذن الله، ولكن المشكلة الحقيقية أن البعض لا يعرف كيف يتعامل معها، فيستجيب لكل خاطر مزعج يرد عليه، حتى يصل الى حالة من البؤس والهم والغم ما لا يكاد ينعم معه بشيء، والأسوأ من ذلك أن تصيب الإنسان ردة فعل عكسية، فينفر من الطهارة والصلاة و يتركهما، أو ينفر من الدين بالكلية.
إن باب الوساوس يختلف عن باب الشبهات الحقيقية التي يكون علاجها بالاجابة عنها، فتنتهي وتزول اذا كانت الاجابة محكمة، وأما الوساوس فان الحل معها ليس في الجواب عنها، فإنها لا تنتهي بذلك ولو كرر الجواب مائة مرة، وإنما حلها في الإعراض عنها.
ومن علامات الشبهة أنها تكون – في الغالب – ذات مصدر محدد، أما أن يكون مقطعا مرئيا، أو كتابا، أو أصدقاء ، ونحو ذلك وأما الوساوس بالأصل أنها ترد من خواطر يشعر بها الإنسان في داخله، وكثيرا ما تأتيه وقت العبادة.
وبعد هذه القواعد السابق ذكرها، قد يبقى في نفس الإنسان شيء من الشبهة يصعب التخلص منه، أو تكون الشبهة أكبر من استطاعته للجواب عنها، فالحل هنا في الدعاء والابتهال والانطراح بين يدي الله سبحانه، ليزيل الشك، ويشرح الصدر، ويجلو الحزن والغم.