مناقشة أبرز الشبهات المعاصرة التي يثيرها الملحدون واللادينيون ومنكرو السنة.
سأسير في ذكر الشبهات ونقضها على الترتيب السابق عرضه في الخارطة الاجمالية، مع ملاحظة أن المقام في هذا الكتاب مقام اختصار، وليس مقام استقصاء، وتوسع في نقض الشبهات، ومن أراد التوسع فعليه بالمراجع التي أذكرها في أبواب الرد على الشبهات، مع أن في بعض ما ذكرت من وجوه الرد على الشبهات كفاية، وقد تقدم أن الشبهات المعاصرة تعود الى نوعين:
1- شبهات يراد بها الطعن في أصل الإسلام.
2- شبهات يراد بها الطعن في ثوابت الشريعة دون أصل الإسلام.
فأما النوع الأول ويتفرع إلى أبواب سبق ذكرها، وأول هذه الأبواب: الشبهات حول الإيمان بوجود الله سبحانه وكمال أفعاله، وقبل الاجابة عن الإشكالات في هذا الباب سأذكر أصلين يرجع إليهما ليكونا منطلقين للاجابة عن الاعتراضات، الأول: أدلة وجود الله سبحانه.
الأصل الأول: أدلة وجود الله سبحانه.
أولا: دليل الفطرة:
تدل الفطرة البشرية على وجود الخالق سبحانه وتعالى من ثلاث جهات:
الجهة الأولى:
الجهة الثانية من دلالة الفطرة:
{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ} ؟!
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}
"كُل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه"
الجهة الثالثة:
إن وجود الخير في نفس الإنسان لا يمكن أن يفهم في دائرة العبثية والعشوائية، وإنما يتم فهمه باتساق وانتظام تحت مظلة الإيمان بوجود الخالق المدبر سبحانه وتعالى، الذي خلق النفوس وألهمها فجورها وتقواها.
ثانيا: دليل إيجاد المُحدثات وخلقها:
وهذا الدليل متوجه الى الأشياء الحادثة، فكلما هو حادث فإن العقل يدعو ضرورة إلى البحث عمن أحدثه، وهو قائم على الترتيب التالي:
ولذلك كله؛ فإن الانسان المتوائم مع فطرته، لا يحتاج في الاستدلال على وجود الخالق سبحانه الى أكثر من النظر في حدوث الكون والمخلوقات، لتتولى الضرورة العقلية بعد ذلك إكمال الاستدلال والاعتراف بوجود الخالق.
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}؟!
{أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}
وأما إثبات حدوث الكون فلم يعد أمرا تكتنفه الصعوبة؛ اذ لا يكاد يوجد في الأوساط العلمية اليوم من يقول بأن الكون أزلي قديم، ولذلك؛ لا تجد علماء الملحدين ينكرون حدوث الكون في سياق إنكارهم لوجود الله سبحانه وتعالى، وإنما يجنحون الى تفسير نشأة الكون وحدوثه خارج الإطار الديني الغيبي.
وليس هذا مجال تفصيل الأدلة العلمية على حدوث الكون، ويمكن أن تراجع في أي مرجع علمي تحت موضوع: توسع الكون أو تمدده، وكذلك تحت موضوع القانون الثاني للديناميكا الحرارية.
ومن المراجع المهمة في باب إثبات وجود الله سبحانه وتعالى ودلائل الفطرة والعقل على ذلك كتاب ((شموع النهار )) للشيخ عبد الله بن صالح العجيري.
ثالثا: دليل الإتقان:
بعد أن استدل العقل على وجود الخالق سبحانه بحدوث المخلوقات، فإن هاهنا دليلا آخر، يزيد الأمر جلاء، ويقطع كل ريب، ويذهب كل شك، ألا وهو أن تلك المخلوقات الحادثة لم يكن الشأن فيها مجرد الحدوث، وانما هي – مع ذلك – قد ظهرت بإتقان صورة وأحسن صنع، بل ان الاتقان الذي فيها معجز لكل القدرات البشرية بحيث لا يمكن محاكاته ولا مماثلته، وهنا يصرخ العقل بأن هذا الاتقان والاحكام لا يمكن أن تنتجه الصدفة، ولا أن تبدعه العشوائية، وإنما قوة الله العليم الحكيم القدير، سبحانه.
وصُور الاتقان والاحكام في المخلوقات تضيق عن بيانها الموسوعات الكبرى، بل لا يمكن ان تُحصر، وكلما ازداد الإنسان نظرا وتأملا في النفس، والحيوان، والأرض وما عليها، والآفاق ازداد علما بأن هذا الإتقان لا يصدر عن عشوائية البته!
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}.
{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ﴿٢٠﴾ وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿٢١﴾}
رابعا: دليل العناية:
بعد أن ذكرنا دليل الإيجاد ثم دليل الإتقان، نجد دليل العناية زائدا على ذينك الدليلين، مؤكدا على ضرورة وجود الخالق الحكيم العليم الرحيم سبحانه وبحمده، وهذا الدليل وإن كان داخلا في باب الإتقان في الجملة، إلا أنه يستحق أن يفرد؛ لأنه يتناول العلاقة بين الإنسان المتقن صنعه، وبين المخلوقات المحكم خلقه، زيادة على كون المخلوقات متقنة محكمة، فإنك ترى أنها مسخرة ليستفيد منها الإنسان ويقضي بها حاجاته من الغذاء، والدواء، والركوب، والسفر، والرعي، والقتال، والصناعة، والبنيان ! إنها عناية مقصودة لا عبثية، بدءا من تهيئة الظروف المناسبة له في بطن أمه ؟
وبعد ولادته بتكوين الغذاء في صدر أمه، وتحنين قلبها عليه، ثم بتسخير النباتات والحيوانات له بما يناسب حاجته، وتهيئة الأرض ليسير في فجاجها ومناكبها، وتسخير البحر ليركبه، وإيداع المعادن في باطنها مع إمكان استخراجها للاستفادة منها، وموافقة الشمس والقمر والليل والنهار لمصالح الإنسان وحاجاته، وكذلك منحه القدرة العقليـة التي يفهم بها الكـون، ويعمر بها الأرض ! وصور العناية أكبر من ذلك بكثير، تدرك بالمعرفة والتأمل.
الأصل الثاني: مقدمة مهمة في التعامل مع السؤالات المتعلقة بالحكمة والعدالة الإلهية:
ان معرفة الجواب عن الأسئلة المتعلقة بكمال الله وعدله، والحكمة من أفعاله لا يستقيم تمام الاستقامة إلا بعد الإقرار بعدد من الاعتقادات السابقة، المبنية على البراهين القطعية، و سأذكرها مرتبة:
أولا: الايمان التام بوجوده سبحانه وتعالى، وقد تقدم ذكر شيء من الدلائل على ذلك.
ثانيا: الإيمان بكماله في ذاته وفي أفعاله، وهذا مبني على ما نشاهد من الاحكام والاتقان في المخلوقات ونظامها، كما نستدل بصنعة المخلوقين على بعض صفاتهم؛ فإننا نعرف من خلال صورة يصنعها الرسام أنه محترف ماهر أو مبتدىء غير متقن.
ثالثا: الإقرار بأن المخلوق محدود القدرة والعلم والحكمة، وأن الخالق مطلق العلم والقدرة والحكمة؛ فالإنسان لا يزال يتعلم ما كان يجهله في السابق، ولذلك نرى الآخر يأتي ليصحح ما كان يظنها الأول الصواب المطلق، ويهدم ما بنى، ويبني ما هدم، وتأتي نظرية فتنقض ما كان يعتقد أنه حقيقة قبل ذلك، وكل هذا بسبب عجز الانسان ومحدودية علمه وقدرته، وأما الخالق فانه أبدع ما عجز البشر عن فعله، وقضى ما لا يستطيع البشر كلهم رده، وما من ذرة في هذا الكون في الجزء المنظور منه وغير المنظور ألا وهو يدبرها، في نفس الوقت الذي يسمع فيه الدعاء ويجيبه، وينصر فيه مظلوما، ويهلك ظالما، وقسم رزقا، ويؤتي الملك من يشاء، وينزعه عمن يشاء؛ فأفعال الخالق تابعة لعلمه المطلق، وأحكام المخلوق تابعة لعلمه المحدود؛ في اعتراض المخلوق على الخالق مبني على أساس هش.
واذا كان عجز الانسان في إدراك ما يتعلق بالمخلوقات ظاهرا؛ فمن باب أولى عجزه فيما يتعلق بالخالق سبحانه وتعالى، فنحن لا نحيط علما بذات الله سبحانه وتعالى ولا بصفاته، ولم نعرف عنه سبحانه إلا ما أطلعنا عليه.
رابعا: الإيمان بأنه سبحانه أرسل رسلا، وأوحى إليهم ما يعرف الناس به خالقهم، ومراده من خلقه إياهم، وأيدهم بما يبين صدقهم، من كمال الأخلاق، وصدق اللهجة، واستقامة الحال، والبعد عن مواطن الشك، ومحال الريبة، اضافة الى الآيات التي أعطاهم إياها لتكون دليلا آخر على نبوتهم وصدقهم.
واذا ثبت ذلك؛ فإنه لا أحد أعلم بإجابة هذه الأسئلة المتعلقة بالحكمة من أفعال الله من الله نفسه، وهو قد بينها في كتابه الذي أنزله هدى للناس ونورا، فطريق المعرفة الصحيحة في هذا الباب هو المصدر الإلهي لا المحدودية البشرية.
وإدراك الحقائق السابقة جميعها، يجعل ايماننا و تسليمنا بما جاء في القرآن والسنة مما لم نعرف حكمته من أفعال الله موقفا عقليا صحيحا؛ ولا يكون التسليم – حينئذ – هروبا من الحقيقة، ولكن مبنيا على البرهان العقلي.
وهناك مثال لطيف من الواقع يبين شيئا من التقرير السابق:
وهو أننا اذا رأينا هاتف جوال، صنعته شركة معروفة بالإتقان في صناعتـها؛ كـ (آبل ) أو (سامسونج)، ثم وجدنا فيه قطعة لم نعرف فائدتها، فلن نقول انها عديمة الفائدة، بل سنبحث عن سبب لوجود هذه القطعة، لمعرفتنا المسبقة – من خلال منتجات الشركة – بأنها لن تصنع شيئا عبثيا لا فائدة منه؛ وكذلك هذا الكون العظيم المبني على نظام متقن، وهذه المخلوقات التي أحسن خلقها، وبنيت على نظام لا يقوم شيء من أنظمة الهواتف ولا غيرها مقامه، والتي تدل على أن صانعها هو الكامل في عمله وقدرته وحكمته، فهل من الصواب بعد ذلك أن نقول فيما لم نفهم حكمته في هذا الكون بأنه عديم الفائدة أو لا حكمة من وجوده ؟! لا شك أن ذلك مما يأباه العقل السليم، والقياس الصحيح.
وبعد هاتين المقدمتين – في وجود الله، وفي كماله – فاننا سنتعامل مع كل الإشكالات المثارة حول باب وجود الله سبحانه ووحول باب الحكمة من أفعاله على ضوئهما، ومن الخطأ أن نتعامل مع سؤال يتعلق بحكمة الله بعيدا عن الأصول السابقة.