خلاصات في أبواب فكرية مهمة
الخلاصة الأولى: في العقل والشرع
أولا: الذي يقول: إن العقل يقدم على الشرع بسبب أن الشرع عُرف بدلالة العقل؛ فيكون حاكما عليه.
ونقول له: إن العقل حين دلنا على الشرع، فإنه دلنا عليه بصفة لازمة فيه، ألا وهي: (العصمة من الخطأ والنقص )، وفي ذات الوقت فإن العقل لا يعترف لنفسه بهذه العصمة؛ فكيف نقدم المصدر غير المعصوم على المصدر المعصوم؟
لو دلنا جاهل على عالم، فليس معنى ذلك أن قول الجاهل مقدم على قول العالم احتجاجا بدلالته عليه، وإنما يكفي أنه دل وأرشد إلى أنه عالم، ثم بعد ذلك يكون الاتباع للعالم لا للجاهل.
ثانيا: الأفهام تتفاوت، ومعايير استيعاب الناس وقبولهم للأخبار تختلف من شخص لآخر، بحسب طريقة تربية أحدهم ظروف نشأته ومحيطه ومجتمعه، فما قد يراه الشخص الذي يعيش في أدغال أفريقيا مخالفا للعقل، يراه غيره ممن نشأ وتقلب في المدينة الحديثة من مقبولات العقول. بل وربما من مُسلماتها!
فعلى ذلك فمن يستنكر نصا من نصوص الشرع من باب الفهم فلا يستعجل في نسبة هذا الاستشكال إلى صريح العقل، بل يراجع نظره ونظر غيره من العقلاء، فقد يكتشف أن الإشكال هو في طريقة فهمه واستيعابه النابعة من مسلماته التي تكونت من نشأته وبيئته وظروفه التي أحاطت بتكوينه وحياته.
وينبني على ذلك: أنه إذا اختلف أصحاب العقول الحرة المفكرة في قبول حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم – مثلا- ورَده، فمن الحَكم في ذلك؟ ومن الأولى بأن يكون عقله مقدما على عقل غيره؟ فنقول: هنا لا بد من عامل آخر خارجي، وهو وسيلة الإثبات إلى الشرع، بمعنى أن هذا الخبر المختلف فيه عقلا، نحتاج معه ما يُثبت لنا هل قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أم لم يقله، فإذا ثبت أنه قاله فإنه لن يخالف العقل قطعا.
ثالثا: ضرورة إدراك حدود العقل: قال الإمام الشاطبي (رحمه الله تعالى ): ((إن الله جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب )) الاعتصام للشاطبي (1/831)
والاعتراف بحدود العقل ليس استنقاصا من شأنه، بل هو تنزيل له في المكان الذي يستحقه، ومن هنا ننطلق في الإجابة عن بعض أسئلة الغيبيات التي قد تحير العقول.
رابعا: أهمية التفريق بين محارات العقول، وبين مُحالاتها؛ أي: التفريق بين ما يُستبعد عقلا وبينما يستحيل عقلا: فالشريعة قد تأتي بالأمر الذي يحير العقل، أو يكون مستغربا، ولكن لا تأتي بما هو محال في العقل ولا بما يناقضه!
قال ابن تيمية رحمه الله في الجواب الصحيح: ((يحب التفريق بين ما يعلم العقل بطلانه وامتناعه وبين ما يعجز العقل عن تصوره ومعرفته، فالأول من محالات العقول، والثاني من محارات العقول، والرسل يخبرون بالثاني )).
قال أيضا في نفس الكتاب: ((الأنبياء عليهم السلام قد يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته، لا بما يعلم العقل بطلانه، فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول)).
الخلاصة الثانية: في التعارض بين العلم الطبيعي والدين
ترددت في إدراج هذا الموضوع تحت بند (الخلاصات ) نظرا لأنه موضوع كثير الفروع؛ يصعب تقريب أهم أبعاده في أسطر معدودة، كما أنه لم يحظ بما حظي به صنوه: (العقل والنقل ) من الكتابة والبحث، وحسبي أن أشير إلى بعض ما أراه مهما في الباب ثم أحيل إلى بعض المراجع فيه.
أولا: إن إصابة النظر في هذا الباب لا تأتي دون معرفة طبيعة الظروف التي مر بها العلم الطبيعي في العصر الحديث، وطبيعة الصراعات التي نشأت في المجتمع الأوروبي على أثر ذلك، سواء ما كان منها يتعلق بالكنيسة أو ببعض رجالها، وهذا التاريخ وطبيعة ما وقع من ظروف محيطة بنشأة العلم الطبيعي جعل أكثر المنتسبين لهذا العلم ينحون منحى بعيدا عن كل ما هو ديني أو غيبي، وصار مرتبطا في أذهان أكثرهم أن العلم لم ينطلق أو أن البشرية لم تنطلق في مجال الاكتشافات العلمية إلا بعد أن عتقت من ربقة الدين وسلطة الكنيسة، ولذا صارت المعطيات العلمية عندهم – وإن لم تكن قطعية – مقدمة على أي معطى آخر، بل إنهم يلقبون العلوم الدينية والفلسفية العلوم الزائفة، فإذا جاء شيء متعلق بالأمر الديني أو العقلي الفلسفي فإنهم لا يضعونه في مصاف معطيات العلم التجريبي، ونحن لدينا منظومة دينية مؤسسة على معطيات عقلية ودلائل برهانية متكاملة، وهذه المنظومة نعتقد أنها لا تتعارض مع أي معطى تجريبي صحيح ثابت قطعي، واعتقادنا هذا مبني على أصول متعددة يطول المقام بذكرها، غير أن الذي أريد أن ألفت النظر إليه هو أنه لا بد من استحضار تاريخ نشأة العلم الطبيعي والظروف التي مر بها المجتمع الأوروبي في هذه النشأة؛ لأنها هي التي شكلت الموقف الرافض من الأديان ومن الأمور الغيبية
ثانيا: ينظر البعض إلى المجتمع العلمي التجريبي بأنه مجتمع محايد، لا يتأثر بأي اعتقادات مُسبقة، فكل ما يصدر عما له علاقة به فهو مبرأ من كل ميل، منزه عن كل أغراض فاسدة، وهذا الكلام ليس دقيقا، فإن هناك نزعة مادية إلحادية شكلت ذهنية معينة، تبحث عن تفسير مادي لكل شيء، وحال انعدامه فإنها تبحث عن افتراضات مادية كاحتمالات للتفسير، وحين تصدر هذه الافتراضات عن علماء لهم وزن في البيئة العلمية فإن تأثيرها يكون كبيرا.
بل إن هناك ثقة عند كثير من علماء الطبيعة، وفلاسفة الإلحاد بأن منهجية العلم الطبيعي في الاستدلال هي المنهجية الوحيدة التي يوثق بها، ولا يلتفتون إلى غيرها، وأن العلم الطبيعي قد أغنى عن كل مصدر آخر لتفسير الكون وفهمه بل وصل الحال إلى ادعاء أن الكون مستغن بنفسه بسبب القوانين الرياضية والفيزيائية التي تحكمه، وأنه لا حاجة له إلى وجود الخالق كما يقول ستيفن هوكنج. فهل يُمكن والحال كذلك أن نعتمد على كل ما يصدر ممن ينتسب الى العلم التجريبي لمجرد أنه دكتور في الفيزياء أو بروفيسور في الأحياء؟ الساذجون وحدهم من يعتمدون ذلك.
ثالثا: العلم الطبيعي تتجدد فيه المعطيات، وتُحدث التجارب، وتبدل النظريات، بخلاف المصدر الإلهي، ولذلك؛ فإن من الخطأ التعامل مع النظريات العلمية بالنظرة اليقينية لمجرد أنها تنتسب للمجتمع العلمي التجريبي، وهناك أمثلة وشواهد على نظريات علمية قوبلت بالقبول، وشاعت وذاعت واشتهرت، حتى لا يكاد يُعرف غيرها، إلى أن اكتُشف خطؤها وحلت نظرية أخرى بدلا عنها، ومن أبرز الأمثلة على ذلك: نظرية نيوتن في (الأثير) وبعض مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية التي استعيض عنها بمفاهيم الفيزياء الحديثة. فقد كان لنظريات نيوتن أثر في الفكر والفلسفة والموقف من الدين حتى ((أصبح المقبول في باب الحقائق هو ما تقبله الصورة النيوتنية للعلم سواء قال ذلك نيوتن أو مما بني على نظرياته، والمرفوض هو ما لا تقبله. .. حتى شيدت على تلك الفرضيات العلمية مذاهب فكرية ينزع أغلبها نحو الإلحاد والمادية وإقصاء الأصول الدينية، وبلغت ذروتها في النزعة العلموية والمذهب الوضعي في المنتصف الأول من القرن التاسع عشر. ... وفي ذروة تحمس العلوم لتقليد الفيزياء، وذرة الغلو الوضعي تأتي ضربة موجعة لمجموعة من الحقائق المطلقة وبعض المفاهيم الصلبة في الفيزياء الكلاسيكية، وجاءت الضربة من داخل الفيزياء ذاتها. . وهما أمران وقعا في النشاط الفيزيائي فقلب أمورها بشكل عجيب، زلزلا الفيزياء اليقينية لتتحول إلى اللايقين أو النسبية، وهما:
الأول: تجربة مايكلسون ومورلي عام 1887 م التي قضت على مفهوم الأثير
الثاني: اكتشاف عالم الذرة المدهش الذي لا يخضع لقوانين الفيزياء المعهودة وقد أحدثت تجربة مايكلسون ومورلي ضجة كبيرة في الوسط العلمي، وبات العلماء في حيرة وتردد وذهول من نتيجتها ما بين البقاء على القول بالأثير وإن أدى إلى القول بأن الأرض ثابتة لا تتحرك، أو عدم إثباته مع أن له متعلقات متعددة، وبنيت عليه نظريات أخرى، قال مصطفى محمود في كتابه ((أينشتاين والنسبية)) بعد أن ذكر تجربة مايكلسون ومورلي: ((وكان معنى هذا أن يسلم العلماء بأن نظرية الأثير كلام فارغ ولا وجود لشيء اسمه الأثير أو يعتبروا أن الأرض ساكنة في الفضاء، وكانت نظرية الأثير عزيزة عند العلماء لدرجة أن بعضهم شكك في حركة الأرض واعتبرها ساكنة فعلا!)) فبعد أن أثبتت التجربة خطأ نظرية الأثير بحثوا عن البديل الذي يمكن أن تقاس حركة الأشياء بالاستناد إليه، حتى جاء أينشتاين ففسر المعضلة، وكان جوابه أنه لا يوجد مقياس وأن حركة الأشياء نسبية، فكل حركة إنما تقارن بغيرها حسب مكان الملاحظ.
الخلاصة الثالثة: في قضية الحرية في الإسلام
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}
في ضوء قول الله – أيضا -:
{وَانْظُرْ إِلَىٰ إِلَٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ۖ لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا}
{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ }
فمن الخطأ فهم أحد هذه النصوص بعزل عن سائرها.
ثانيا: من المهم للوصول إلى نظر شرعي صحيح في باب الحرية في الإسلام أن ندرك أن هناك عاملا خارجيا مؤثرا له دور كبير في تشكيل مفاهيم معينة عن الحرية تخالف المفهوم الإسلامي، ألا وهو عامل ضغط الثقافة الليبرالية الغربية، والذي بدوره أثر على بعض الأطروحات الإسلامية في باب الحرية مما شكل تصورا مشوشا في هذا الباب.
فمن الضروري للباحث أن يميز بين معالم الحرية الغربية وبين معالمها الإسلامية، وليس معنى ذلك رفض كل شيء في باب الحرية إن كان مصدره غربيا؛ كلا، وإنما المراد إدراك المفهوم المخالف، ثم إعمال الفقه في التعامل مع الواقع بملابساته.
ثالثا: من المفاهيم الأساسية في باب الحرية الإسلامية والتي لا تكاد تجدها في غير الإسلام: تحرير الإنسان من أن يكون عبدا للمال أو للشهوة؛ فقد صح عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((تَعِسَ عبدُ الدينار، وعبدُ الدرهم، وعبدُ الخَميصَة، تَعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش))
رابعا: لا بد من التفريق في مساحة الحرية في الإسلام بين ما يعتقده الشخص في نفسه وبين ما يعلن به بين الناس، فالإسلام يقبل بوجود الكفار في أرضه بشروط منها عدم إعلان الطعن في الدين وعدم المجاهرة بالكفر.
وقريب من هذا: الخلط بين الحرية التي يتيحها الإسلام في السؤال عما يُشكل على الإنسان من قضايا الدين، وبين بث هذه الإشكالات في الناس وإفساد صفاء عقيدتهم ويقينهم.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}
{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ۚ}