يقينية الإيمان بين عالم الغيب والشهادة
لعل من نافلة القول الإشارة إلى أن الإنسان بحكم طبيعته البشرية بما هو في النشأة الأولى، قبضة من طين، ونفخة من رُوح، يظل شديد التعلُّق بالمحسوس بما هو منظور أمامه من عوالم الكون المشاهدة؛ حيث تترسَّخ مرئياتها بتجلياتها المختلفة في ذهنه بدرجة يقين أعلى من نظيراتها غير المرئية، ولأن عالم الشهادة على أهمية تجسُّده الموضوعي، ما هو إلا نقطة في بحر عالم الغيب الواسع، فإن الإيمان بالغيب، إنما هو إيمان بحقيقة الكون، والحياة فيما هو منظور، وما هو غير منظور منهما، على الصورة التي أوجدهما الله تعالى عليها، سواء تمكَّن العقل الإنساني من إدراك تلك الحقيقة بما يُتاح له من إمكانات، أم لا.
ولذلك فإن إحكام الربط العضوي بين عملية الخلق الإلهي للظواهر الكونية المحسوسة للإنسان في العالم المشهود، وبين التفكُّر فيها باعتبارها آية لذوي العقول اللبيبة، لم يكن مطلوبًا لمجرد ترسيخ اليقين بإلهية الخلق المحسوس، والتسليم بتلك الحقيقة الملموسة، وحسب؛ وإنما ينبغي أن يتضمَّن أيضًا نفي الخلق العبثي للظواهر، بما يفيد القصدية التامة من الخلق، اعتقادًا بترسيخ الإيمان بألوهية الخالق، وقدرته المطلقة في الخلق الحسي والغيبي معًا، ومن دون أدنى شك.
ولذلك فإن الإيمان اليقيني المرتكز إلى عضوية التآصر بين عالمي الشهادة والغيب، سيمنح الإنسان فرصة خرق حواجز موضوعية عالم الشهادة المادية الضيقة، ويتوغل في أعماق عالم الغيب الواسع، بأفق مفتوح، بما هو امتداد لعالم الشهادة بكل مرئياته، ويُعزِّز الصلة بين الإنسان المحدود الأفق والإمكانات، وبين خالق الأكوان والعوالم والأزمان، ما ظهر منها للعيان، وما بطن على قاعدة:
﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]
وهو ما يُحفِّز الإنسان عند ذاك، للانتفاع المشروع من قانون التسخير الإلهي لتلك العوالم، التي قد هيَّأها الله تعالى لخدمته، بما يتيسَّر له من طرائق عملية مع الزمن، في كل مجالات الحياة؛ حيث يقول تعالى في تقرير حقيقة ذلك الأمر:
﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ [لقمان: 20]
ومع أن معطيات العصرنة بتداعياتها المادية الجارفة، قد بلَّدت الحسَّ الرُّوحي والتأمُّلي عند الإنسان المعاصر، عندما اختزلت رؤاه بحقائق العالم المشهود فقط، وهو ما زاد الطين بلَّة، وحرمَه من نفحات الحس الرُّوحي، إلا أن الوحي الإلهي القائم على حقيقة علم الله تعالى المطلق، يظل أفضل وسيلة للعون في الهداية إلى صراط الله المستقيم، وعلى مراد الله تعالى من حقيقة الخلق الحسي والغيبي؛ حيث امتدح القرآن الكريم الإيمان بالغيب، معتبرًا إيَّاه طريق الهدى والفلاح:
﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 3 - 5]
ولذلك فإن المطلوب من الإنسان المعاصر اليوم والمسلم بالذات، أن يتحرَّك بشكل جادٍّ، لتفعيل استثمار المتراكم لديه من معطيات التعامُل مع المنظور من الحقائق الكونية، وتنشيط التفاعُل مع علومها، والعمل على توظيف ما استُكشف، وما سيستكشف من قوانين تحكمها، بما يُحقِّق تعزيز الإيمان بالغيب، ويُرسِّخ التواصُل مع آفاقه، بيقينية مطلقة تنقذه من ضَنْكِ مُعاناة الضياع والاستلاب الرُّوحي، وتضمن له الفلاح والنجاح في الدارين.