وصف الإنسان في القرآن (2)


فريق عمل الموقع

يظن الكثير أن الإنسان لغز كبيرٌ قائم نصب أعيننا، وعالم غريب من المكونات والأحوال، وعلى الرغم من تقدُّم البشرية في شتَّى الميادين الحياتيّة، ورغم تسخيرها لمعظم العناصر الطبيعية واستيلائها على العالم المادي؛ فإنّ الكثير فعلا ينطبق عليه هذا الكلام السابق، والكثير منهم لا يعرف إلا القليل جدّاً عن نفسه.

وإذا أردنا ان نستكشف سيكولوجية الإنسان وشاكلته ونقاط ضعفه ونقاط قوته، فان أفضل مصدر يمكن ان نستنطقه هو (القرآن الكريم) ثم الروايات الشريفة؛ ذلك ان الأعرف بالإنسان، على الإطلاق، هو خالقه فإنه اللطيف الخبير الذي يعرف أعمق أعماق الإنسان وأخفى خفاياه ودواخله وحقيقة ذاته (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريدِ)

الإسلام هو الدين الذي عرّف الإنسان كل شيء عن نفسه، عرّفه أصله ونشأته، ومكوناته وتكويناته، وصفاته سلبية كانت أم إيجابية، وكيف ينمي إيجابياتها، وكيف يعالج سلبياتها.

فمن خلال الإسلام تعرّف الإنسان على نفسه، وفهم -من خلال آيات القرآن – نفسه، وعرف عالمه الداخلي، وعرف السبب والغاية لوجوده.

ومن المعروف ان دليل الإرشاد أو البروشور الذي تقدمه الشركات والمصانع عن منتجاتها، يعد أهم مصدر للتعرف على الأجهزة والآلات وكيفية تشغيلها ونقاط ضعفها أو قوتها، فإذا اشتريتَ حاسوباً أو سيارة أو طائرة أو حتى ماكنة حلاقة فان أول شيء يعرّفك على الخصائص والمزايا والنواقض والسلبيات هو ما كتبه منتجوا تلك الأجهزة ومخترعوها، على ان المخترع والمنتج قد تخفى عليه مواطن ضعف أو مكامن خطر لا يمكن استكشافها إلا بالتجربة الطويلة، أما الله تعالى فانه لا يعزب عن علمه شيء فان علمه نافذ محيط (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ).

ومن حاول تتبع الصفات التي وردت في القرآن الكريم والمتعلقة بطبيعة الإنسان، يلاحظ أنها آيات تطلعنا على حقيقة الإنسان، وتجعله يتوقف عن الدهشة من سلوكه وتصرفاته مع بني جنسه من ناحية، وفى البيئة المحيطة به من ناحية أخرى.

الخصائص العامة للإنسان في القرآن الكريم

تكثر في القرآن الكريم الآيات التي تصف جوانب الشر في الإنسان كالكفر والشرك وجحد النعمة والميل إلى الجدل والخصومة والشعور بالكبْر والتجبّر والظلم والجهل والبخل والخسران.. الخ.

وهذه الصفات موجودة مع أن الله تعالى كرّم الإنسان وخلقه في أحسن تقويم،

{لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}

إلا أنه -وللأسف -لم يعتبر هذه الأفضلية، وكفر بالذي خلقه على هذه الصورة

فقال تعالى

{إن الإنسان لكفور}

[الحج66]

{إن الإنسان لكفور مبين}

[الإسراء67]

ويصل الأمر مداه حين يتعجب الله من هذا النكران،

فيقول تعالى

{قتل الإنسان ما أكفره}

[عبس17]

ولهذا صدق عليه قول الله تعالى

{لقد خلفنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون}

[التين4ــ6]

وعلى الرغم من أن الإنسان ليس هو أقوى المخلوقات بل إنه ضعيف الجسم والقدرة، فإنه إذا أصاب الغنى أو السلطة طغى وتجبّر

(وخلق الإنسان ضعيفا)

[النساء28]

(كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)

[العلق7،6]

وما نماذج فرعون والنمرود عنا ببعيدة.

إن بداية خلق بنى آدم عموما تتكون من نطفة هيّنة بسيطة لكن الإنسان ينسى ذلك أو يتجاهله وخاصة حين يقوى عوده، فيتحول إلى مخاصم شرس

{أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين}

[يس77]

وقال تعالى

{خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين)

[النحل4]

ومن هنا فإن علينا، أن نرجع إلى القرآن الكريم مباشرةً لنعرف مواصفات الإنسان ومواضع ضعفه ومواطن نقصه، على حسب ما يؤشر عليه خالقه ورازقه والمهيمن عليه.

والغريب أن القرآن الكريم عندما يتحدث عن الإنسان، أي عن هذه المفردة الخاصة، فانه، في غالب الموارد بل في الأعم الأغلب الذي كاد أن يكون مستوعباً، يستعرض سلبيات هذا الكائن ونقاط ضعفه ومواطن الأخطار التي تحدق به، فعلى الرغم من أن الله تعالى قد كرّم الإنسان، وخلقه في أحسن تقويم، وسخّر له ما في السماوات والأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، إلا أن حقيقة الإنسان مؤلمة، فالواقف على وصف آيات القرآن يجد وصفها للنفس بصفات سيئة، بل وهذه الصفات هي الغالبة عليه، وهي التي تدفعها إلى كل سيء.

وتعالوا لنبدأ الرحلة من أول الأمر، فالقرآن فصّل هذا الأمر تفصيلا عجيبا مبهرا، يجعلنا نقف على حقائق من المهم أن نعرفها قبل الكلام عن الصفات بوجه عام، لنتعرف على السبب الذي يجعل النفس توصف بهذه الصفات.

وتتبدأ رحلة القرآن بالتعرف على أصل خلقة الإنسان وبداية نشأته،

  • خلق آدم وهبوطه إلى الأرض: شاءت إرادة الله أن يجعل في الأرض خليفة، وعرض الأمر على الملائكة، الذين سألوه متعجبين: ـ

    {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك}

    فأجابهم جل وعلا بقوله

    {إني أعلم ما لا تعلمون}

    [البقرة 30]

  • ابنا آدم: رزق الله آدم وزوجه بولدين، وكبرا إلى ما شاء الله، ثم أمرهما الله أن يقرب كل واحد منهما قربانا لله تعالى، {فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر} وحين وجد أحدهما أن قربانه لم يقبل مثلما قبل قربان أخيه غضب منه، ودبّ الحسد في قلبه، ونتيجة لذلك أقدم على قتله، ولم يعرف أن يوارى جثة أخيه المقتول في التراب إلا بعد أن شاهد غرابا يقوم بدفن غراب ميت!
  • ظلوم: قَصَّرَ في الوَفاءِ بِحَقِّ ما تَحَمَّلَهُ تَقْصِيرًا وعَمْداَ.
  • جهول: فَرِّط في الأخْذِ بِأسْبابِ الوَفاءِ بما تحمّله وقصّر فيه عن جهل.
  • ظَلُومًا في عَدَمِ الوَفاءِ بِالأمانَةِ؛ لِأنَّهُ إجْحافٌ بِصاحِبِ الحَقِّ في الأمانَةِ أيًّا كانَ.
  • جَهُولًا في عَدَمِ تَقْدِيرِ قَدْرِ إضاعَةِ الأمانَةِ مِنَ المُؤاخَذَةِ المُتَفاوِتَةِ المَراتِبِ في التَّبِعَةِ بِها.
  • الاستعاذة الدائمة بالله منه

    {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين}

    [المؤمنون97]

  • الأول: هو طبيعته التي خلق الله عليها، فانساق لها، فضلّلته عن الصراط المستقيم.
  • الثاني: الشيطان ووسوسته وإغواؤه، واستجابته له، واتخاذه وليّا، رغم تحذير الله تعالى له بأنه هو عدوه المبين.

وتمّ خلق سيدنا آدم من طين الأرض (من حمأ مسنون) (صلصال كالفخار) فجاء في أحسن تقويم {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}

{الذي خلقك فسوّاك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركّبك}

[الانفطار7

ثم شاء الله وأراد فنفخ فيه من روحه، فدبّت فيه الحياة، وعلّمه الله الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة فلم يعرفوها، وعلّمها سيدنا آدم، فأنبأهم بها، عندئذ أمرهم الله بالسجود له، فأطاعوا كلهم أمر الله، ما عدا إبليس الذي اعترض، وجعل سبب اعتراضه على أمر الله أفضليته على آدم، فآدم -عليه السلام -مخلوق من طين، بينما هو مخلوق من النار! لذلك استحق غضب الله ولعنته.

لكن إبليس طلب من الله أن يتركه حيا إلى يوم القيامة {أنظرني إلى يوم يبعثون} متوعدا آدم وبنيه أن يضلهم عن سبيل الله {فبعزتك لأغوينهم أجمعين} وقد استجاب الله له، {إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم}، لكنه أخبره أنه لن يكون له سلطان على المؤمنين الأتقياء، {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}

وشاءت إرادة الله أن يخلق حواء -زوج آدم -ثم أمر الله آدم وزوجته أن يسكنا في الجنة، ويتمتعا بخيراتها، واشترط عليه ألا يقرب شجرة معينة.

لكن إبليس ظل يغويهما بالأكل منها على اعتبار أنها شجرة الخلد، {فوسوس لهما الشيطان قال يا آدم هل أدلك ...لا يبلى} فأكل آدم -عليه السلام -ناسيا عهد الله، فأخرجه الله من الجنة، وأنزله مع زوجته وإبليس إلى الأرض، {قال اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو}، ليبدأ بين الإنسان والشيطان صراع طويل لن ينتهي إلا بقيام الساعة.

وقبل أن نسترسل في استعراض جوانب طبيعة بنى آدم نتوقف قليلا لنلخّص بعض الصفات التي ظهرت في تلك المرحلة، والتي هي من صفات النفس البشرية على مر الزمان، إلا من رحم الله.

ــ العصيان: -فقد عصى آدم أمر ربه في عدم الأكل من الشجرة المحرمة عليه، وكذلك عصاه في استجابته لإغواء إبليس، حين وسوس له بالأكل من الشجرة، فأكل ناسيا عاصيا.

ــ الحسد: -فقد حسد الأخ أخاه حين قبل الله قربانه، بل وأقدم على قتله. 

والسؤال الآن: هل خلْق الله للإنسان كان لغاية، أم أنه كان عبثا؟

يقول الله تعالى

{إنا كل شيء خلقناه بقدر}

[القمر49]

ويقول تعالى

{وكل شيء عنده بمقدار)

[الرعد8]

ويقول جل جلاله

{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}

[الذاريات56]

والحقائق الكبرى في القرآن تؤكد:

 أن الله تعالى هو مبدع الكون، وهو خالق الإنسان، والمتكفل برزقه، وبالتالي كان على هذا الإنسان أن يفكر بعقله بأن من فعل ذلك له.. يستحق إفراده بالعبادة، لكن الإنسان أغمض عينيه، ونسيها، وحين جاءته الرسل لتأخذ بيده عارضها وكذّبها، وفضّل أن يتبع أسلافه في معتقداتهم سواء أكانت وثنية أم شركية أم بدعية، فوقع في الكفر، والشرك، والضلال.. 

فهذه بداية القصة وأصل الموضوع، فلما تطورت العلاقات وتعددت الطموحات، لم يترك القرآن الإنسان يكتشف سلبياته، أو يفاجأ بسلوكياته، بل وضع له الصفات التي عليها خُلِق، فذكر الله لنا في كتابه أن الإنسان في علاقاته: -

  • عجولا: قال تعالى {وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً} إذ تراه -مثلاً -يتعجل الوصول إلى الثروة ولو بسلوك الطرق المحرمة، كالغش أو الخداع أو الغبن أو الربا أو السرقة .... الخ.
  • هلوعا: "شديد الحرص، قليل الصبر"، قال تعالى {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} والهلوع: و(شديد الحرص) تعبير آخر عن الآية الأخيرة، بينما (قليل الصبر) مفصح عن الآية السابقة عليها، وهذه نقطة ضعف خطيرة جداً، أن يكون الإنسان شديد الحرص على المال، أو الجاه، أو الشهرة أو الرياسة والقوة والسلطة أو عليها جميعاً، ومن هنا تنشأ أغلب المعاصي، والصراعات والجرائم والجنايات وحتى الحروب، فكم من حرب شنت ودماء أريقت لمجرد إرضاء شهوة هذا الحاكم بان تتوسع رقعة رياسته وتمتد إلى أراضي أخرى أرحب وأوسع؟

فهذا هو الإنسان شديد الحرص.. وهذا هو، بالضبط، سرّ تعاسته وهلاكه واستحقاقه العذاب الإلهي..

والمهم في الأمر اننا إذا عرفنا ان الخطر يكمن في (شدة الحرص) عرفنا ان رحلة العلاج يجب ان تبدأ من هذه النقطة بالضبط، {َإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} فإن الدنيا من غرائبها ما أشارت إليه الرواية الشريفة ((مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ طَالِبُ دُنْيَا وَطَالِبُ عِلْمٍ)).

ولذا نجد ان الإنسان إذا كان يمتلك مثلاً مائة ألف دولار في رصيده في المصرف فانه سيكون حريصاً عليها أشد الحرص حتى انه يمتنع من دفع الحقوق الواجبة عليه متذرعاً بألف عذر وعذر.. فإذا بلغت أمواله مائتي ألف ازداد حرصاً وجشعاً فإذا بلغت مليوناً ازداد بها حباً وتعلقاً.. وهكذا كلما ازداد ثراءً ازداد بخلاً وحرصاً وتعلقاً.. ولذا نجد ان الفقراء، عادةً، أسخى كفاً من الأغنياء وأسرع في البذل والعطاء.

وإذا عرفنا ذلك فعلينا ان نتعوّد منذ الصغر على الإنفاق، وأن نتدرب منذ امتلاك أدنى رصيد على إنفاق بعضه (خمسه أو ثلثه مثلاً) وان لا ننخدع بالوسوسة الشيطانية التي تزين للإنسان التسويف وتوحي له: أنك قليل البضاعة الآن فإياك ان تنفق! بل تريث زمناً حتى إذا أثريت أنفقت! فهذه هي الخدعة الكبرى حيث ان الإنسان (يتعوّد) إما على الإمساك أو على الإنفاق كلما كبر أكثر فأكثر.. فإذا عرفنا ان الإنسان (إِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) فإننا سنبادر إلى ترويض النفس على العطاء قبل أن يمسنا الغنى وتحتوشنا السعة.

وقد فسرت الآيتان اللاحقتان مفردة (هَلُوعاً) بـ(إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً).

والملفت في التعبير القرآني التعبير ب، ((المس))، فان الإنسان، ويا للعجب! إذا مسه الشر، المقصود به الفقر والفاقة والمرض والحر والبرد ومطلق الأذى، يجزع، فهذه حالته مع الابتلاء بمجرد مسٍ ما ولفحة ما فكيف إذا هيمن عليه البلاء وتوغل في حياته ونفذ في أعماقه؟

فهذا كله عن علاقة الإنسان بنفسه وفي سلوكه وتصرفاته وجانب من علاقته بغيره.

ولنكمل سويا تلك الرحلة الشيقة في وصف القرآن لعالم الإنسان، فنجد أن القرآن وصف أيضا علاقة الإنسان بربه وخالقه ورازقه فوصفه بأنه: -

  • كنود: الكنود هو الكفور، يعني الكفور، أي الكفّار للنعم الجحّاد لها قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} وهي صفة لا نحبها مع أنفسنا، فلو أحسنا إلى أحد وأنكر، فإننا سنسخط عليه أشد السخط ونعتبره ناكراً للجميل غير مستحق للإحسان أبداً، بل وقد نقرر ان لا نحسن إليه بعدها أبداً، لكننا بالنسبة إلى نِعَم الله تعالى علينا نتعامل بما هو اسوأ من ذلك بكثير وذلك هو ما أشار إليه تعالى في آية أخرى بقوله تعالى: {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى‏ بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَريضٍ} والأعجب أنّ نِعَم الله علينا لا تتناهى لكننا إذا فقدنا إحداها فقط جزعنا ورفعنا عقيرتنا واعترضنا، ربما، حتى على الله تعالى، وأنّه لماذا ابتلانا بهذا البلاد، مع انه لا يزال جل اسمه منعماً علينا بألوف النِعم ولم يسلب منا إلا احداها ليمتحننا ويبلونا بل ويزيد على الكفران اليأس والقنوط والبطر والطغيان، يقول تعالى {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}، فهو إذاً:
  • إذا أنعم الله تعالى عليه يُعرض عن الله سبحانه وينسى نعمته وفضله، وسائر نعمه أيضاً.
  • إذا نزعها منه يقع في دوامة اليأس من جهة وفي مطب كفران سائر النعم من جهة أخرى.
  • فإذا أنعم الله عليه مرة أخرى، بَطر وتكبّر وتجبّر، إذ المراد (إِنَّهُ لَفَرِحٌ) ليس الفرح بالمعنى المعهود لدينا بل الفَرِح هو الأشِر البَطِر وقال تعالى: {ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} وقال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذينَ لا يُريدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقينَ}.

بل وفوق ذلك فانه لا يكتفي بالبطر وجحود نِعم الله عليه، بل يترقى إلى تحدي الله تعالى مباشرة واتخاذ شركاء له إذ يقول تعالى: {وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَليلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ}.

ثم يزيد هذا الإنسان على اتخاذه الأنداد لله سبحانه، شدة خصومته في باطله إذ يقول تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}

 

 وتستمر الآيات في وصف طبيعة الإنسان، وما يتخللها من صفات نقص وضعف، فتصفه بـ:

  • العجلة: قال تعالى: {خلق انسان من عجل} [الأنبياء37] {وكان الإنسان عجولا} [الإسراء11].  أي رُكِّب على العجلة فَخُلِق عجولا، فَطَبع الإنسان العجلة، فيستعجل كثيرا من الأشياء وإن كانت مضرة، فصارت العجلة والاستعجال في البشر صفة متأصلة في نفوسهم، مجبول عليها كثير من الناس في أقوالهم وأفعالهم، وقَلّ من يَسْلّم منها ويتحلى بضدها من الرفق والتأني والتثبت، فتجد المتصف بالعجلة يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعدما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم، فتصحبه الندامات وتعتزله السلامات، فالاستعجال في الأمور قبل أوانها ووقتها مفسد لها في الغالب.
  • البخل الشديد: {وكان الإنسان قتورا} [الإسراء100] بخيلا ممسكا منوعا وقال الله تعالى: {أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا} [النساء53] أي: لو أن لهم نصيبا في ملك الله لما أعطوا أحدا شيئا (...) ولا مقدار نقير، والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو، إلا من وفقه الله وهداه؛ فإن البخل والجزع والهلع صفة له، كما قال تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين}.
  • كثرة الجدال: قال تعالى {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} [الكهف54] وكان الإنسان أكثر شيء مراء وخصومة، لا ينيب لحق، ولا ينزجر لموعظة، قال ابن زيد، في قوله تعالى {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} الجدل: الخصومة.
  • الظلم، والجهل: قال تعالى {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} [الأحزاب72]

فَظَلُومٌ مُبالَغَةٌ في الظُّلْمِ وكَذَلِكَ جَهُولٌ مُبالَغَةٌ في الجَهْلِ.

والظُّلْمُ: الِاعْتِداءُ عَلى حَقِّ الغَيْرِ وأُرِيدُ بِهِ هُنا الِاعْتِداءُ عَلى حَقِّ اللَّهِ المُلْتَزَمِ لَهُ بِتَحَمُّلِ الأمانَةِ، وهو حَقُّ الوَفاءِ بِالأمانَةِ.

والجَهْلُ: انْتِفاءُ العِلْمِ بِما يَتَعَيَّنُ عِلْمُهُ، والمُرادُ بِهِ هُنا انْتِفاءُ عِلْمِ الإنْسانِ بِمَواقِعِ الصَّوابِ فِيما تَحَمَّلَ بِهِ.

والمعنى -والله أعلم -أن الإنْسانُ لَم يَفِ بِالأمانة التي أُنيط إليه تحمّلها، لأن من صفاته أنه {ظَلُومًا جَهُولًا}.

ويَجُوزُ أنْ يُرادَ ظَلُومًا جَهُولًا في فِطْرَتِهِ، أيْ في طَبْعِ الظُّلْمِ، والجَهْلِ فَهو مُعَرَّضٌ لَهُما ما لَمْ يَعْصِمْهُ وازِعُ الدِّينِ، فَكانَ مِن ظُلْمِهِ وجَهْلِهِ أنْ أضاعَ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ الأمانَةَ الَّتِي حَمَلَها.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: -

هل يمكن أن ينجح أحد في أمر من الأمور وهو متصف بهذه الصفات؟ هذا الإنسان التي تجتمع فيه هذه الصفات أو حتى بعضها؟ هل تنشئ خلقا للجنة؟

كلا..

ولكن الله وضع سبيلا سهلا واضحا للنجاة والفوز والفلاح، فقال تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي ..... يشقى}

بل وأخبرنا بمصادر الشر الذي بسببها يقع الإنسان في المعاصي ويتصف بتلك الصفات المذمومة: -

  • الشيطان: -فأكد القرآن على عداوة الشيطان الشديدة للإنسان بقوله: {إن الشيطان للإنسان عدو مبين} [يوسف5] وأخبرنا أنه يغوي الإنسان ويمنّيه، حتى إذا وقع تخلى عنه وتبرأ منه،

    فقال تعالى

    {وكان الشيطان للإنسان خذولا}

    [الفرقان29]

  • الوسوسة: فيذكر القرآن أن من أهم تأثيرات الشيطان في الإنسان ((الوسوسة)) سواء وسوسة نفسه الأمارة {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} او التي استخدمها الشيطان مع سيدنا آدم -عليه السلام -وزوجته في الجنة

وقد بيّن لنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم! وهذا ليس لخطورته، وإنما ليبين سهولة تأثيره على الإنسان، ولذا فإن الله تعالى زوّد المؤمنين بحائط صد ضد مكائد الشيطان، وهي: -

{وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله}

[الأعراف200]

وهكذا...

ومع ذلك،

فإن القرآن الكريم يؤكد أن كيْد الشيطان ــ مهما بلغ ــ فهو ضعيف

(إن كيد الشيطان كان ضعيفا)

[النساء76]

وهو يدعو المؤمنين ألا يتبعوه، حتى لا يصبحوا من حزبه:

(ولا تتبعوا خطوات الشيطان)

[البقرة208]

[الأنعام142] وحذّرهم من فتنته، التي أخرج بها آدم وحواء من الجنة: (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف27].

فلم يترك الله الإنسان بدون دفاع ضد الشيطان، بل إنه إذا أخلص في إيمانه، وقوي في توكله عليه، أصبح محصّنا بالكامل من إغواء الشيطان ووساوسه.

وهذا هو السبب الثاني في إغواء الإنسان وهو: -

لكن تلك الخصال السيئة التي خلق الإنسان بها، والتب على أساسها تتشكل نواياه وتصرفاته فتوقعه في الخطأ والخطيئة

 وبهما يستحق غضب الله وعقاب جهنم..

هذه الخصال يستثنى منها طائفة المؤمنين الذين أكّد الله تعالى للشيطان أنه لن يكون له عليهم سلطان: 

(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، إلا من اتبعك من الغاوين)

[الحجر42]

(إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا، وعلى ربهم يتوكلون)

[النحل99]

 وهكذا فإن تأثير الشيطان وأتباعه لا يعمل إلا في دائرة العصاة، وضعاف الإيمان،

والخلاصة: أن الشر في الإنسان يأتي من مصدريْن:

 

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ وصف الإنسان في القرآن (2)

معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day