عاشراً: دهشة واستغراب


زكريا بن طه شحادة

هذه مشاهد فذة فريدة لعباد وعابدات ملأت محبة الله تعالي قلوبهم، فأحبوا قيام الليل ،لأجل الخلوة بمحبوبهم، واجتهدوا في ذلك أشد  الاجتهاد،وإننا إذ نعرض هذه المشاهد لعباد وعابدات تفانوا في طاعة الله تعالي إلي الغاية القصوي،لتأخذنا الدهشة والغرابة ،ونحن نطالع نتفا من أخبارهم،ولكن إذا علم السر زال العجب،وإن السر في صبر هؤلاء وجلدهم علي الطاعة،وطول قيام الليل ،إلي الحد البالغ الكبير هو غلبة  المحبة علي قلوبهم ،فهؤلاء أحبوا الله تعالي حبا ملأ عليهم قلوبهم ونفوسهم،فلم يعد فيها متسع لغير الله تعالي،إلي حد أنهم لم يعودوا يشعرون ويحسون بما ينتابهم من أوجاع والام،أو بما يحدث حولهم من  أحداث،فللحب علي القلب سلطان أعظم من كل سلطان،وهذا مجرب معلوم،إذ إن من يحب أحدا من أهل الدنيا يتفاني في إرضائه ومحبته، حتي يغيبه حبه عن نفسه وعمن حوله،فيتحدث بالحديث عنده،وتجري الأحداث حوله،وهو يشهدها،وتمر بسمعه،دون أن يثبتها سمعه،ولا يشعر بها ،وبعضهم يلقي بنفسه في المخاوف والمهالك،لأجل محبوبه،وبعضهم يقتل نفسه،لأجل محبوبه،وإنما يكون هذا كله لغلبة سلطان المحبة،واستحواذه علي قلبه ونفسه وفكره،فإن للحب إذا قوي واستحكم سلطان غالب،وسكر يغيب الإحساس والشعور إلا بمحبوبه، وقد أخبر الله تعالي عن امرأة العزيز التي قال الله فيها:

[ قَدۡ شَغَفَهَا حُبًّاۖ ](1)

[ يوسف : 30 ].

،أنه كان من صنيعها معه ما نسيت نفسها،ونسيت أنها أميرة امرأة أمير،وتصرفت تصرف فتاة طائشة،لا حلم لها ولا عقل،وعرضت نفسها لمخاطرة عظيمة،كما أخبر الله تعالي عن النسوة في زمان يوسف عليه السلام لما غلب عليهن ما رأين من جمال يوسف عليه السلام،أنه أخذ عقولهن وإحساسهن،فغبن به عن أنفسهن وجراحهن وأوجاعهن

،قال تعالي:

(فَلَمَّا رَأَيۡنَهُۥٓ أَكۡبَرۡنَهُۥ وَقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ وَقُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا مَلَكٞ كَرِيمٞ) (2)

[ يوسف : 31 ].

. روي ابن جرير عن ابن عباس رضس الله عنهما،قال:"جعلن يقطعن أيديهن،وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج". وعن مجاهد:"

وَقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ

قال : حزا حزا بالسكاكين".

وعن السدي:"كانت في أيديهن سكاكين مع الأترج ،فقطعن أيديهن،وسالت الدماء،فقلن:نحن نلومك علي حب هذا الرجل، ونحن قد قطعنا أيدينا وسالت الدماء". وقال ابن زيد:"جعلن يحززن أيديهن بالسكين،ولا يحسبن إلا أنهن يحززن الترنج،قد ذهبت عقولهن مما رأين". وعن ابن إسحاق، قال: "قالت ليوسف:اخرج عليهن،فخرج عليهن،فلما رأينه أكبرنه،وغلبت عقولهن عجبا حين رأينه،فجعلن يقطعن أيديهن بالسكاكين التي معهن، ما يعقلن شيئا مما يصنعن". قال ابن جرير:"قال اخرون:بل معني ذلك:أنهن قطعن أيديهن حتي أبنها،وهن لا يشعرن،  

فعن قتادة،في قوله:

وَقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ

قال : قطعن أيديهن حتي ألقينها".

قال ابن جرير:"والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أخبر عنهن أنهن قطعن أيديهن ، وهن لا يشعرن لإعظام يوسف عليه السلام ، وجائز أن يكون ذلك كان قطعاً بإبانة ، وجائز أن يكون كان قطع حز وخدش ، ولا قول في ذلك أصوب من التسليم لظاهر التنزيل " (3) .

فإذا كان هذا قد حدث لبشر رأى من جمال بشر ما رأى ، فكيف بمن يغلب على قلبه حب الله تعالي وتعظيمه وجلاله ؟! فإن ما تراه فلوب المؤمنين العابدين المحبين وبصائرهم من جلال الله تعالى وعظمنه وهيبته ما لا نسبة معه لما رأته النسوه من شأن يوسف عليه السلام ، إلا كما يأخذ طائر بمنقاره من ماء البحر .

وصدق الله تعالى إذ يقول :

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادٗا يُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ

[ البقرة : 165 ] . (4)

، فمن أدرك هذا زال عنه العجب والدهش ، وصدق الأخبار الواردة في شأن هؤلاء العباد شديدى الحب لله تعالى ، وطمع أن يكون له معهم مشاركة فيما هم فيه ، والله تعالى أعلم . قال ابن القيم الجوزية : " وما هذا والله بالصعب ، ولا بالشديد ، مع هذا العمر القصير ، الذى هو بالنسبة إلى تلك الدار كساعة من نهار

كَأَنَّهُمۡ يَوۡمَ يَرَوۡنَ مَا يُوعَدُونَ لَمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّهَارِۭۚ

[ الأحقاف : 35 ]. (5) ،

وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ كَأَن لَّمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّنَ ٱلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيۡنَهُمۡۚ

[ يونس : 45 ] . (6). ، 

وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقۡسِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيۡرَ سَاعَةٖۚ كَذَٰلِكَ كَانُواْ يُؤۡفَكُونَ

[ الروم : 55 ]. (8).

قَٰلَ كَمۡ لَبِثۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ عَدَدَ سِنِينَ [112] قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖ فَسۡـَٔلِ ٱلۡعَآدِّينَ [113] قَٰلَ إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗاۖ لَّوۡ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ

[ المؤمنون : 112-114 ]. (9). 

فلو أن أحدنا يجر على وحهه ، يتقي به الشوك والحجارة إلى هذه الحياة ، لم يكن ذلك كثيراً ولا غبناً في جنب ما يوقاه (10) " (11).

المراجع

  1. يوسف : 30 .
  2.  يوسف : 31 .
  3.  جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، لابن حرير الطبري : 135/13 .
  4.  البقرة : 165 .
  5.  الأحقاف : 35 .
  6. يونس : 45 .
  7.  النازعات : 
  8. 46 الروم : 55 . 
  9.  المؤمنون : 112-114 .
  10.  يعني لم يكن كل ما يجد من مشقة في الدنيا خسارة في مقابل ما كان يحذره في الآخرة من فوت النعيم ، ودخول الجحيم ، والله تعالى أعلم .
  11.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ، لابن قيم الجوزية : 258/3 .





السابق

مقالات مرتبطة بـ عاشراً: دهشة واستغراب

  • الأمور التي تنافي اليقين

    الشيخ / خالد بن عثمان السبت

    عاشراً: الأمور التي تنافي اليقين: وأعظم ذلك أن يكون القلب متطلعاً إلى غير الله عز وجلّ، متعلقاً به، ملتفتًا إليه،

    04/04/2018 2859
  • نفحات قرآنية في سورة القصص

    الشيخ محمد بن صالح الشاوي

    قال تعالى: ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ

    16/08/2020 1111
  • الأمور التي تنافي الخشوع

    الشيخ / خالد بن عثمان السبت

      عاشراً:الأمور التي تنافي الخشوع: أولها: كثرة الحركة سواء في الصلاة أو خارج الصلاة: كما قلت لكم في

    10/04/2018 2126
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day