العدل في لإسلام نموذج للعدل الإلهي
عندما نتحدث الناس عن مقومات بناء الأمم، وإقامة الدول، فلابد أن يكون العدل من أهم هذه المقومات، إذ بالعدل قامت السموات والأرض، وهو الحارس للعقيدة والمال والنفس والعرض، وهو خصب البلاد وأمن العباد، فإلى العدل يأوي الضعفاء، ويلوذ إليه الفقراء، وفي العدل إنصاف للمظلوم، ورزق للمحروم، به يجتمع الشمل، وتتحد الكلمة وتدوم الرابطة، وتقوى الأواصر بين الناس. إنه وبلا منازع ملاك الأمر كلّه، وجماع الخير ورأس الفضيلة، وعليه تتوقف سعادة وطمأنينة المجتمع، وبه يأمن الإنسان على نفسه وماله وعرضه، فإذا ما أمن الناس وسعد المجتمع بالعدل، عمل الفرد فيه بحرية ونشاط فيزداد الإنتاج ويستقر حال البلاد ويسعد الأفراد والعباد. لذا فالإسلام دين العدل، وإذا كان لكل دين سمة فسمة الإسلام العدل؛ فالعدل والعدالة في شريعته حقيقة واقعة وفريضة واجبة، فرضها الله على الجميع دون استثناء، ففرضها على الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره بها،
قال تعالى:
﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ ﴾
[الشورى15]
وأمر الله بإقامته في كل الأمور
فقال تعالى
﴿وَأَقِيمُواْ الوَزنَ بِالقِسطِ وَلَا تُخسِرُواْ المِيزَانَ﴾
[الرحمن:9]
وقال سبحانه:
إِنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ ﴾
[النحل:90]
ولو تأملنا آيات القرآن لنقف على مدى أهمية تلك القيمة العظيمة لوجدنا أنه قد تعددت صور لفظ العدالة ومعانيها في القرآن الكريم، فيأتي بمعناه المفهوم وهو (الإنصاف وعدم الظلم والجور)،
فمن ذلك قول الله تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾
[النساء 58]
والخطاب الآمر بالحكم بالعدل في هذه الآية موجه للذين يتولون الحكم بين الناس في الخصومات، والمكلف بالحكم بين المتنازعين – كالقاضي والمحكّم ومن إليهما -عليه العناية بإظهار المحق منهما من المبطل، أو إظهار الحق لأحدهما وأخذ حقه ممن اعتدى عليه، فتتحقق المساواة بين الناس ويتمكن أولوا الرأي من تعيين الأشياء لمستحقيها، وفي تمكين كل ذي حق من حقه، وذلك من خلال تلك القيمة العظيمة، لأنها تدخل في جميع المعاملات، وهو من حسن الفطر، ويكون في الحكم، وفي أداء الشهادة بالحق هو قوام صلاح المجتمع الإسلامي، والانحراف عن ذلك ولو قِيدَ أنملة يجر إلى فساد متسلسل.
وفرض الله – تبارك اسمه – القيام بالعدل بين المسلمين وأعدائهم
﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون﴾
[المائدة:8]
والشنآن هو البغض، أو شدته، فنهى الله تبارك وتعالى عن ترك العدل الواجب على المؤمنين بسبب البغضاء بينهم وبين غيرهم. ثم أكد سبحانه وجوب العدل في كل حال بجملة
﴿ اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾
أي أقرب لأن تتقوا الله، أو لأن تتقوا النار.
وقد جمع القرآن الكريم بين الأمر بالعدل الخاص والأمر بالعدل العام في آية واحدة هي قوله تعالى في شأن قتال البغاة من المسلمين:
﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين﴾
[الحجرات:9].
فبعد أن تبغي إحدى الطائفتين على الأخرى يأتي الأمر بالإصلاح بينهما بالعدل. والمراد به العدل الخاص في شأن الخسائر التي لحقت بكل فريق إذ تفاوتها يوجب النظر الذي يراعي تحقيق العدالة لكل منهما. والفئة التي خضعت للقوة وألقت السلاح تكون شاعرة بانتصار الفئة الأخرى عليها، كسيرة الخاطر لهزيمتها، فأوجب الله تعالى على المسلمين أن يستعيدوها إلى الجماعة ويشعروها بأخوة الإسلام لئلا يورث القتال بينها وبين الطائفة الأخرى بغضاء ذميمة، أو شحناء مستكنة، يستثيرها أدنى مثير فينشب القتال من جديد.
فالعدل إذا أصل جامع للحقوق، على هذا النحو، فلا ريب أنه يمثل مقصدًا عامًا من المقاصد القرآنية التي يتحقق بمراعاتها،وقد روي عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية:
{{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ...}} إلى آخرها ثم قال: «إن الله عز وجل جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة، فوالله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئًا إلا جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئًا إلا جمعه.
ونتعلم مما سبق ذكره حرص الشارع على تطبيق هذا المقصد الإسلامي الخطير، والذي يعتبر دلالة كبرى على أنه من صفات رب العالمين الذي شرّع للعباد هذا التشريع، وفرضه عليهم وحرم ضده على العالمين، إذ هو نفسه سبحانه قادر على الانتقام ممن يريد، وهو لا يسئل عما يفعل سبحانه وتعالى، إلا أننا نجد أنه نفى الظلم عن نفسه سبحانه وتعالى في عشرات الآيات التي تؤكد نفي الظلم عن الله سبحانه وتعالى
منها قوله تعالى:
{{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}}
[النساء/ 40)،
وقوله تعالى:
{{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}}
[يونس/ 44].
ومثل هذا لا يصدر إلا من حكم عدل قادرة أشد القدرة على الظلم، ولكنه لا يفعلها بل وحرمها على نفسه وأجب على نفسه العدل،
فقال:
((يا عبادي إني حرمت الظلم على تفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا))
ونستنتج مما سبق وغيره أن العدل أرفع شأناً من أن يكون مجرد قاعدة من قواعد التشريع أو قواعد الفقه الإسلامي، بل هو روح عامة نابعة من أصل التوحيد وجارية في كل عروق الإسلام، وهنا يبرز أهمّ مظهر وأوثق علاقة عقائدية بين العدل والعالمية.