القرآن خطة حياة من الولادة إلى الآخرة
من المفروغ منه في عقيدة المسلم أن القرآن الكريم إنما هو قبل كل شيء كتاب هداية وإرشاد،
كما قال تعالى في وصفه:
{هدى للناس}
(البقرة:185)
وقال:
{يهدي إلى الرشد}
(الجن:2].
جاء القرآن الكريم بحقائقَ عن خلق الإنسان لم تكنِ البشريةُ قد عرَفَتْها بعدُ، ومِن أهم هذه الحقائق أن الخلق لم يكن دَفعة واحدة، وإنما مرَّ بمراحلَ مختلفةٍ، فالإنسان قد مر بمراحل مختلفة في حياته منذ ولادته حتى وفاته، وقد وضحها لنا القرآن، فلم يترك الإنسان لا يعلم شيئا عن مبدإه ولا مصيره، بل أخبره بكل شيء، ووضح له سبل السعادة في حباته وعوامل الشقاء كذلك.
ولا غرو أن مراحل الإنسان في الحياة تتصف بصفات معينة بينها الله عز جل في كتابه العزيز الحكيم أنه خلق الأنسان على أطوار ومراحل، متتابعة متلاحقة متكاملة،
وقال تعالى:
{ وقد خلقكم أطوارا}
[نوح-14]
فبعد خلق الإنسان ودخوله في مرحلة النطفة في الرحم إلى مرحلة العلقة فمضغة، والانتقال إلى مرحلة تكون العظام والعضلات، والانتهاء بمرحلة تكَون الطفل بشكل كامل وولادته وقدومه إلى الحياة.
يقول عز وجل :
{فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب}
(الطارق– 5 7).
ويقول:
{فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة}
(الحج: 5).
ويقول :
{فخلقنا المضغة عظاماً}
(المؤمنون: 14).
{ثم نكسوها لحماً}
(البقرة: 259).
فما هي مراحل الإنسان التي يمر بها في الحياة؟ وماهي خصائص ومميزات كل مرحلة؟
ولنبدأ القصة من مبدإها الحقيقي، النشأة الأولى لكل الناس، فالله خلق أبانا آدم من طين
{ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين}
بعد أن خلق الله عز وجل سيدنا “آدم” عليه السلام من تراب وطين،
{هو الذي خلقكم من تراب}
(غافر 67).
ثم خلق من “آدم” زوجه “حواء”، ليسكن إليها، وليكون منهما تناسل البشرية بطريق الزواج. بدأ التناسل البشري، مع أول ولد من أولاد “آدم”، عن طريق الحمل والولادة، في أطوار ومراحل، تدل على عظمة الله تعالى، الذي خلق الإنسان وسائر الأكوان.
حتى يتكون بعدها الجنين، يستمر تكون الجنين في بطن أمه تسعة أشهر، ليكتمل نموه ويصبح جاهزا لمتابعة مراحل حياته التالية. وقد ذكر الله عز وجل هذه المرحلة بالإجمال والتفصيل،
يقول تعالى:
{هو أعلم بكم إذ أنشاكم من الأرض وإذ أنتم أجنّة في بطون أمهاتكم}
[النجم-32]،
ثم فصّل الله عز وجل مراحل النمو قبل أن يكتشفها علم الأجنة الحديثُ، فحدثنا عن المراحل التي يتمُّ فيها خلق الإنسان، ولم يجدِ العلمُ الحديث ما هو أنسب ولا أفصح من ألفاظ القرآن الكريم للتعبير عن هذه المراحل والأطوار؛ وهي:
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾
[المؤمنون: 12 – 14].
ثم ذكر لنا عوامل الإصلاح بالأوامر القرآنية، من طاعات وحسن اخلاق، والحث على التحلي بالآداب، وحذر كذلك من خطوات الشيطان، ونبه على طرق إغوائه، قُولُ رَبَّنَا فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ:
(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)
[الأنعام:153].
حذَّرنا رَبُّنَا فِي كِتَابِهِ مِنْ خطَر الشَّيْطَان وشِدَّةِ عَداوتِه لِلْإِنْسَان، فِي كَثِيرٍ مِنْ الْآيَاتِ، مرَّةً بِبَيَان كَيَدِه وحِيَلِه، ومرَّة بِالتَّحْذِير مِن اتِّباعِه وعِبادتِه، ومرَّة بالاستِعاذة مِن شرِّه، ومرَّة ببَيان صِفاته الذَّميمة وأخْلاقه.
يقول الله -تعالى- في محكم آياته:
(إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)
[فاطر:6]
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
﴿ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ﴾
[آل عمران: 158].
تأمل مصير الإنسان بعد موته!
فيحكي لنا القرآن حال الإنسان الحظة بلحظة، فأول ما يحدث له
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ }
[ق 19]
ثم تأتيه الملائكة إما أن تبشره، أو تخوّفه، فإن كان صالحا فحاله ساعتها
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
[النحل:32]
وإن كان من الظالمين، فيخبر تعالى عن حالهم عند احتضارهم، ومجيء الملائكة لقبض أرواحهم الخبيثة:
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
[النحل:28]
وساعتها فإن الظالم يتمنى ألا يموت:
{حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}
[المؤمنون:99-100]،
فإذا خرجت روحه أخبرنا ربنا بحال الناس،
قال الله:
{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا}
[الفرقان:22]
فهم يرون الملائكة في وقت الشر الذي تبشرهم فيه الملائكة بالعذاب، أما البشرى بالحسنى فلا:
{لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا}
، هذا بخلاف المؤمنين؛ فإنهم يبشرون بالخيرات، وحصول المسرات التي
قال الله تعالى فيها:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ}
يعني: عند الاحتضار وخروج الروح
{أَلَّا تَخَافُوا}
أي: من هذا المشهد
وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}
[ فصلت:30]
وقال تعالى واصفا حالهم
{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}
[محمد:27]
فإذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم، وتعاصت الأرواح في أجسادهم، وأبت الخروج، واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب، يخرجون أرواحهم رغماً عنهم، مَن هؤلاء؟
{الذين اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}
[محمد:28]
فإذا حانت ساعة الاحتضار
{ظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}
[القيامة:26ٍ]
{فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ}
[المنافقون:10]،
فإذا حضر الموت المؤمن فرح،
{فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ}
[الواقعة: 88-89]،
فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله، والله للقائه أحب، وأما الطائفة الاخرى،
{مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ}
[الواقعة:92-93]،
يكره لقاء الله، والله للقائه أكره".
ثم يوم القيامة
{نضع الموازين القسط}
{فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون}
{ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون}{فأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها}
{واما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها}
[هود ]
ولا يزال القرآن يحدثنا عن صور نعيم الجنة لأهلها، وصور عذاب النار لمن دخلها.
فما أجمله من كتاب، وضّح لنا طريق حياتنا، وسبل معاشنا، ومصيرنا بعد مماتنا،
وصدق الله حين قال ،
{ ما فرطنا في الكتاب من شيء}