من نبوءات القرآن
ضمن القرآن الكريم جملة من النبوءات التي تشكل إحدى نواحي الإعجاز القرآني البارزة، وهي نبوءات معجزة بلا شك، ومن هذه النبوءات: -
انتصار الروم على الفرس: -
قال تعالى:
{غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد}
[الروم:2-4).
كما قال تعالى:
{في أدنى ا لأرض}
على أن القرآن لم يكتف بهذين الوعدين، بل عززهما بثالث،
حين قال:
{ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم}
(الروم:4-5)،
إشارة إلى أن اليوم الذي يكون فيه النصر هناك للروم على الفرس، سيقع فيه ها هنا نصر للمسلمين على المشركين.
وأكد سبحانه هذا الحدث أعظم التأكيد
بقوله:
{وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون}
(الروم:6).
ولقد صدق الله وعده، فتمت الغلبة للروم على الفرس، بإجماع المؤرخين في أقل من تسع سنين. وكان يوم نصرهم هو اليوم الذي وقع فيه النصر للمسلمين على المشركين في غزوة بدر الكبرى.
التنبؤ بحفظ النبي صلى الله عليه وسلم من القتل:
وقد ورد هذا في قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾
[المائدة: 67].
فالعصمة هنا مقصود بها العصمة من القتل، حتى يكمل رسالته، ويبلغ دعوته على الوجه الاكمل بلا نقصان؛ لذلك لما نزلت هذه الآية أمر الصحابة الذين كانوا يحرسونه بأن ينصرفوا؛ لأن الله قد عصمه،
فعن عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةَ:
﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ مِنَ القُبَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا؛ فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّه.
﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾
[الأنعام: 18]،
وذلك في قوله تعالى:
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾
[الإسراء: 88]،
قال تعالى:
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
[هود: 13]،
فقال لهم:
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾
[البقرة: 23، 24].
أليس هذا التحدِّي دليلًا قاطعًا على صدق النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل يمكن لبَشَرٍ أن يتحدَّى مثل هذا التحدِّي، الذي ظل ثابتًا طيلة هذه القرون، مع كثرة المعارضين للقرآن الكريم، والطاعنين فيه قديمًا وحديثًا، ومع ذلك لم يزده مرور الأيَّام وكرور الأعوام إلا صدقًا على صدقه، وقوة على قوَّتِه.
التنبؤ بهلاك بني إسرائيل: -
قال الله تعالى:
(وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ۚ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ۘ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
[سورة الإسراء].
وقد وقع الفساد والإفساد مرتين: وهاتان المرّتان لم تكونا قبل البعثة، وإنما هُما في الإسلام.
المرة الأولى كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
الآخرة: هي التي نحن فيها الآن، والتي ستسوءُ فيها وُجوههم، وندخل المسجد كما دخلناه أوّل مرة، ونُدمّر فيها ما علوا تدميراً، إن شاء الله رب العالمين ..
وقد تحدث الله عن الإسراء بقدر ما يُبشّرُ نبيه والمسلمين، بأنّ أمرهم سيمتد ويعلو وشيكاً حتى تَدين لهم عاصمة أهل الكتاب،
فهو سبحانه وتعالى يقول:
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)
ولم يقُل من مكة إلى بيت المقدس كما هُو الحال، إذ الكعبة يومئذٍ لم تكن مسجداً، وإنّما كانت بيتاً تقوم حوله الأصنام، ويُطيّفُ به العائدون المشركون، ولم يكن هيكل داوود وسليمان في دولة يهوذا وإسرائيل مسجداً، وإنما كان بيتاً يأكل بنو إسرائيل من حوله السُّحت ويعيثون الفساد ..
ولكن الله عزو وجلّ حدّث عن هذا الإسراء بأنه انتقال من مسجد إلى مسجد، تبشيراً للمسلمين بأن أمرهم سيعلو ويتم، بحيثُ يُصبح البلد الذي استُضعفوا فيه وهانوا وحُلّت حُرماتهم فيه "مسجداً حراماً" ودار أمن وإسلام، ليس هذا فحسب بل سيمتد نُفوذه وضياؤه بحيثُ يصل عاصمة أهل الكتاب، ويُصبحُ هيكل داوود وسُليمان لهم "مسجداً أقصى" كذلك فهم أولى به
(إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) ..
فقال تعالى:
(وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا)
فهُنا نص الله ينص على أنّه قضى أنهم يُفسدون في الأرض مرتين، فإذا جاء وعد أولاهُما كان كذا ... دلّ ذلك على أنّ المرتين غير ما سبق أن سجّل لهما، وأنهما يقعان في المستقبل بالنسبة لمن أُنزل عليه "الكتاب" صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ الحديث من أوّله تبشير وإيماءٌ لمستقبل، فذلك من الإنباء بالغيب والإخبار بما لم يقع، وإلاّ فهُم أفسدوا من قبل سبعين مرّة، فالمرتان المعنيّتان في الآية وقعتا بعد، وقد أكّد ذلك إعجاز القُرآن، وصدقُ ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ..
ثُمّ قرر سبحانه بعد ذلك على الفور عاقبة أمرهم؛ لأنها معروفة محتومة؛
فقال تعالى:
(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ...)
[الإسراء: 7 -8] ..
فيقول سبحانه:
(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ)
(لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ)
(وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ)
(كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ)
(وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا)