فصل في شرح أسماء الله تعالى وتفسيرها وبيان معناها وهو مما يزيد الإيمان ويعمقه في النفوس المؤمنة

فصل في شرح أسماء الله تعالى وتفسيرها وبيان معناها وهو مما يزيد الإيمان ويعمقه في النفوس المؤمنة


عبد الخالق بن جار الله

وهذا النوع هو المقصود الأعظم، وما مضى وسيلة وتتميم وحفظ لهذا النوع، فإن جميع ما ينزه الله عنه فإنما ذلك لأجل ثبوت ضده. وهذا النوع مبناه على إثبات جميع صفات الله الموجودة في الكتاب والسنة والأسماء الحسنى ومعانيها على وجهها والتفقه في معرفة معانيها والتحقق بها تصديقاً ومعرفة وتعبداً بها. وكلما قويت هذه الأمور قوي التوحيد في القلب حتى يكون في قلوب العارفين الربانيين أعظم من الجبال الرواسي، وأطيب وأحلى وألذ من كل اللذات.
 

وذلك بإثبات أنه (العلي الأعلى) بكل وجه واعتبار: علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر، فعلو الذات هو أنه مستو على عرشه فوق جميع خلقه، مباين لهم، وهو مع هذا مطلع على أحوالهم، مشاهد لهم، مدبر لأمورهم الظاهرة والباطنة، متكلم بأحكامه القدرية وتدبيراته الكونية وبأحكامه الشرعية. وأما علو القدر فهو أن صفاته كلها صفات كمال، وله من كل وصف ونعت أكمله وغايته. وأما علو القهر فهو قهره تعالى لجميع المخلوقات، فالعالم العلوي والسفلي كلهم خاضعون لعظمته مفتقرون إليه في كل شئونهم.


ومن أسمائه العظيمة (الأول، والآخر، والظاهر، والباطن) وقد فسرها صلى الله عليه وسلم  تفسيراً كاملاً واضحاً

فقال صلى الله عليه وسلم :

"أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء"

([1])

ففسر كل اسم بكل معناه، ونفى عنه كل ما يضاده، فمهما قدر المقدرون وفرض الفارضون من الأوقات السابقة المتسلسلة إلى غير نهاية فالله قبل ذلك، وكل وقت لاحق مهما قدر وفرض فالله بعد ذلك. ولهذا لا يستحق اسم (واجب الوجود) إلا هو، فمن خصائصه أنه لا يكون إلا موجوداً كاملاً فلا يشاركه في وجوب الوجود أحد، فوجوب وجوده بنعوته الكاملة في جميع الأوقات، وهو الذي أوجد الأوقات وجميع الموجودات، وكلها مستندة في وجودها وبقائها إلى الله، فالأول والآخر يتضمنان إحاطته بجميع الأزمنة وجميع المخلوقات من كل وجه، والظاهر والباطن يقتضيان إحاطته بجميع الأمكنة وأنها تنتهي إلى الله في العلو والقرب، ولا منافاة بين الأمرين في حقه تعالى لأنه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، فهو العلي في دنوه القريب في علوه.



ومن أسمائه الحسنى (الكبير، العظيم، الجليل) وهو الذي له كل عظمة وكبرياء وجلال: ومعاني العظمة نوعان: أحدهما أنه متصف بصفات المجد والعظمة والكبرياء، الثاني أنه يستحق أن يعظم غاية التعظيم، ويخضع العباد لجلاله وكبريائه وإخلاص المحبة والعبودية له. ومن كمال عظمته تنزيهه عن كل صفة نقص، وتقديسه عن أن يماثله أحد من خلقه.


ومن أسمائه (الجليل، الجميل) وما أحسن الجمع بينهما، فإن "الجليل" من له صفات الجلال والكبرياء والعظمة، و "الجميل" من له نعوت الحسن والإحسان، فإنه جميل في ذاته، وجمال المخلوقات بأسرها من آثار جماله، وهو الذي أعطاهم الجمال، فمعطي الجمال أحق بالجمال. وهو جميل في أسمائه لأنها كلها حسنى. وجميل في صفاته إذ كلها صفات كمال. وجميل في أفعاله فلا أحسن منه حكماً ولا وصفاً.
ومن أسمائه العظيمة (الحميد، المجيد) فالحمد كثرة الصفات والخيرات، والمجد عظمة الصفات وسعتها، فهو الحميد لكثرة صفاته الحميدة، المجيد لعظمتها وعظمة ملكه وسلطانه، فهو يقارب الجمع بين الجليل والجميل.



ومن أسمائه الحسنى (السميع، البصير) الذي يسمع جميع الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، فالسر عنده علانية والبعيد عنده قريب، ويرى دبيب النملة السوداء في جوف الصخور في الليالي المظلمة وجريان القوت في أعضائها وعروقها الدقيقة الضئيلة، وسريان المياه في أغصان الأشجار والنبات، ويرى خيانات الأعين، وما هو في أخفى الأمكنة.
ومن أسمائه الحسنى (العليم) الذي أحاط علمه بكل شيء، يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. ويعلم الواجبات والممتنعات والجائزات وما في أقطار العالم العلوي والسفلي

"وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" سورة الأنعام آية 59، "يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى" .

سورة طه آية 7


وهو تعالى لم يزل ولا يزال (متكلماً) بكلماته الكونية والشرعية

"وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً"

صدقاً في الأخبار وعدلاً في أوامرها ونواهيها

"وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "

سورة لقمان آية 27

وكلامه تعالى نوعان: نوع بلا واسطة كما كلم موسى وآدم وحواء ومحمداً ليلة المعراج ويكلم عباده في الآخرة وفي الجنة، ونوع بواسطة أنبيائه ورسله.



ومن أسمائه (القوي، العزيز، المتين، القدير) ومعانيها متقاربة تقتضي كمال قوته وعظمته وكبريائه فلا يملك الخلق نفعه فينفعونه ولا ضره فيضرونه، وكمال اقتداره على جميع الموجودات والمعدومات، وأن جميع العالم طوع قدرته ومشيئته يتصرف فيها بما شاء وكيف يشاء

" إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"

سورة يس آية 82

وقال تعالى:

"إِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا"

سورة يونس آية 65

وهي عزة الامتناع والقوة والقهر والغلبة، كلها قد كملت لله الواحد القهار من جميع الوجوه.



ومن أسمائه (الغني) بذاته عن جميع مخلوقاته، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه بوجه من الوجوه فكل المخلوقات مفتقرة إليه في إيجادها وإعدادها وإمدادها في أمور دينها ودنياها في جلب المنافع ودفع المضار، وهو الذي أغناها وأقناها، ومن كمال غناه أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ولم يكن له كفواً أحد، ومن سعة غناه أن جميع الخيرات والعطايا والنعم في الدنيا والآخرة والنعيم المقيم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قطرة من بحر غناه وجوده وكرمه، فهو الغني بذاته المستغني عن جميع مخلوقاته، المغني لعباده بما أدره عليهم من الخيرات وأنزله من البركات.



ومن أسمائه الحسنى (الحكيم) وهو الذي يضع الأمور مواضعها اللائقة بها وله الأحكام الشرعية والأحكام القدرية، وله الحكمة في شرعه والحكمة في قدره، فأحكامه الشرعية هي ما جاءت به الرسل، وهي متعلق رضاه ومحبته ومناط أمره ونهيه، والأحكام الكونية القدرية وهي جميع التدابير جليلها وصغيرها الواقعة في العالم العلوي والعالم السفلي، وقد يجتمع في حق المؤمن الحكمان إذا أطاع الله، وقد ينفرد الحكم القدري في وجود ما وجد من المعاصي والمباحات، ولذلك يقال: من وافق الحكم الشرعي فقد وافق رضى الله تعالى ومحبته، فإن الله يحب المؤمنين والمتقين والصابرين. ومن وافق حكمه القدري فقط فإن كان معصية فله الذم والعقوبة لمخالفته لأمر الله وتجرئه على معاصيه، وإن كان مباحاً فلا له ولا عليه، ولكن قد يفوته من الخير ما هو يصدد فعله. والقضاء صفة لله، والله لا يوصف إلا بكل وصف جميل، والمقضي فعل الإنسان وصنعته وهو ينقسم إلى محمود ومذموم ومباح فلذلك وجب التفصيل في الرضا بالقضا، فالرضا بنفس ما يقدره ويرضاه بقطع النظر عن فعل العبد لازم، والرضا بالمقضي الذي هو فعل العبد فيه تفصيل بحسبه إن كان خيراً تعين الرضاء به وإن كان شراً تعين عدم الرضاء، فأحكام الرب القدرية والشرعية وكذلك أحكام الجزاء كلها متضمن لها اسمه (الحكيم) وهو الذي له الحكم بين عباده الذي لا حاكم إلا هو بالحق والعدل والحمد. وأما الحكمة فهي وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها اللائقة بها، وهو تعالى قد أتقن ما صنعه وأحسن ما شرعه، فالمخلوقات كلها والشرائع مشتملات على الحِكَم والغايات الحميدة، كما أنها في نفسها في غاية الإحكام، فمن أجَلِّ الغايات في ذلك أنه خلق الخلق وشرع الأمر ليعرف بأسمائه وصفاته، وليعبد وحده لا شريك له، ويحمد ويشكر ويثنى عليه، ويخلص له الدين، وكذلك ليبتلي عباده أيهم أحسن عملاً، وليجازيهم بأعمالهم خيرها وشرها، فالحكيم هو الحاكم بين عباده في أقداره وشرائعه وجزائه وكون أحكامه في نفسها جارية على الحكم والحق في أصلها وفرعها وغاياتها وثمراتها وتفصيل هذه الجمل كثير جداً.

 
 

المراجع

  1. رواه أحمد ومسلم وغيرهما.

 

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ فصل في شرح أسماء الله تعالى وتفسيرها وبيان معناها وهو مما يزيد الإيمان ويعمقه في النفوس المؤمنة

  • الإيمان يزيد و ينقص

    د. عيسى بن عبدالله السعدي

    الإيمان يزيد بالطاعة و ينقص بالمعصية ؛ فمن وفقه الله لما يزيد به إيمانه من العمل الصالح فهو بحاجة إلى حفظه مما

    18/08/2022 658
  • الإيمان قول وعمل واعتقاد

    فريق عمل الموقع

    أجمع أهل السنة على أن الإيمان قول وعمل، أو قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان. قال الشافعي رحمه الله:

    30/11/2023 378
  • قسم العقيدة السؤال السابع والثلاثون

    يزن الغانم

    س: هل الإيمان يزيد وينقص؟ج- الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. قال تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ

    31/10/2021 737
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day