حلية السالك في طريق الله
لكل سالك في طريق الله عز وجل زينة تزينه وحلية تجمله، مثل التخلق بأخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم واتباع أوامر الله، وكنا في المقال السابق تحدثنا عن قطار النعيم، وهو طلب العلم الشرعي، ولكن المؤمن في طلبه للعلم لابد أن يتحلى ببعض الآداب، فنهضة الأمة لن تقوم إلا من خلال المسلم الخلوق الذي يتحلى بآداب النبي صلى الله عليه وسلم.
"إن لطلب العلم الشرعي، والتعايش مع آيات الكتاب العزيز، وأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم آثارًا جليلة على سلوك الداعية، وأدبه الباطن والظاهر.
وما رفع الله من رفع من أئمة العلم إلا لطهارة قلوبهم، ونقاء سرائرهم بعدما اختلطت بها آي الذكر الحكيم، وأحاديث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم؛ يقول سبحانه وتعالى: {يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]" (وقل ربي زدني علمًا، هشام مصطفى عبد العزيز، ص69).
سلوكيات واجب التحلي بها:
"إن تنمية الأخلاق الحسنة، يعدُّ هدفًا جامعًا شاملًا لجوانب التربية السلوكية والخلقية، وسائر الأهداف إنما هي فرع له وتفصيل، ولقد جاء الشرع بالحثِّ على محاسن الأخلاق والنهي عن مساوئها مطلقًا، ونصَّ على جوانب من الخلق الحسن، وجوانب من الخلق السيئ، وترك جوانب من تفصيل ذلك وضوابطه لأعراف الناس التي تختلف باختلاف الزمان والمكان.
فالمروءة ومعاليها من محاسن الأخلاق، بل هي مرتبطة بالعدالة وقبول الشهادة والرواية، والكرم خصلة كريمة محمودة باتفاق العقلاء" (تربية الشباب "الأهداف والوسائل"، محمد الدويش، ص(142-143)، باختصار).
رفع الدرجات على قدر المعاملات:
إن رفعتك عند الله أيها السائر في طريق الرحمن، على قدر تحليك بالآداب والأخلاق فقد (خص سبحانه رفعه بالأقدار والدرجات الذين أوتوا العلم والإيمان، وهم الذين استشهد بهم في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّـهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
وأخبر أنهم هم الذين يرون ما أُنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق بقوله سبحانه وتعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6].
فدل على أن تعلم الحجة والقيام بها يرفع درجات من يرفعها، كما قال تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} [الأنعام: 83]، قال زيد بن أسلم: بالعلم.
فرفع الدرجات والأقدار على قدر معاملة القلوب بالعلم والإيمان، فكم ممن يختم القرآن في اليوم مرة أو مرتين، وآخر لا ينام الليل، وآخر لا يفطر، وغيرهم أقل عبادة منهم، وأرفع قدرًا في قلوب الأمة، فهذا كرز بن وبرة وابن طارق يختمون القرآن في الشهر تسعين مرة، وحال ابن المسيب وابن سيرين والحسن وغيرهم في القلوب أرفع.
وكذلك ترى كثيرًا ممن لبس الصوف ويهجر الشهوات ويتقشف، وغيره ممن لا يدانيه في ذلك من أهل العلم والإيمان، أعظم في القلوب وأحلى عند النفوس، وما ذاك إلا لقوة المعاملة الباطنة وصفائها، وخلوصها من شهوات النفوس وأكدار البشـرية، وطهارتها من القلوب التي تكدر معاملة أولئك.
وإنما نالوا ذلك بقوة يقينهم بما جاء به الرسول، وكمال تصديقه في قلوبهم، ووده ومحبته، وأن يكون الدين كله لله؛ فإن أرفع درجات القلوب فرحها التام بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وابتهاجها وسرورها؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد: 36]، وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّـهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
ففضل الله ورحمته: القرآن والإيمان، من فرح به فقد فرح بأعظم مفروح به، ومن فرح بغيره فقد ظلم نفسه، ووضع الفرح في غير موضعه، فإذا استقر في القلب، وتمكن فيه العلم بكفايته لعبده، ورحمته له، وحلمه عنده، وبره به، وإحسانه إليه على الدوام؛ أوجب له الفرح والسرور أعظم من فرح كل محب بكل محبوب سواه، فلا يزال مترقيًا في درجات العلو والارتفاع بحسب رقيه في هذه المعارف" (مجموع فتاوى ابن تيمية، 3/399).
ومن ذلك يعلم أن نيل شرف العلم وفضله لا يكون إلا لمن ربَّاه هذا العلم وزكاه حتى استقام باطنه وظاهره على آداب الشـرع الظاهرة والباطنة، ولذلك كان التزام الآداب هو السبيل للانتفاع بالعلم، كما قال عبد الله بن المبارك: "لا ينبل الرجل بنوع من العلم، ما لم يزين علمه بالأدب" (غذاء الألباب، السفاريني، 1/27).
الحصن الخامس:
لما تغافل طلبة العلم عن الاهتمام بالآداب الشـرعية؛ ظهر الالتزام الهش، وظهرت الانحرافات الفكرية والسلوكية والأخلاقية، لأن تلك الآداب في حقيقة الأمر حصن الالتزام والإيمان، فإذا تُرِك ذلك الحصن؛ طمع الشيطان في الذي يليه، وهكذا، حتى تنقض عُرَى الإيمان الواحدة تلو الأخرى.
قال الحجاوي رحمه الله: "مثل الإيمان كمثل بلدة لها خمسة حصون: الأول من ذهب، والثاني من فضة، والثالث من حديد، والرابع من آجر، والخامس من لَبِن، فما زال أهل الحصن متعاهدين حصن اللبن، لا يطمع العدو في الثاني، فإذا أهملوا ذلك؛ طمعوا في الحصن الثاني، ثم الثالث حتى تخرب الحصون كلها. فكذلك الإيمان في خمسة حصونٍ: اليقين، ثم الإخلاص، ثم أداء الفرائض، ثم السنن، ثم حفظ الآداب، فما دام يحفظ الآداب ويتعاهدها؛ فالشيطان لا يطمع فيه، وإذا ترك الآداب؛ طمع الشيطان في السنن، ثم في الفرائض، ثم في الإخلاص، ثم في اليقين" (غذاء الألباب، السفاريني، 1/37).
الأدب من النبوة:
فالأدب دليل على الالتزام الحقيقي، ولذا جُعل جزءًا من أجزاء النبوة، فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الهدي الصالح، والسمت والاقتصاد، جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة» [حسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (4776)].
هدي السلف:
كانت وصية سلفنا الصالح بتعاهد الأدب أكثر من وصيتهم بتعاهد العلم: قال أبو عبد الله البلخي: "أدب العلم أكثر من العلم".
وقال الأحنف بن قيس: الأدب نورُ العقل، كما أن النار نور البصيرة، وقال ابن سيرين رحمه الله: كانوا [أي الصحابة] يتعلمون الهدي [أي السيرة والهيئة والطريقة والسَّمْت] كما يتعلمون العلم، وقال بعضهم لابنه: يا بني، لأن تتعلم بابًا من الأدب أحب إليَّ من أن تتعلم سبعين بابًا من أبواب العلم.
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: "الحكايات عن العلماء أحب إليَّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم"، وقال الحسن البصري رحمه الله: "إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين"، وقال ابن المبارك رحمه الله: "تعلمت الأدب ثلاثين سنة، وتعلمت العلم عشرين سنة" (آداب السامع والمتكلم، ابن جماعة، 1/51).
وقال القاسمي رحمه الله: "أدب النفس ممدوح بكل لسان، ومتزَّين به في كل مكان، وباقٍ ذكره مدى الأزمان، وكل من أعار الوجود نظرة البصير؛ علم أن حاجة المرء إلى تأديب نفسه من أهم الحاجات، وإذا كان الرجال بالأعمال؛ فإن الأعمال هي آثار الآداب والأخلاق والشهادات فحسب، فإن العلم آلة تديرها الأخلاق، وتسيرها الآداب.
أدب الظاهر عنوان أدب الباطن:
اعلم أيها السالك في طريق الله، أن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر، والآداب رشح الأرواح السامية، والنفوس المهذبة، والمعارف الراقية.
فالإنسان مركب من جسد مُدْرك بالبصر، ومن روح ونفس مدركة بالبصيرة، ولكل واحد منهما هيئة وصورة؛ إما قبيحة وإما جميلة، ما وهب الله لامرئ هبة أفـضل من عقله، ومن أدبه هما حياة الفتى، فإن فُقِدا فإنَّ فـقـدَ الحياة أحسن به" (جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب، القاسمي، ص3).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما استُجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب؛ فانظر إلى الأدب مع الوالدين كيف نجى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصخرة، والإخلال به مع الأم تأويلًا وإقبالًا على الصلاة، كيف امتُحن صاحبه بهدم صومعته، وضرب الناس له ورميه بالفاحشة" (مدارج السالكين، ابن القيم، 2/391-392).
وتأمل أحوال كل شقي ومغتر ومدبر، كيف تجد قلة الأدب هي التي ساقته إلى الحرمان؟!
وانظر أدب الصدِّيق رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة أن يتقدم بين يديه، فقال: «ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم» [رواه البخاري ومسلم]، كيف أورثه مقامه، والإمامة بعده، فكان ذلك التأخر إلى خلفه، وقد أومأ إليه: أن اثبت مكانك، بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قُدَّام تنقطع فيها أعناق المطيِّ، والله أعلم" (مدارج السالكين، ابن القيم، 2/391-392).
ومن ثمَّ فإنك لا تتعجب أن يفرد أهل العلم مصنفات مستقلة في بيان الآداب الشرعية، مثل: (الآداب الحميدة والأخلاق النفيسة) لابن جرير الطبري، و(جامع بيان العلم وفضله) لابن عبد البر، (الآداب الشرعية والمصالح المرعية) لابن مُفلِح الحنبلي، و(أدب الدنيا والدين) للماوردي، و(لباب الآداب) للأمير الصالح أسامة بن منقذ، و(غذاء الألباب شرح منظومة الآداب) للسفاريني، و(رسالتا الأدب الكبير والصغير) لابن المقفع، وغير ذلك كثير.
____________________________
المصادر:
- مدارج السالكين، ابن القيم.
- تربية الشباب "الأهداف والوسائل"، محمد الدويش.
- جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب، القاسمي.
- وقل ربي زدني علمًا، هشام مصطفى عبد العزيز.
- آداب السامع والمتكلم، ابن جماعة.
- غذاء الألباب، السفاريني.
- مجموع الفتاوى، ابن تيمية.