المنظور المسيحى للمعرفة
المنظور المسيحى للمعرفة
كلمة المعرفة متعددة المعانى وتشتمل على العديد من المعطيات ، وتعنى إجمالا كل ما تم التوصل إليه من معرفة عن طريق العقل. فهى المعلومة الثقافية والتمثّل الفكرى لرؤية ما فى الذهن ، الذى يحولها بدوره إلى معطى من المعطيات. وطبيعة المعرفة وكيفية الحصول عليها وتحصيلها والدور الذى تقوم به فى المجتمعات الإنسانية يتم دراستها أو تناولها من العديد من النواحى، كالفلسفة والتجريب وعلم النفس والعلوم المعرفية والإنسانية والدينية والإجتماعية. والعلوم هى أحد أهم وسائل أشكال المعرفة ، فالعلم بصفة عامة هو مجمل الوسائل المنهجية للحصول على المعارف. و دراسة التقدم العلمىتعنى بصفة عامة بحث تطور المعرفة العلمية ، ليس كمجرد كمّ من المعارف فحسب، وإنما أيضا كيفية تناولها وفهم إرتباطها بالعلم والمجتمع من الناحية التطبيقية. أى ما تم تراكمه عبر آلاف السنين، أو فى حقبة زمانية معينة لفهمما فى الكون وحل طلاسمه. وعبارة تاريخ العلوم المعرفية ليست مجرد عملية تأريخ زمانى لعدة اكتشافات علمية وإنما تعنى ضمنا تاريخ تطور فكرةٍ ما والمؤسسات التى تقدم لهذه الفكرة ووسائل تنميتها والتأريخ لها، فالمعرفة تعنى تطور الإنسانية والحضارة تجاه حالة أكثر رقيا وأكثر ترابطا من أجل الصالح العام.
ولقد اتخذت مسيرة المسيحية الحالية فى مشوارها مع المعرفة و تطور العلوم خطاً مغايرا لذلك تماما منذ نشأتها وحتى يومنا هذا ، هو : خط إقتلاع الآخر ومحاربة العِلم والعلماء ، وذلك لأسباب متعلقة بالعقائد ، فكانت دائما فى صراع عنيف مع العلم والعلماء. وتحديد عبارة "المسيحية الحالية" أقصد بها المسيحية التى تم نسجها على مر العصور والتى لا علاقة لها بيسوع ولا بالإنجيل الذى أوحاه له الله سبحانه وتعالى ، والمشار إليه فى القرآن الكريم . لذلك لا يجوز التعامل مع هذه النصوص الإنجيلية على أنها منزّلة ولا مساواتها لاقرآن الكريم .
فمن الثابت علميا وتاريخيا أن هذه المسيحية ، ومنذ نشأتها ، قد قامت إعتمادا على تاريخ دموى قادته المؤسسة الكنسية بمحاربة كل ما قبلها وما حولها بالهدم والتدمير المتعمّد . وهو نفس الخط الذى حاولت إتباعه ضد الإسلام منذ بداية إنتشاره وحتى يومنا هذا.. فمنذ أن تم الإعتراف بها كديانة يمكن أن تتم ممارستها مع الديانات الأخرى ، بناء على مرسوم ميلانو الذى وقّعه الإمبراطور قسطنطين عام 311 ، بدأت مسيرتها العدوانية حماية لما قامت به من تحريف.. ثم تبع هذا المرسوم تأكيدا لسريان فاعليته عام 313 . وقد تم هذا القرار بناء على مباحثات أجراها الإمبراطور قسطنطين مع ملكياد ، الأسقف المسيحى المسؤل آنذاك ، بأن يسمح قسطنطين للمسيحيين بممارسة عبادتهم شريطة أن يكفّوا عن رفض تجنيدهم فى الجيش ، فقد كانت تعاليم المسيح تحرّم القتل . وما كان من الأسقف ملكياد بعد قبوله هذا الشرط إلا أن إلتزم بوعده وعقد المجمع المعروف بمجمع آرل (Arles)سنة 314 ، الذى أعلن فيه : "لعن كل من يرفض الخدمة العسكرية بما أن الدولة لم تعد تضطهدهم" !.. ويمثل هذا التحايل من جانب الأسقف نموذجا شديد الوضوح لعمليات الخروج الرسمى عن تعاليم المسيح والتحايل عليهامن أجل مصلحة ما ، وهو ما تواصل على مر التاريخ وفقا للظروف والأطماع ..
ولم تعد عبارات من قبيل التاريخ الدموى للكنيسة أو التاريخ الإجرامى للبابوات بغريبة ، فقد إمتدت قوائم أحداثها لتملأ آلاف المجلدات . ومن أهم ما يندرج فى موضوع محاربة المؤسسة الكنسية للعلم ، حرقها للكتب والمكتبات ، وخاصة مكتبة الإسكندرية التى قاد الأسقف تيودوز السكندرى حملة إشعال نيرانها. وكذلك تم إبادة كل ما يوجد من مخطوطات ونصوص ووثائق محيطة بفترة حياة المسيح ، بحيث أن من يود الكتابة عن هذه الحقبة لا يجد أمامه سوى ما تقدمه الكنيسة فى أناجيلها أو فى كتابات آبائها ومؤرخيها . كما تولت عملية هدم المعابد الوثنية أو تحويلها إلى كنائس .
ومن أشهر المعدّات القمعية التى لجأت إليها المؤسسة الكنسية فى محاربتها للعلم والمعرفة ، ما اُطلق عليه عبارة "عصور الظلمات" .. إذ لجأت إلى محاكم التفتيش للسيطرة على عقول المواطنين ، وإلى نبذ المرأة ومحاربتها تحت مسمى "قتل الساحرات" .. كما اتسع نطاق هذه الآلة الجهنمية لتشتمل على الحروب الصليبية والحروب الدينية التى طالت أو إقتلعت شعوبا بأثرها كالكاتار والفودوَا والبوجوميل وسكان الأمريكاتين ، وفرض نظام العبودية ، وكلها حروب قد حصدت ملايين وملايين من البشر . وقد تم ترسيخ أو تطبيق مختلف هذه المخازى إعتمادا على ما يطلق عليه العلماء فى الغرب عبارة "طاحونة التزوير". تلك الطاحونة التى دارت رحاها لتقوم بعمليات تحريف نصوص الأناجيل وتزوير الوثائق ، وأشهرها الوثيقة المعروفة باسم "هبة قسطنطين" ، التى يزعم فيها البابا سيلفستر الأول (314ـ335) أن الإمبراطور قد منحه الأولوية على كافة البطرياركات الشرقية إضافة الى مدينة روما وكل المقاطعات التى حولها وكافة المناطق الغربية وكل ممتلكات الإمبراطور، إضافة الى ثروات وحق إستخدام نفس البروتوكول الخاص به وبقصره وحاشيته. وتنتهى الوثيقة مثل كل الوثائق بفرض اللعنات والحرمان على كل من يخالف تنفيذ ذلك .
ولم يتم كشف زيف هذه الوثيقة إلا فى منتصف القرن الثامن ، ورغمها ظلت الكنيسة تستخدمها على أنها أصلية حتى قام العالم لورنزو فاللا (L. Valla)، عام 1440 بتأكيد إثبات أنها مزورة ومنع التعامل بها. وظلت المؤسسة الكنسية تحارب للحفاظ على ملكية هذه الأراضى والممالك والقصور حتى مطلع القرن العشرين ، وانتهت بإتفاقيات لاتران التى تم التوقيع عليها عام 1920 وتم تحديد ملكيات الفاتيكان بمساحته الحالية ، التى لا تتجاوز 44 % من الكيلومتر المربع ! وتلك قصة أخرى..