الأصولية


فريق عمل الموقع

 

*  الأصولية :

لا يسع المجال هنا لتناول كيفية إشتقاق واستخدام كلمة "الأصولية" فى اللغة الفرنسية ، فلها مصدران هما : "Intégral" و "Fondamental" ، وكلاهما يشير إلى تقبل الشرائع الكنسية الكاثوليكية والتمسك بها تماما . وطوال أزمة الحداثة فإن كل الذين كانوا يعربون عن إنتمائهم التام للكنيسة يقولون أنهم "كاثوليك أصوليون"، أى متمسكين بكافة الأصول العقائدية و الكنسية بغض الطرف أو على الرغم مما بها من مخالفات وتناقض . أى أنها تعنى أنهم متمسكون بحرفية العقيدة والأصول الأساسية ، ومنها : الإيمان بوحى الكتاب المقدس بعهديه وبمعجزاته، وبالميلاد العذرى، وبألوهية المسيح، وبمصالحة الخطيئة بدمه، والإيمان بالوجود الفعلى للَحم ودم المسيح فى الإفخارستيا، و ببعث الأجساد، وبعودة المسيح وحكمه ألف عام، وبخلود عذاب النار ..

وتعود جذور الأصولية إلى أيام إمبراطورية نابليون الفرنسية والحركات الإجتماعية المعاصرة له ، إذ كانت نوعاً من رد الفعل ضد المثل السياسية الناجمة عن الثورة ، وضد العلوم الدنيوية وأثرها على المعتقدات المسيحية . وقد إزداد إزدهار الأصولية عقب الحرب العالمية الأولى ، خاصة فى الفترة من 1920 إلى 1930، حين إتحدت مختلف التيارات المسيحية لتخليص المدارس والكنائس من المدرسين والرعاه الذين يدافعون عن التطور ولمحاربة تدريس الداروينية فى التعليم العام .. وبذلك تكونت الجبهة المعادية للحداثة .

ونطالع فى "القاموس التاريخى للبابوية" (1994) "أن الأصولية اليوم عبارة عن ظاهرة عامة يتحدث عنها الجميع ... لكنها أصلا تنتمى إلى الثقافة الكاثوليكية فى إطار تاريخى شديد التحديد زمانا ومكانا : فى أوروبا البحر الأبيض المتوسط ، وفيما بين زمن البابا ليون الثالث عشر وبيوس العاشر. وهى كلمة تشير إلى الصراع الدائر بين الكاثوليك قبل أن تنتقل إلى المجال العام الدنيوى حيث راحت تبدأ مشواراً جديداً ".

ومهما تفاوتت المعطيات والتواريخ فإن كلمة الأصولية وُجدت فى الخطاب الأوروبى عند وصول معركة الكنيسة إلى ذروتها الطاحنة ضد الحداثة . أى أنها كلمة يرتبط معناها الأساسى بالصراع الكنسى حفاظا على الأصول التى هى فى واقع الأمر لا تمت إلى التنزيل بصلة ، فقد ثبُت يقيناً أنه تم نسجها على مر العصور ، وكتبها بشر غير معروفة أسماءهم ، وعبثت بها الأيادى عبر المجامع وفقا للأغراض السياسية والمصالح البابوية . أى أنها أصول غير صادقة ومزورة ، وبالتالى لا يجب ولا يجوز إستخدام كلمة الأصولية بهذا المضمون  بحق القرآن و الإسلام .

وينص الخطاب الرسولى المعنون "الجنس البشرى" (1950) على "أن الكنيسة تستند إلى متخصصين فى الدفاع عن العديد من النقاط المتعلقة بالإيمان والأخلاق التى تمس العقيدة بصورة مباشرة أو غير مباشرة " . ولقد وصل العبث ببعض هؤلاء الآباء ، ومنهم الأب برومون الذى لم يكتف بقرار معصومية البابا من الخطأ وإنما راح يطالب بإعتبار البابا "شبيها بالرب وأن تكون كل كلمة من كلماته وثيقة من حقائق الإيمان" !

ومهما تنوعت الأوصاف فإن مصطلح الأصولية مرتبط بالكنيسة أولا وأخيرا وبمعركتها ضد التقدم العلمى الكاشف لخباياها ، فالأصولية نبتت أساساً فى رد فعل الكنيسة الكاثوليكية ضد التطور المعرفى والعلمى والثقافى والسياسى الناجم عن الثورة الفرنسية وعصر التنوير، وفى مواجهة المجتمع الحديث وخلفيات أحداث أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ، ومنها : توحيد إيطاليا وضياع الدويلات البابوية وسقوط روما عام 1870 كضيعة بابوية وإختيارها عاصمة لإيطاليا .. وقد أدى قيام البابا بحرمان الملك وإعتكافه فى الفاتيكان إلى تقسيم إيطاليا إلى كاثوليك أصوليين ، ملتفين حول "منظمة العمل الكاثوليكى" ، الخاضعة "لمنظمة عمل المؤتمرات الكاثوليكية" ؛ وإلى علمانيين ويساريين غير راضين عن موقف الكنيسة. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه قد بدأ الزج بها فى مجال الإسلام فى أواخر السبعينات من القرن العشرين ، وإلصاقه بالإرهاب تمهيدا لمحاولة إقتلاعه ، بعد إقتلاع اليسار، وفقا لما تم إقراره فى مجمع الفاتيكان الثانى.

وفى عام 1899 أعلن الفاتيكان فى مجلة "الحضارة الكاثوليكية " التابعة له : "أن المبادئ الكاثوليكية لا تتعدّل لا بمرور السنين ، ولا بتغيير البلد ، ولا بسبب الإكتشافات الحديثة ، ولا حتى بسبب المنفعة . إنها دائما نفس التعاليم التى قالها المسيح ، والتى أعلنتها الكنيسة ،  وعرّفها البابوات والمجامع ، والتى رعاها القديسون ودافع عنها المختصون ، ومن الأفضل الأخذ بها كما هى أو أن تترك كما هى ، ومن تقبلها بتمامها وصرامتها فهو كاثوليكى ، ومن يوازن ويتذبذب ويتأقلم مع الزمن ويتساهل فيمكنه أن يطلق على نفسه أى إسم يشاء ، لكنه لن يكون أمام الله وأمام الكنيسة إلا عاصيا وخائناً " !

وقامت الكنيسة بإنشاء "جمعية سرية " أسندت قيادتها إلى الأب أومبرتو بنينى (U. Benini)، وسرعان ما أصبح مقر هذه الجمعية بؤرة لجمع و بث المعلومات والإستخبارات أشبه ما تكون بوكالة الأستخبارات المركزية الأمريكية (C.I.A.) ، لمحاربة الحداثة وترسيخ دعائم الأصولية الكاثوليكية. ومن أهم ما كانت تقوم به هذه المنظمة هى الوشاية والإعتقالات ..وكان تركيزها منصباً أساساً على رجال الإكليروس بمختلف درجاتهم الكهنوتية ، الذين يبدون أية ميول للتيارات الحديثة أو يبتعدون عن التعليمات البابوية أو يحيدون عن التفسير الصارم المغالط الذى فرضته الكنيسة . وكان الأسقف بنينى يقيم صلات شديدة النشاط مع مراسليه فى مختلف العواصم الأوروبية من أجل الحصول على بيانات ومعلومات عن شخصيات بعينها .. وكانت الردود تصله بعبارات مشفّرة متفق عليها فيما بينهم . 

وأيا كانت خبايا اللعبة الدائرة بين الأجهزة المختلفة ، وأيا كانت نوعية الصراعات الدائرة بين الكنيسة والعلم فإن الأصولية لم تكن مجرد ظاهرة تاريخية إمتدت لفترة ما وإنما هى تعبّر عن موقف لم يتغيّر مهما تغيّرت المسميات : فكل البابوات أدانوا الحداثة منذ أوائل ظهورها ، وتوارثوا الإدانات الموجهة لها بصور متفاوتة من الشراسة ومن السرية أو العلنية .

ومهما اختلفت الآراء التى تناولت تاريخ هذا الصراع الكنسى المستمر ، للحد من سلطة العلم والعلماء ، فإن هذا الخط قد تواصل منذ أولى بدايات المسيحية وتحريفها حتى المجمع المسكونى الفاتيكانى الثانى (1965) . فقد تغيرت الدفّة ليصبح أول مجمع هجومى فى تاريخ المؤسسة الكنسية ، ونقطة إنطلاق جامحة للأصولية الكنسية ضد المجتمع الحديث ، وذلك بعد أن وجدت الكاثوليكية نفسها فى بؤرة صراع مزدوج : الصراع ضد ما يعترى المجتمع المدنى من تغيير أدى إلى إفلاته من قبضتها ؛ والصراع ضد التيار المنبثق من داخلها والذى أدى إلى تصدعات لم يعد من الممكن رأبها أو طمس معالمها ، بل ولا حتى مواجهتها !

وقبل أن نتناول هذا المجمع الفاتيكانى الثانى تجدر الإشارة فى عجالة إلى توضيح كيف نُسج تحريف المسيحية ليرى القارئ غير المتخصص حقيقة ما يقوم به الفاتيكان من جهد حفاظا على كيانه القائم على تلال من التلاعب والتضليل، وعلى التحريف المتعمّد وعلى أخطاء جوهرية فى الترجمة تم فرضها قهرا وتعتيما ..

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ الأصولية

  • أركان الإيمان بالأسماء الحُسنى

    سعيد بن علي بن وهف القحطاني

    1-  الإيمان بالاسم. 2-  الإيمان بما دل عليه الاسم من المعنى. 3-  الإيمان بما يتعلق به من

    26/11/2009 19546
  • أركان توحيد الألوهية

    فريق عمل الموقع

        أركان توحيد الألوهية (1)       توحيد الألوهية يقوم على

    02/07/2011 12612
  • روبرت كرين

    فريق عمل الموقع

    الدكتور روبرت كرين مستشار الرئيس الأمريكي نيكسون, في عام 1959م حصل على دكتوراه في القانون العام ثم دكتورا في

    21/02/2010 4982
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day