ظاهرة الحياة
ظاهرة الحياة:
يقول تعالى: {إِنَّ الله فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ الله فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} الأنعام آية 95.
من الدلائل على وجود الله تعالى ووحدانيته أفعاله تعالى التي لا يشاركه فيها أحد من القادرين، ومن تلك الأفعال الإحياء والإماتة، فإن الخلق عاجزون عنها، ذلك أن الله وحده هو القادر على ذلك دون سواه، يقول تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاة..} الملك آية 1،2.
ولم يدّع أحد من البشر أنه يستطيع ذلك، ولا عبرة بدعوى أبله بليد لا يعرف معنى الإحياء والإماتة، أو معاند مكابر يسلك سبل المغالطة لقومه، فيفسر لهم معنى الإحياء والإماتةّ بقتل أحد الرجلين وإطلاق سراح الآَخر، كما يذكر المفسرون ذلك عن نمرود إبراهيم عليه السلام الذي حاجه في ربه.
يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} البقرة آية258.
فحين ادعى ذلك المكابر تلك الدعوى التي يعلم إبراهيم عليه السلام كذبه فيها، عدل به إلى أَمر مشاهد للناس جميعاً، فطلب منه أن يتصرف فيه بغير المألوف والمعهود للناس، إن كانت لديه القدرة الكاملة كما يدعي، ذلك الأمر هو أن يأتي بالشمس من المغرب، إذ أن رب إبراهيم يأتي بها من المشرق، فبهت الكافر، ولم يحر جوابا، والله غالب على أمره، ومظهر دينه وناصر رسله، وقد عنى القرآن الكريم عناية خاصة بظاهرة الحياة فجعلها من الأدلة التي تنبه المخاطب الغافل عن التفكر في سر هذا الأمر العجيب الذي جعل سبباً في وجوده، ذلك أن الإنسان كان معدوماً ثم أَصبح إنساناً حياً يسير على هذه الأرض متمتعا بما أوجده له خالقه من نعم كثيرة على ظهرها، يشاهد نوع الحياة التي تدب فيه من أين جاءت وكيف سببها.
يقول الفخر الرازي: (ودليل الإحياء والإماتة دليل متين قوي، ذكره الله سبحانه في مواضع من كتابه كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}، وقوله:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}.
ويقول سيد قطب في تفسير الآَية: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّت.. الخ}: إنها المعجزة التي لا يدري سرها أحد، فضلا على أن يملك صنعها أحد،... وتقف البشرية بعد كل ما رأت من ظواهر الحياة وأشكالها، وبعد كل ما درست من خصائصها وأدوارها.. تقف أَمام السر المغيب كما وقف الإنسان الأول، تدرك الوظيفة والمظهر. وتجهل المصدر والجوهر، والحياة ماضية في طريقها... لقد عجزت كل محاولة لتفسير ظاهرة الحياة، على غير أساس أَنها من خلق الله... ومنذ أن شرد الناس من الكنيسة في أوربا.. {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} وهم يحاولون تفسير نشأة الكون وتفسير نشأة الحياة، بدون التجاء إلى الاعتراف بوجود الله.. ولكن هذه المحاولات كلها فشلت جميعا.. ولم تبق منها في القرن العشرين إلا مماحكات تدل على العناد، ولا تدل على الإخلاص، وأقوال بعض (علمائهم) الذين عجزوا عن تفسير وجود الحياة إلا بالاعتراف بالله، تصور حقيقة موقف (علمهم) نفسه من هذه القضية، ونحن نسوقها لمن لايزالون عندنا يقتاتون على فتات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من موائد الأوربيين، عازفين عن هذا الدين، لأنه يثبت ((الغيب)) وهم ((علميون))[1] لا ((غيبيون)).
والمؤمنون الصادقون في إيمانهم، الذين يؤمنون بالله يكفيهم في ذلك ما قاله خالقهم عن خلق هذه الحياة، وما شاهدوه في الواقع أمامهم، من تكرر خلق الحياة كل لحظة، لأن عقولهم الفطرية لم تلوث بشكوك المرتابين وأباطيلهم.
وأما أولئك الذين أصابتهم لوثة الشك، فلا يؤمنون إلا (بالعلم) فمن المناسب أن ينقل لهم بعض أقوال هؤلاء العلماء الذين عجزوا عن تفسير الحياة إلا أن تكون من صنع خالق قادر هو (الله) سبحانه وتعالى.
وفي ذلك يقول: (ايرفنج وليام نوبلوس) أخصائي الحياة البرية في الولايات المتحدة، وأَستاذ العلوم الطبيعية في جامعة ميشجان، تحت عنوان -المـادة وحدها لا تكفي- (إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها، والتي لا يحصيها عد، وهي التي تتكون منها جميع المواد، كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكون الحياة. ولا شك أن النظرية التي تدعي أن جميع صور الحياة الراقية قد وصلت إلى حالتها الراهنة من الرقي بسبب حدوث بعض الطفرات العشوائية والتجمعات والهجائن نقول إن هذه النظرية لا يمكن الأخذ بها إلا عن طريق التسليم، فهي لا تقوم على أساس المنطق والإقناع)[2].
ويقول مؤلف كتاب (مصير البشرية) (ليكونت ديونوي): (... نكرر القول هنا بأنه لا توجد حقيقة واحدة في يومنا هذا تقدم تفسيرا قاطعاً لمولد الحياة وتطور الطبيعة، ولقد درسنا مسألة أصل الحياة، وسواء أردنا أَم لم نرد، فإننا مضطرون إلى أَن نقبل فكرة تدخل قوة سامية يدعوها العلماء أيضا (الله) (عكس الصدفة) أو أن نعترف ببساطة بأننا لا نعلم شيئاً عن هذه الأمور سوى بعض الآَيات، وهذه ليست مسألة اعتقاد فحسب، ولكنها حقيقة علمية لا نزاع فيها، ولسنا من أولئك المـاديين العريقين الذين يتمسكون بآرائهم واعتقاداتهم رغم كونها سلبية بدون أي برهان)[3].
وقد أورد الشيخ نديم الجسر في كتابه (قصة الإيمان) بعض آيات من كتاب الله، تحدثت عن خلق الحياة وتكونها من - الطين اللازب والماء- ثم أورد بعض ما قاله العلماء حول تكون الحياة، ونحن بدورنا نقتطف بعضاً من ذلك:
-الآيات- قوله تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} وقوله تعالى: {وَالله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ..}
وقوله تعالى- {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} هذا بعض ما جاء في القرآن الكريم عن تكون خلق الحياة وأنه بقدرة الله تكون من الماء والطين[4].
والعلماء قالوا كما جاء في القرآن بتكون الحياة من الماء والطين. ثم وقفوا على عتبة باب الخفاء من سرها حائرينْ، وقد عرفوا الشيء الكثير من فروعها وأصولها، وعناصرها وطبائعها.. وعلموا أن جميع الأحياء تتألف من خلايا وأن الخلية تتكون من النطفة الأولى (بروتوبلاسما) وعلموا أن هذه النطفة الأولى مكونة من الكربون والأكسجين، والهيدروجين والنتروجين ... وجربوا أن يخلقوا الحياة في شيء فعجزوا.... ثم اعترفوا كما ذكر القرآن باستحالة خلق ذبابة.ْ
يقول (توماس اكيوناس)-: (ما من عالم عرف حتى اليوم حقيقة ذبابة..).
ويقول (روجر باكون)-: (إنه لا يوجد عالم من علماء الطبيعة يستطيع أن يعرف كل شيء عن طبيعة ذبابة واحدة) ويقول: (بخنز)-إن الكرية ذاتها على بساطتها ذات بناء وتركيب يمنع معه صدورها من الجماد مباشرة بل إن ظهورها من الجماد ليعد في نظر العلم معجزة ليست أقل بعدا عن العقل من ظهور الأحياء العلياء من الجماد مباشرة).
وفي القرآن يقول الله للناس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ..} الحج آية 73.
إن العقول السليمة تتلاقى على الحق، وكلما ازدادت علما كـان تلاقيها على الحق أيسر وأقرب. ومن أجل هذا رأينا العلماء بعد ذلك الإنتكاس المـادي الذي اعترى بعضهم في أواخر القرن التاسع عشر يرجعون إلى التلاقي على الحق ويكادون يجمعون اليوم إجماعا بلسان أكابرهم على أن هذه القوانين والنواميس، التي نشأت على أساسها الحياة وتطورت تنطوي على وحدة القصد، والإرادة والعناية والحـكمة يستحيل معها العقل السليم المفكر أن يؤمن بأن هذه الحياة خلقت وتطورت بالمصادفة العمياء.
فهذا اللورد كلفن العالم الإنجليزي يعلن هذا الإيمان على الناس، ويسخر من القائلين بالمصادفة في خلق هذه الحياة ويعجب من إغضاء بعض العلماء عما في آثار الحكمة والنظام من حجة دامغة وبرهان قاطع على وجود الله ووحدانيته، حيث يقول: "يتعذر على الإنسان أن يتصور بداية الحياة واستمرارها دون أن تكَون هنالك قوة خالقة مسيطرة وإني أعتقد من صميم نفسي أن بعض العلماء في أبحاثهم الفلسفية عن الحيوان، قد أغضوا إغضاء عظيما مفرطـا عما في نظام هذا الكون من حجة دامغة. فإن لدينا فيما حولنا براهين قوية قاطعة على وجود نظام مدبر وخير، وهي براهين تدلنا بواسطة الطبيعة على ما فيها من أثر إرادة حرة، وتعلمنا أن جميع الأشياء (الحية) تعتمد على خـالق واحد أحدي أبدي".
ويقول- انشتين- "إن جوهر الشعور الديني. في صميمه. هو أن نعلم بأن ذلك الذي لاسبيل لمعرفة كنه ذاته موجود حـقا، ويتجلى بأسمى آيات الحكمة، وأبهى أنوار الجمال ...وإنني لا أستطيع أن أتصور عالمـا حقا لا يدرك أن المبادئ الصحيحة لعالم الوجود مبنية على حكمة تجعلها مفهومة عند العقل، فالعلم بلا إيمان يمشي مشية الأعرج، والإيمان بلا علم يتلمس تلمس الأعمى"أ.5 هـ[5].