المجمع الفاتيكانى المسكونى الثانى
* المجمع الفاتيكانى المسكونى الثانى :
قبل أن نتناول هذا المجمع تجدر الإشارة إلى تغيير أساسى ألمّ بالفاتيكان وبالكرسى الرسولى وهو : إنخراطهما فى النظام العالمى الجديد ، وخاصة البابا الحالى ، بنديكت 16 الذى أعلنها أكثر من مرة فى حوارات عابرة ، ولعل ذلك يفسر التغيير الجذرى الذى طرأ على موقف تلك المؤسسة . فالنظام العالمى الجديد قائم على : فرض نظام إقتصادى واحد ، ونظام سياسى واحد ، ونظام دينى واحد ، لتطبيقها على ما أطلقوا عليه "القرية الواحدة" ، حتى تسهل إدارتها والتحكم فيها.وقد تم إنجاز الكثير من النقطتين الأوليين ، أما النقطة الثالثة "نظام دينى واحد" فهى التى يدخل فيها ضمناً إقتلاع الإسلام وتنصير العالم ..
ويمثل إندماج الفاتيكان فى هذه المنظومة أكبر عملية هروب يقودها للإفلات من عواقب أزمة الحداثة والأصولية التى أدت إلى نتيجة حتمية لم تعد بخافية ، ألا وهى : إبتعاد الأتباع والكثير من رجال الإكليروس عن الكنيسة وتفضيلهم الإلحاد أو اللا دين عن الإنتماء إلى مؤسسة انكشفت عوراتها حتى النخاع وبلا رجعة . والمحزن والكاشف فى نفس الوقت أنه حينما سأل أحدهم البابا يوحنا بولس الثانى عن رأيه فى ما أطلقوا عليه "النزيف الصامت للكنيسة" ، إشارة إلى كل الذين يغادرونها ، أجاب البابا قائلا : "يكفينى من يعتنقون المسيحية فى قارة إفريقيا" . وهو ما يكشف عن حجم عملية التنصير الدائرة فى القارة الإفريقية !..
وبدلا من الإعتراف بكل ما اقترفته المؤسسة الكنسية من إجرام و ذنوب فى حق البشرية ، رأت بكل ما تحمله من جبروت وإمكانيات ، أن تفرض المسيحية على العالم أو تنصيره على أنه مخرجها الوحيد بل الوحيد الآمن ، بالنسبة لوضعها ، حتى وإن تم ذلك على حساب الدين والعقائد والنصوص التى لا تزال تضم وتحوى ما يدينها يقيناً !.. بل حتى موقفها من العلم والعلماء قد تنوّع وتبدل إذ باتت تستعين بكل الوسائل والإكتشافات العلمية الحديثة فى عمليات تنصير العالم ، وتكفى الإشارة إلى القمر الصناعى "لومن 2000" (Lumen 2000) لضمان عدم التحكم فى إرسالها ، ومحطات إذاعية وتليفزيونية ومطابع ، بل حتى الإنترنت ومئات المواقع الإلكترونية باتت تُستخدم للتنصير بخلاف جيوش من المنصرين ، من مختلف الفئات والأعمار، الذين ينتمون لعشرات المنظمات القادرة فرقها على إختراق كافة الطبقات الإجتماعية بلا إستثناء ، بل لقد وصل صلفها إلى تكوين فِرق منصّرين من الأطفال ..
و مجمع الفاتيكان الثانى بمثابة نقطة تحول جذرية فى تاريخ الكنيسة الكاثوليكية ، فهو أول مجمع هجومى فى التاريخ ، على عكس كافة المجامع السابقة والتى يمكن أن نطلق عليها عبارة : مجامع تلفيقية ، تقام لرأب ما يستجد من نتوءات أو معارك متعلقة بالعقيدة أو النصوص .. والمجمع المسكونى ، أى العالمى ، مُلزِم لكافة الكنائس المنشقة ، وعددها 349 كنيسة ، كما أنه مُلزِم لجميع الملوك والرؤساء المسيحيين ، وذلك بموجب إتفاقيات سابقة لا تزال سارية فيما بينهم . وقد تمخض ذلك المجمع عن 16 وثيقة ما بين ميثاق وبيان وقرار ، متفاوتة الطول ، من بضعة صفحات إلى قرابة المائة صفحة ، ولا يخلو نص منها من الإشارة إلى ضرورة تنصير العالم . وأهم ما تتضمنه هذه الوثائق من قرارات إجمالا :
* تبرأة اليهود من دم المسيح وتحميل ذنب مقتله على كافة اليهود و الأتباع المسيحيين ، ثم تم تعديلها وقصرها على اليهود ، ثم فيمن قتلوه آنذاك كما يقولون ، وذلك رغم وجود أكثر من مائة جملة فى الأناجيل الحالية تتهم اليهود بأنهم قتلة الرب ؛
* إقتلاع اليسار فى عقد الثمانينات ، حتى لا تبقى هناك أنظمة بديلة للرأسمالية الإستعمارية المتحكمة فى العالم ؛
* إقتلاع الإسلام فى عقد التسعينات ، حتى تبدأ الألفية الثالثة بعالم كله متنصّر؛
* فرض إستخدام الكنائس المحلية فى عملية التنصير، وهو ما يضعها فى موقف الخيانة بالنسبة للبلدان الإسلامية التى توجد فيها ؛
* فرض المساهمة فى عملية تنصير العالم على كافة الأتباع ، بموجب التعميد الذى تلقوه فى الصغر، الأمر الذى يضعهم أيضا فى موقف الخيانة للأغلبية المسلمة التى يعيشون بينها ؛
* توحيد كافة الكنائس تحت لواء كاثوليكية روما ؛
* إنشاء لجنة بابوية خاصة بتنصير الشعوب ؛
* وإنشاء لجنة بابوية من أجل الحوار مع الديانات الأخرى ..
* تغيير إسم لجنة محاكم التفتيش وجعلها "لجنة عقيدة الإيمان" ، أى أن هذه المحاكم لا تزال تعمل تحت مسمّى آخر ، وقد كان البابا الحالى بنديكت 16 يترأسها قبل إنتخابه فى البابوية ..
وقد تم تبرأة اليهود من دم المسيح ، وبناء علي هذه التبرأة إضطر الفاتيكان سنة 1993 إلى الإعتراف بالكيان الصهيونى المحتل لأرض فلسطين – رغم كل ما بينهما من خلافات .. وتم إقتلاع اليسار فى عقد الثمانينات ، فقد إنهار النظام السوفييتى سنة 1991 بالتعاون بين الولايات المتحدة والفاتيكان وجورباتشوف ، وما أكثر ما كُتب فى هذا المجال حتى عن ملايين الدولارات التى تم صرفها .. ولم يكن باقيا من قرارات أساسية إلا إقتلاع الإسلام وتنصير العالم ، لأن عملية توحيد الكنائس المنشقة تسير بخطى واسعة إذ أن الفاتيكان يلوّح بأن ذلك ضرورى من أجل التصدى للمد الإسلامى !.. وحينما بدأت الألفية الثالثة و الإسلام باقياً متزايداً ، رغم المحاولات المستميتة لفرق المنصرين فى جميع أنحاء العالم ، قام مجلس الكنائس العالمى فى يناير 2001 بإسناد هذه المهمة إلى الولايات المتحدة التى أصبحت السلطة العسكرية المتفردة فى العالم .. وفى الحادى عشر من سبتمبر 2001 ، أى بعد بضعة أشهر وفى نفس ذلك العام ، قامت السياسة الأمريكية بعمل "مسرحية 11 / 9 " لتتلفع بشرعية دولية لإقتلاع الإسلام والمسلمين بعد ربطهما بالإرهاب ظلما وعدوانا..
وملايين المسلمين الذين تم إغتيالهم فى أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين وغيرها من البلدان الإسلامية بسبب الغزو غير المبرر الذى لم يتصدى له أحد ، بل ولم يضعه أحد على حد علمى تحت بند "جرائم فى حق الإنسانية" ويطالب بالتحقيق فيها ، كلها حقائق لم تعد خافية . كما أن جحافل المنصرين التى كانت تواكب هذه الجيوش بأناجيلها ، لم تعد بحاجة إلى أدلة وبراهين ، فالوقائع المعاشة تتحدث بما فيه الكفاية .
ولتوضيح كيف أن عمليات التلاعب بالنصوص لا تزال تتواصل ، لقد أوضح بنديكت 16 فى آخر كتاب له، صدر فى مارس 2011 ، بعنوان "يسوع الناصرة"، وهو الجزء الثانى من الكتاب الذى صدر منذ عدة أعوام، مؤكدا على أن الشعب اليهودى ليس مسئولا عن مقتل يسوع .. وهو ما كان مجمع الفاتيكان الثانى قد أقره والذى أدى إلى حدوث هاوية بين الكنيسة والأتباع يستحيل رأبها ، ولكنها أول مرة يتجرأ فيها أحد البابوات ليعلن ذلك باسمه ، ويخالف أقوال الأناجيل ، ويشرح عدم صحة تحميل إتهامهم مقتل يسوع بتحليل أقوال إنجيل يوحنا ، ليخرج بأن المقصود بهذه الإدانة هى أرستقراطية المعبد ، ولم يكتب حتى "حاخامات المعبد" وهو الأصح قولا وفعلا ، وأن تلك الأرستقراطية هى التى أرادت قتل يسوع لأنه أعلن عن نفسه ملكا لليهود وبالتالى قد إغتصب الشرع اليهودى !!. وهذا الرفض اللاهوتى للإتهام بقتل الرب لا يؤكد تعاليم مجمع الفاتيكان الثانى فحسب والذى أسقط تماما الإدانة الجماعية لليهود ، رغم كل ما يرد فى الأناجيل الأخرى ، وإنما يضفيها على جيل جديد من الكاثوليك ، بما أن نصوص الأناجيل الأخرى تتحدث بغير ما هو وارد فى إنجيل يوحنا .. ويا له فعلا من درس طبخ فى استخدام النصوص و لىّ الحقائق ـ على حد قول القاضى جوزيف هويلس !
* الخاتمة :
لا شك فى أن أول ما نخرج به عند تناول المنظور المسيحى للمعرفة هو : أن الكنيسة لم تكف عن محاربة العلم والعلماء ، ولا تزال ، وأن المسيحية الحالية قائمة على عملية تحريف لرسالة يسوع وإنجيله ، الوارد ذكره ،لا فى القرآن الكريم فحسب ، وإنما فى بعض الجمل التى لا تزال باقية فى الأناجيل رغم تحريفها الشديد ، ومنها : "... حتى أنى من أورشليم وما حولها إلى الليريكون قد أكملت التبشير بإنجيل المسيح " (رسالة بولس إلى أهل رومية 15 : 19) أو "...وأنا أعلم إنى إذا جئت إليكم سأجى فى ملء بركة إنجيل المسيح" (إلى أهل رومية 15 : 29). وقد بدأ التحريف والتلاعب بالرسالة منذ أيام بولس ، الذى جعل نفسه رسولا ، ثم قديسا، وألغى عهد الله الممثل فى الختان الذى أراده الله أبديا وأقام التعميد ، وتواصل التلاعب بالنصوص حتى يومنا هذا. ومع بداية التحريف بدأت عمليات التصدى له، وهو ما لا تزال أصداؤه موجودة فى أعمال الرسل والأناجيل.. ولم تتوقف محاولات العلماء أو بعض رجال الكنيسة من التصدى لهذا التحريف، كما لم تتوقف المؤسسة الكنسية عن محاربة العلم والعلماء وكانت تتصدى لهم بكل جبروت وبشتى الوسائل حتى بالقتل ، بل أنها فى عصور الظلمات كانت تحرّم على الأتباع قراءة النصوص الدينية وتلزمهم بالإكتفاء بما يقوله القساوسة ..
واحتدت المعارك وتنوعت مع التقدم العلمى واختراع المطبعة وتقدم دراسة العلوم اللغوية حتى كان عصر التنوير وما تبعه من معركة فاصلة هى : معركة الأصولية والحداثة ، وجاهد البابوات للتصدى لها بالخطب الرسولية التى تدين الحداثة والعلماء ، وجندوا فيالق من أتباعهم للتصدى لمعركة لا تزال تلقى بعواقبها مع تزايد إبتعاد المسيحيين عن الكنيسة . مما دعى البابا بنديكت 16 إلى تكوين لجنة بابوية فى أكتوبر عام 2010 لإعادة تنصير البلدان المسيحية الأوروبية بعد أن غاصت فى الإلحاد ..
وقد تم إشتقاق كلمتا الحداثة والأصولية أيام تلك المعركة ، بحيث أن كلمة "الحداثة " تشير إلى عملية المطالبة بتنقية النصوص الدينية والعقيدة و تحديثها بإستبعاد كل ما بها من أساطير منقولة أو معطيات لا يقبلها العقل أو المنطق .. وأن كلمة "الأصولية " تمثل رد الكنيسة الكاثوليكية وتمسكها بالنصوص والعقائد بكل ما بها من تناقد مع الإصرار على فرضها على أنها أصول منزّلة ! أى ان الحداثة تعنى حذف التحريف وكل ما هو منافى للعِلم والعقل ، والأصولية تعنى التمسك بهذه الأصول المحرّفة .. لذلك لا يجب ولا يجوز إستخدام هاتين الكلمتين فى حق القرآن والإسلام لإرتباطهما الشديد بتلك المعركة الكنسية مع العِلم والعلماء .. فالقرآن الكريم بدأ تنزيله بفعل أمر: إقرأ ، ولم يتعرض مطلقا لما تعرضت له النصوص المسيحية من تغيير وتبديل ، كما أنه يحثنا على تحصيل العِلم والتعلم ، بل يكرّم العلماء ويجعلهم ورثة الأنبياء ، ولا يقتلهم !.
والفاتيكان فى حربه ضد الإسلام ، تلك الحرب الضروس التى بدأت مع بداية إنتشاره ولم تتوقف ، بل باتت حرب معلنة تدور رحاها بكل تبجح ومغالطة ، قد قام بتحويل دفة الهجوم الواقع عليه من علماء دينه أو المنشقين عليه ، وتضامن مع النظام العالمى الجديد ليقوم بحرب كاسحة لإقتلاع الإسلام ، إعتماداً على خطين أساسيين :
* عملية إسقاط لكل ما تعرضت له نصوصه من مآخذ وتحريف وإلصاقها بالإسلام ؛
* إلصاق تهمة الإرهاب ، التى مارسها على أتباعه لمدة قرون طويلة ولا يزال ، وجعلها نابعة من القرآن الكريم ليطالب بتغييره وتنقيته مما به من لا معقول ـ على حد قولهم !!.. لذلك لا بد من تكريس كافة الجهود حاليا للتصدى لعملية إقتلاع الإسلام و تنصير العالم ، لأن ذلك قرار مجمعى ، أى : لا رجعة فيه . ففى الرابع من شهر مارس 2011 أعلن بنديكت 16 عن خطة بيان البرنامج الذى سيقام بناء عليه سينودس الأساقفة من أجل "التبشير الجديد وكيفية توصيله للعالم " الذى سيعقد من 7 إلى 28 أكتوبر 2012 ، ويقع هذا البرنامج التوجيهى فى حوالى 70 صفحة ، سيقومون بدراستها وإضافة المقترحات لمعرفة كيفية التنفيذ بمصطلحات جديدة دون أن يبدو عليهم أنهم يبشرّون !.. وإلى كل الذين سيكتفون بالتشدّق بعبارة أن ذلك غير ممكن أو غير معقول ، أسوق إليهم مقولة البابا السابق يوحنا بولس الثانى ، وهى واردة فى خطابه الرسولى المعنون " رسالة الفادى " : إن الكرسى الرسولى يسعى إلى التدخل لدى حكام الشعوب والمسئولين عن مختلف المحافل الدولية أو الإنضمام إليهم بمحاورتهم أو إخضاعهم لمصلحة المصالحة " .. والمصالحة كالحوار تعنى فى نصوصهم " الإرتداد والدخول فى سر المسيح " !..