النداء السادس عشر : طاعةُ الكفار خسارة في الدارين
النداء السادس عشر : طاعةُ الكفار خسارة في الدارين
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ (149)بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) }سورة آل عمران
يُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ مِنْ إِطَاعَةِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ ، الذِينَ حَاوَلُوا إِلْقَاءَ الشُّبُهَاتِ فِي قُلُوبِ ضِعَافِ المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ : لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيّاً حَقّاً لانْتَصَرَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمٌ وَعَلِيهِ يَوْمٌ . ( وَهَؤُلاَءِ هُمْ أبُو سُفْيَانُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ ) لأَنَّ إِطَاعَتَهُمْ تُورِثُ البَوَارَ فِي الدُّنْيا ، بِخُضُوعِهِمْ لِسُلْطَانِهِمْ ، وَذِلَّتِهِمْ بَيْنَهُمْ ، وَفِي الآخِرَةِ فِيمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ العَذَابِ الأَبَدِيِّ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، وَجَهَنَّمُ بِئْسَ المَصِيرُ وَالمُسْتَقَرُّ
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ ، وَمُوَالاَتِهِ ، وَالاسْتِعَانَةِ بِهِ ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيهِ وَحْدَهُ ، لأَنَّهُ خَيْرُ نَاصِرٍ لِعِبَادِهِ المُخْلِصِينَ . أمَّا رُؤُوسُ الكُفْرِ وَالضّلاَلَةِ وَالنِّفَاقِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ، وَلاَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ .
يُبَشِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ سَيُلْقِي فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِم الرُّعْبَ لأنَّهُمْ كَفَرُوا وَأَشْرَكُوا بِاللهِ ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّةُ اللهِ ، قَدْ جَعَلَ نُفُوسَ المُشْرِكِينَ مُضْطَرِبَةً ، وَقُلُوبَهُمْ مُمْتَلِئَةً رُعْباً وَهَلَعاً مِنَ المُؤْمِنِينَ ، حِينَما يَلْتَقُونَ بِهِمْ فِي سَاحَةِ الحَرْبِ ، وَأنَّهُ سَيَدَّخِرُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابَ النَّارِ وَنَكَالَها . وَالنَّارُ بِئْسَ المَثْوَى وَالنِّهَايَةُ لِلظَّالِمِينَ الكَافِرِينَ .
لقد انتهز الكفار والمنافقون واليهود في المدينة ما أصاب المسلمين من الهزيمة والقتل والقرح ليثبطوا عزائمهم ويخوفوهم عاقبة السير مع محمد ويصوروا لهم مخاوف القتال وعواقب الاشتباك مع مشركي قريش وحلفائهم . . وجو الهزيمة هو أصلح الأجواء لبلبلة القلوب وخلخلة الصفوف وإشاعة عدم الثقة في القيادة; والتشكيك في جدوى الإصرار على المعركة مع الأقوياء; وتزيين الانسحاب منها ومسالمة المنتصرين فيها! مع إثارة المواجع الشخصية والألام الفردية; وتحويلها كلها لهدم كيان الجماعة ثم لهدم كيان العقيدة ثم للاستسلام للأقوياء الغالبين!
ومن ثم يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا . فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة وليس فيها ربح ولا منفعة . فيها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر . فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار ويكافح الباطل والمبطلين وإما أن يرتد على عقبيه كافراً - والعياذ بالله - ومحال أن يقف سلبياً بين بين محافظاً على موقفه ومحتفظاً بدينه . . إنه قد يخيل إليه هذا . . يخيل إليه في أعقاب الهزيمة وتحت وطأة الجرح والقرح أنه مستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين وأن يسالمهم ويطيعهم وهو مع هذا محتفظ بدينه وعقيدته وإيمانه وكيانه! وهو وهم كبير . فالذي لا يتحرك إلى الأمام في هذا المجال لا بد أن يرتد إلى الوراء والذي لا يكافح الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان لا بد أن يتخاذل ويتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان! والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين والاستماع إليهم والثقة بهم يتنازل - في الحقيقة - عن عقيدته وإيمانه منذ اللحظة الأولى . . إنها الهزيمة الروحية أن يركن صاحب العقيدة إلى أعداء عقيدته وأن يستمع إلى وسوستهم وأن يطيع توجيهاتهم . . الهزيمة بادىء ذي بدء . فلا عاصم له من الهزيمة في النهاية والارتداد على عقبيه إلى الكفر ولو لم يحس في خطواته الأولى أنه في طريقه إلى هذا المصير البائس . . إن المؤمن يجد في عقيدته وفي قيادته غناء عن مشورة أعداء دينه وأعداء قيادته .
فإذا استمع إلى هؤلاء مرة فقد سار في طريق الارتداد على الأعقاب . . حقيقة فطرية وحقيقة واقعية ينبه الله المؤمنين لها ويحذرهم إياها وهو يناديهم باسم الإيمان :
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين } . .
وأية خسارة بعد خسارة الارتداد على الأعقاب من الإيمان إلى الكفر؟ وأي ربح يتحقق بعد خسارة الإيمان؟
وإذا كان مبعث الميل إلى طاعة الذين كفروا هو رجاء الحماية والنصرة عندهم فهو وهم يضرب السياق صفحا عنه ليذكرهم بحقيقة النصرة والحماية :
{ بل الله مولاكم وهو خير الناصرين } .
فهذه هي الجهة التي يطلب المؤمنون عندها الولاية ويطلبون عندها النصرة . ومن كان الله مولاه فما حاجته بولاية أحد من خلقه؟ ومن كان الله ناصره فما حاجته بنصرة أحد من العبيد؟
ثم يمضي السياق يثبت قلوب المسلمين ويبشرهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم بسبب إشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطاناً ولم يجعل له قوة وقدرة . وذلك فوق عذاب الآخرة المهيأ للظالمين :
{ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً . ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين } . .
والوعد من الله الجليل القادر القاهر بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا كفيل بنهاية المعركة وضمان لهزيمة أعدائه ونصر أوليائه . .
وهو وعد قائم في كل معركة يلتقي فيها الكفر بالإيمان . فما يلقى الذين كفروا الذين آمنوا حتى يخافوهم ويتحرك الرعب الملقى من الله في قلوبهم . ولكن المهم أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين . حقيقة الشعور بولاية الله وحده والثقة المطلقة بهذه الولاية والتجرد من كل شائبة من شك في أن جند الله هم الغالبون وأن الله غالب على أمره وأن الذين كفروا غير معجزين في الأرض ولا سابقين لله سبحانه! والتعامل مع وعد الله هذا مهما تكن ظواهر الأمور تخالفه فوعد الله أصدق مما تراه عيون البشر وتقدره عقولهم!
إنه الرعب لأن قلوبهم خاوية من السند الصحيح . لأنهم لا يستندون إلى قوة ولا إلى ذي قوة . إنهم أشركوا بالله آلهة لا سلطان لها لأن الله لم يمنحها سلطاناً .
والتعبير : { ما لم ينزل به سلطاناً } ذو معنى عميق وهو يصادفنا في القرآن كثيراً . مرة توصف به الآلهة المدعاة ، ومرة توصف به العقائد الزائفة . . وهو يشير إلى حقيقة أساسية عميقة :
إن أية فكرة أو عقيدة أو شخصية أو منظمة . . إنما تحيا وتعمل وتؤثر بمقدار ما تحمل من قوة كامنة وسلطان قاهر . هذه القوة تتوقف على مقدار ما فيها من « الحق » أي بمقدار ما فيها من توافق مع القاعدة التي أقام الله عليها الكون ومع سنن الله التي تعمل في هذا الكون . وعندئذ يمنحها الله القوة والسلطان الحقيقيين الفاعلين المؤثرين في هذا الوجود . وإلا فهي زائفة باطلة ضعيفة واهية مهما بدا فيها من قوة والتماع وانتفاش!
والمشركون يشركون مع الله آلهة أخرى - في صور شتى - ويقوم الشرك ابتداء على إعطاء غير الله - سبحانه - شيئاً ما من خصائص الألوهية ومظاهرها وفي مقدمة هذه الخصائص حق التشريع للعباد في شؤون حياتهم كلها; وحق وضع القيم التي يتحاكم إليها العباد في سلوكهم وفي مجتمعاتهم; وحق الاستعلاء على العباد وإلزامهم بالطاعة لتلك التشريعات والاعتبار لهذه القيم .
. ثم تأتي مسألة العبادة الشعائرية ضمن إعطاء هذه الخصائص لغير الله سبحانه وواحدة منها!
فماذا تحمل هذه الآلهة من الحق الذي أقام الله عليه الكون؟ إن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد; وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده بلا شريك; ولتتلقى منه الشريعة والقيم بلا منازع; ولتعبده وحده حق عبادته بلا أنداد . . فكل ما يخرج على قاعدة التوحيد في معناها الشامل فهو زائف باطل مناقض للحق الكامن في بنية الكون . ومن ثم فهو واهٍ هزيل لا يحمل قوة ولا سلطاناً ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة ; بل لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة!
وما دام أولئك المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطاناً; من الآلهة والعقائد والتصورات فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء وهم أبداً خوارون ضعفاء; وهم أبداً في رعب حيثما التقوا بالمؤمنين المرتكنين إلى الحق ذي السلطان . .
وإننا لنجد مصداق هذا الوعد كلما التقى الحق والباطل . . وكم من مرة وقف الباطل مدججاً بالسلاح أمام الحق الأعزل . ومع ذلك كان الباطل يحتشد احتشاد المرعوب ويرتجف من كل حركة وكل صوت - وهو في حشده المسلح المحشود! فأما إذا أقدم الحق وهاجم فهو الذعر والفزع والشتات والاضطراب في صفوف الباطل; ولو كانت له الحشود وكان للحق القلة تصديقاً لوعد الله الصادق : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً } . .
ذلك في الدنيا . فأما في الآخرة . . فهناك المصير المحزن البائس الذي يليق بالظالمين .
{ ومأواهم النار . وبئس مثوى الظالمين! } . .