القدر على مقامين مقامين: مقام إيمان وهدى ونجاة، ومقام ضلال وردى وهلاك
القدر على مقامين مقامين: مقام إيمان وهدى ونجاة، ومقام ضلال وردى وهلاك زلت فيه أقدام فهوت بصاحبها إلى دار الشقاء
فأما مقام الإيمان والهدى والنجاة فمقام إثبات القدر والإيمان به، وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها، وأن ماشاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس، وهذه الأثاركلها تحقق هذا المقام وتبين أن من لم يؤمن بالقدر فقد أنسلخ من التوحيد ولبس جلباب الشرك، بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه، وهذا فى كل كتاب انزله الله على رسله
وأما المقام الثانى: وهو مقام الضلال والردى والهلاك فهو الاحتجاج به على ذنبه على الله وحمل العبد ذنبه على ربه وتنزيه النفس الجاهلة الظالمة الأمارة بالسوء وجعل أرحم الراحمين وأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأغنى الأغنياء أضر على العباد من أبليس، كما صرح به بعضهم واحتج عليه بما خصمه فيه من لا تدحض حجته
ولا تطاق مغالبته حتى يقول قائل هؤلاءِ:
ما حيلة العبد والأقدار جارية عليه فى كل حال أيها الرائي
ألقاه فى اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
ويقول قائلهم:
دعانى وسد الباب دونى فهل إلى دخولى سبيل؟ بينوا لى قصتي
ويقول الآخر:
وضعوا اللحم للبزاة على ذروتى عدن
ثم لاموا البزاة إذ خلعوا عنهم الرسن
لو أرادوا صيانتى سَتروا وَجْهَك الحسن
وقال بعضهم- وقد ذكر له ما يخاف من إفساده- فقال: لى خمس بنات لا أخافعلى إفسادهن غيره وصعد رجل يوماً على سطح دار له، فأشرف على غلام له يفجر بجاريته فنزل وأخذهما ليعاقبهما، فقال الغلام: إن القضاء والقدر لم يدعانا حتى فعلنا ذلك. فقال: لعلمك بالقضاء والقدر أحب إلى من كل شيء، أنت حر لوجه الله. ورأى آخر رجلاً يفجر بامرأته، فبادر ليأخذه فهرب، فأقبل يضرب المرأة وهى تقول: القضاءُ والقدر. فقال: يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا؟ فقالت: أو تركت السنة وأخذت بمذهب ابن عباس، فتنبه ورمى بالسوط من يده واعتذر إليها وقال: لولاك لضللت، ورأى آخر رجلاً آخر يفجر بامرأته فقال: ما هذا؟ فقالت: هذا قضاءُ الله وقدره. فقال: الخيرة فيما قضى الله، فلقب بالخيرة فيما قضى الله، وكان إذا دعى به غضب، وقيل لبعض هؤلاء: أليس [الله عز وجل] يقول: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] فقال: دعنا من هذا، رضيه وأحبه وأراده، وما أفسدنا غيره، ولقد بالغ بعضهم فى ذلك حتى قال: القدر عذر لجميع العصاة، وإنما مثلنا فى ذلك كما قيل:
إذا مرضنا أَتيناكم نعودكم وتذنبون فنأْتيكم فنعتذر
وبلغ بعض هؤلاء أن علياً مر بقتلى النهروان فقال: بؤساً لكم، لقد ضركم من غركم. فقيل: من غرّهم؟ فقال: الشيطان، والنفس الأمارة بالسوءِ، والأمانى، فقال هذا القائل: كان على قدرياً، وإلا فالله غرهم وفعل بهم ما فعل وأوردهم تلك الموارد. واجتمع جماعة من هؤلاء يوماً فتذاكروا القدر، فجرى ذكر الهدهد وقوله:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 24] فقال: كان الهدهد قدرياً أضاف العمل إليهم والتزيين إلى الشيطان، وجميع ذلك فعل الله. وسئل بعض هؤلاء عن قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنْعَك أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدِى} [سورة ص: 75]: أيمنعه، ثم يسأله ما منعه؟ قال: نعم، قضىعليه فى السر ما منعه فى العلانية ولعنه عليه، قال له: فما معنى قوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِم لَوْ آمَنُوا بِالله} [النساء: 39] إذا كان هو الذى منعهم؟ قال: استهزاءً بهم. قال: فما معنى قوله: {مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وآمنتم} [النساء: 147] قال: قد فعل ذلك بهم من غير ذنب جنوه، بل ابتدأهم بالكفر ثم عذبهم عليه، وليس للآية معنى، وقال بعض هؤلاء- وقد عوتب على ارتكابه معاصى الله فقال: إن كنت عاصياً لأمره فأنا مطيع لإرادته. وجرى عند بعض هؤلاء ذكر إبليس وإبائه وامتناعه من السجود لآدم، فأخذ الجماعة يلعنونه ويذمونه، فقال: إلى متى هذا اللوم؟ ولو خلى لسجد، ولكن منع. وأخذ يقيم عذره فقال بعض الحاضرين: تباً لك سائر اليوم، أتذب عن الشيطان وتلوم الرحمن؟ وجاء جماعة إلى منزل رجل من هؤلاء فلم يجدوه، فلما رجع قال: كنت أصلح بين قوم فقيل له: وأصلحت بينهم؟ قال: أصلحت، إن لم يفسد الله. فقيل له: بؤساً لك، أتحسن الثناء على نفسك وتسيء الثناء على ربك؟ ومُرَّ بلصّ مقطوع اليد على بعض هؤلاء فقال: مسكين، مظلوم، أجبره على السرقة ثم قطع يده عليها، وقيل لبعضهم: أترى الله كلف عباده ما لا يطيقون ثم يعذبهم عليه؟ قال: والله قد فعل ذلك، ولكن لا نجسر أن نتكلم. وأراد رجل من هؤلاء السفر، فودع أهله وبكى. فقيل: استودعهم الله واستحفظهم إياه. فقال: ما أخاف عليهم غيره، وقال بعض هؤلاء: ذنبة أذنبها أحب إلى من عبادة الملائكة. قيل: ولم؟ قال: لعلمى بأن الله قضاها على وقدرها، ولم يقضها إلا والخيرة لى فيها وقال بعض هؤلاء: العارف لا ينكر منكراً، لاستبصاره بسر الله فى القدر. ولقد دخل شيخ من هؤلاء بلداً، فأول ما بدأ به من الزيارات زيارة المواخير المشتملة على البغايا والخمور، فجعل يقول: كيف أنتم فى قدر الله.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: عاتبت بعض شيوخ هؤلاء فقال لى: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب والكون كله مراده، فأى شيء أبغض منه؟ قال: فقلت له إذا كان المحبوب قد أبغض بعض من فى الكون وعاداهم ولعنهم، فأحببتهم أنت وواليتهم، أكنت ولياً للمحبوب أو عدواً له؟ قال: فكأنما ألقم حجراً. وقرأ قاريء بحضرة بعض هؤلاء: {قَالَ يَإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [ص: 75]، فقال: هو والله منعه، ولو قال إبليس ذلك لَكَانَ صادقاً، وقد أخطأ إبليس الحجة، ولو كنت حاضراً لقلت له: أنت منعته، وسمع بعض هؤلاء قارئاً يقرأ: {وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبّواْ الْعَمَىَ عَلَى الْهُدَىَ} [فصلت: 17] فقال: ليس من هذا شئ، بل أضلهم وأعماهم. قالوا: فما معنى الآية؟ قال: مخرقة يمخرق بها.
فيقال: الله أكبر على هؤلاء الملاحدة أعداء الله حقاً الذين ما قدروا الله حق قدره، ولا عرفوه حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه، ولا نزهوه عما لا يليق به، وبغضوه إلى عباده وبغضوهم إليه سبحانه، وأساؤوا الثناء عليه جهدهم وطاقتهم، وهؤلاء خصماءُ الله حقاً الذين جاء فيهم الحديث: "يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةَ: أَيْنَ خُصَمَاءُ الله؟ فَيُؤمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ". قال شيخ الإسلام ابن تيمية فى تائيته:
ويدعى خصوم الله يوم معاده إلى النار طراً فرقة القدرية
سواءٌ نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ماروا به للشريعة
وسمعته يقول: القدرية المذمومون فى السنة وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاث: نفاته، وهم القدرية المجوسية، والمعارضون به للشريعة الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148]، وهم القدرية الشركية والمخاصمون به للرب سبحانه وهم أعداءُ الله وخصومه وهم القدرية الإبليسية. وشيخهم إبليس، وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال: {بِمَا أَغْوَيْتَنِى} [الحجر: 39]، ولم يعترف بالذنب يَبُوءُ به كما اعترف به آدم، فمن أقر بالذنب وباءَ به ونزّّه ربه فقد أشبه أباه آدم، ومن أشبه أباه فما ظلم. ومن برأ نفسه واحتج على ربه بالقدر فقد أشبه إبليس. ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والشركية شر من القدرية النفاة، لأن النفاة إنما نفوه تنزيهاً للرب [تعالي] وتعظيماً له أن يقدر الذنب ثم يلوم عليه ويعاقب، ونزهوه أن يعاقب العبد على ما لا صنع للعبد فيه البتة بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه [وحوله] ونحو ذلك، كما يحكى عن بعض الجبرية أنه حضر مجلس بعض الولاة فأتى بطرّار أحول فقال له الوالى: ما ترى فيه؟ فقال: اضربه خمسة عشر- يعنى سوطاً- فقال له بعض الحاضرين ممن ينفى الجبر: بل ينبغى أن يضرب ثلاثين سوطاً [خمسة عشر] لطره، [ومثلها] لحوله. فقال الجبرى: كيف يضرب على الحول ولا صنع له فيه؟ فقال: كما يضرب على الطر ولا صنع له فيه عندك، فبهت الجبرى. وأما القدرية الإبليسية والشركية فكثير منهم منسلخ عن الشرع، عدو لله ورسله، لا يقر بأمر ولا نهى، وتلك وراثة عن شيوخهم الذين قال الله فيهم: {سَيَقُولُ الّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتّىَ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاّ تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]، وقال تعالى: {وَقَالَ الّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نّحْنُ وَلآ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرّسُلِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35]، وقال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20]، وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَنُطْعِمُ مَن لّوْ يَشَآءُ اللّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ} [يس: 47]، فهذه أربعة مواضع فى القرآن بين سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل.
وقد افترق الناس فى الكلام على هذه [الآيات] أربعة فرق:
الفرقة الأولى: جعلت هذه الآيات حجة صحيحة، وأن للمحتج بها الحجة على الله. ثم افترق هؤلاء فرقتين: فرقة كذبت بالأمر والوعد والوعيد، وزعمت أن الأمر والنهى والوعد والوعيد بعد هذا يكون ظلماً، والله لا يظلم من خلقه أحداً وفرقة صدقت بالأمر والنهى والوعد والوعيد وقالت: ليس ذلك بظلم، والله يتصرف فى ملكه [كما] يشاءُ، ويعذب العبد على ما لا صنع له فيه، بل يعذبه على فعله هو سبحانه لا على فعل عبده، إذ العبد لا فعل له، والملك ملكه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فإن هؤلاء الكفار إنما قالوا هذه المقالة التى حكاها الله عنهم استهزاءً منهم، ولو قالوها اعتقاداً للقضاء والقدر وإسناداً لجميع الكائنات إلى مشيئته وقدرته لم ينكر [ذلك] عليهم، ومضمون قول هذه الفرقة أن هذه حجة صحيحة إذا قالوها على وجه الاعتقاد لا على جهة الاستهزاء فيكون للمشركين على الله الحجة، وكفى بهذا القول فساداً وبطلاناً.
الفرقة الثانية: جعلت هذه الآيات حجة لها فى إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة إذ لو صحت المشيئة العامة وكان الله عز وجل قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان لكانوا قد قالوا الحق وكان الله [عز وجل] يصدقهم عليه ولم ينكر عليهم، فحيث وصفهم بالخرص الذى هو الكذب، ونفى عنهم العلم، دل على أن هذا الذى قالوه ليس بصحيح، وأنهم كاذبون فيه إذ لو كان علماً لكانوا صادقين فى الإخبار به ولم يقل لهم: {هَلْ عِندَكُمْ مِنْ عِلْمٍ} [الأنعام: 148]، وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجة لها على التكذيب بالقضاء والقدر، وزعمت بها أن يكون فى ملكه ما لا يشاءُ، ويشاء ما لا يكون، وأنه لا قدرة له على أفعال عباده من الإنس والجن والملائكة ولا على أفعال الحيوانات، وأنه لا يقدر أن يضل أحداً ولا يهديه ولا يوفقه أكثر مما فعل به، ولا يعصمه من الذنوب والكفر ولا يلهمه رشده، ولا يجعل فى قلبه الإيمان، ولا هو الذى جعل المصلى مصلياً والبر براً والفاجر فاجراً والمؤمن مؤمناً والكافر كافراً، بل هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك. فهذه الفرقة شاركت الفرقة التى قبلها فى إِلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر: فالأولى تحيزت إلى القدر وحاربت الشرع، والثانية تحيزت إلى الشرع وكذبت القدر.
والطائفتان ضالتان، وإحداهما أضل من الأخرى.
والفرقة الثالثة: آمنت بالقضاء والقدر، وأقرت بالأمر والنهى، ونزلوا كل واحد منزلته. فالقضاءُ والقدر يؤمن به ولا يحتج به، والأمر والنهى يمتثل ويطاع. فالإيمان بالقضاء والقدر عندهم من تمام التوحيد وشهادة أن لا إلَه إلا الله، والقيام بالأمر والنهى موجب شهادة أن محمداً رسول الله. وقالوا: من لم يقر بالقضاء والقدر ويقوم بالأمر والنهى فقد كذب بالشهادتين وإن نطق بهما بلسانه. ثم افترقوا فى وجه هذه الآيات فرقتين: فرقة قالت: إنما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك، فجعلوا مشيئته له وتقديره له دليلاً على رضاه به ومحبته له، إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينهم وبينه، فإن الحكيم إذا كان قادراً على دفع ما يكرهه ويبغضه دفعه ومنع من وقوعه وإذا لم يمنع من وقوعه لزم إماعدم قدرته وإما عدم حكمته، وكلاهما ممتنع فى حق الله، فعلم محبته لما نحن عليه من عبادة غيره ومن الشرك به، وقد وافق هؤلاء من قال: إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها، ولكن خالفهم فى أنه نهى عنها وأمر بأضدادها ويعاقب عليها، فوافقهم فى نصف قولهم وخالفهم فى الشطر الآخر، وهذه الآيات من أكبر الحجج على بطلان قول الطائفتين، وأن مشيئة الله تعالى العامة وقضاءَه وقدره لا يستلزم محبته ورضاه لكل ما شاءَه وقدَّره. وهؤلاء المشركون لما استدلوا بمشيئته على محبته ورضاه كذبهم وأنكر عليهم وأخبر أنه لا علم لهم بذلك وأنهم خارصون مفترون فإن محبة الله [تعالى] للشيء ورضاه به إنما يعلم بأمره به على لسان رسوله لا بمجرد خلقه له، فإنه خلق إبليس وجنوده وهم أعداؤه وهو تعالى يبغضهم ويلعنهم وهم خلقه، فهكذا فى الأفعال خلق خيرها وشرها، وهو يحب خيرها ويأمر به ويثيب عليه ويبغض شرها وينهى عنه ويعاقب عليه وكلاهما خلقه ولله تعالى الحكمة البالغة التامة فى خلقه ما يبغضه ويكرهه من الذوات والصفات والأفعال، كل صادر عن حكمته وعلمه كما هو صادر عن قدرته ومشيئته. وقالت الفرقة الثانية: إنما أنكر عليهم معارضة الشرع بالقدر ودفع الأمر بالمشيئة، فلما قامت عليهم حجة الله ولزمهم أمره ونهيه دفعوه بقضائه وقدره، فجعلوا القضاءَ والقدر إبطالاً لدعوة الرسل ودفعاً لما جاؤوا به، وشاركهم فى ذلك إخوانهم وذريتهم الذين يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصى والذنوب فى نصف أقوالهم وخالفوهم فى النصف الآخر وهو إقرارهم بالأمر والنهى.
فانظر كيف انقسمت هذه المواريث على هذه السهام وورث كل قوم أئمتهم وأسلافهم، إما فى جميع تركتهم وإما فى كثير منها. وإما فى جزء منها. وهدى الله بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث نبيهم وأصحابه فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض، بل آمنوا بقضاء الله وقدره ومشيئته العامة النافذة، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه مقلب القلوب ومصرفها كيف أراد، وأنه هو الذى جعل المؤمن مؤمناً والمصلى مصلياً والمتقى متقياً، وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره وأئمة الضلالة يدعون إلى النار، وأنه ألهم كل نفس فجورها وتقواها ؛ وأنه يهدى من يشاءُ بفضله ورحمته ويضل من يشاءُ بعدله وحكمته، وأنه هو الذى وفق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه ولو شاء لخذلهم فعصوه وأنه حال بين الكفار وقلوبهم فإنه يحول بين المرء وقلبه فكفروا به ولو شاء لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه، وأنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، وأنه لو شاء لآمن من فى الأرض كلهم جميعاً إيماناً يثابون عليه ويقبل منهم ويرضى به عنهم، وأنه لو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد: {ولَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].
والقضاءُ والقدر عندهم أربع مراتب جاءَ بها نبيهم وأخبر بها عن ربه تعالى: الأولى: علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم. الثانية كتابة ذلك فى الذكر عنده قبل خلق السموات والأرض. الثالثة مشيئته المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن عن مشيئته كما لا خروج له عن علمه. الرابعة خلقه له وإيجاده وتكوينه، فإنه لا خالق إلا الله، والله خالق كل شيء. فالخالق عندهم واحد وما سواه فمخلوق ولا واسطة عندهم بين الخالق والمخلوق، ويؤمنون مع ذلك بحكمته، وأنه حكيم فى كل ما فعله وخلقه، وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامة هى التى اقتضت صدور ذلك وخلقه، وإن حكمته حكمة حق عائدة إليه قائمة به كسائر صفاته، وليست عبارة عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره كما يقوله نفاة الحكمة الذين يقرون بلفظها دون حقيقتها، بل هى أمر وراء ذلك، وهى الغاية المحبوبة له المطلوبة التى هى متعلق محبته وحمده، ولأجلها خلق فسوَّى وقَدَّر فهدى، وأمات وأحيا وأسعد وأشقى، وأضل وهدى ومنع وأعطى، وهذه الحكمة هى الغاية، والفعل وسيلة إليها، فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفى للغايات وهو محال، إذ نفي الغاية مستلزم لنفى الوسيلة، فنفي الوسيلة وهى الفعل لازم لنفى الغاية وهى الحكمة، ونفى قيام الفعل والحكمة به نفى لهما فى الحقيقة، إذ فعل لا يقوم بفاعله وحكمة لا تقوم بالحكيم شيء لا يعقل، وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته، وهذا لازم لمن نفى ذلك، ولا محيد له عنه وإن أبى التزامه، وأما من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل لم يلزم من قوله محذور البتة، بل قوله حق، ولازم الحق حق كائناً ما كان
والمقصود أن ورثة الرسل وخلفاءَهم- لكمال ميراثهم لنبيهم- آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحمودة فى أفعال الرب وأوامره، وقاموا مع ذلك بالأمر والنهى، وصدقوا بالوعد والوعيد، فآمنوا بالخلق الذى من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة، وبالأمر الذى من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب، فصدقوا بالخلق والأمر، ولم ينفوهما بنفى لوازمهما كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر، وكانوا أسعد الناس بالخلق وأقربهم عصبة فى هذا الميراث النبوى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
واعلم أن الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة لا يجتمع إلا فى قلوب خواص الخلق ولب العالم، وليس الشأن فى الإيمان بألفاظ هذه المسميات وجحد حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال، فإن القدرية تؤمن بلفظ القدر، ومنهم من يرده إلى العلم، ومنهم من يرده إلى الأمر الدينى ويجعل قضاءه وقدره هو نفس أمره ونهيه ونفس مشيئة الله لأفعال عباده بأمره لهم بها وهذا حقيقة إنكار القضاءِ والقدر. وكذلك الحكمة، فإن الجبرية تؤمن بلفظها ويجحدون حقيقتها، فإنهم يجعلونها مطابقة علمه تعالى لمعلومه تعالى، وإرادته لمراده تعالى، فهى عندهم وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته. والقدرية النفاة لا يرضون بهذا، بل يرتفعون عنه طبقة ويثبتون حكمة زائدة على ذلك، لكنهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم ويجعلونها مخلوقاً من مخلوقاته كما قالوا فى كلامه وإرادته فهؤلاء كلهم أقروا بلفظ الحكمة وجحدوا معناها وحقيقتها. وكذلك الأمر والشرع، فإن من أنكر كلام الله وقال: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، ولا يحب شيئاً ولا يبغض شيئاً، وجميع الكائنات محبوبة له وما لم يكن فهو مكروه له، ولا يحب ولا يرضى ولا يغضب، ولا فرق فى نفس الأمر بين الصدق والكذب [والبر] والفجور، والسجود للأصنام والشمس والقمر والسجود له، ولم يكلف أحداً ما يقدر عليه بل كل تكليفه [تكليف] ما لا يطاق ولا قدرة للمكلف عليه البتة، ويجوز أن يعذب رجالاً إذ لم يكونوا نساءً ويعذب نساءً إذ لم يكونوا رجالاً وسوداً حيث لم يكونوا بيضاً وبيضاً حيث لم يكونوا سوداً، ويجوز أن يظهر المعجزة على أيدى الكذابين ويرسل رسولاً يدعو إلى الباطل وعبادة الأوثان، ويأمر بقتل النفوس وأنواع الفجور. ولا ريب أن هذا يرفع الشرائع والأمر والنهى بالكلية، ولولا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل [صلوات الله وسلامه عليه] ولكن مشى الحال بعض المشى بتناقضهم وهو خير لهم من طرد أصولهم والقول بموجبها.
والمقصود أنه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهى والوعد والوعيد حقيقة [الإيمان] إلا أتباع الرسل وورثتهم، والقضاءُ والقدر منشؤُه عن علم الرب وقدرته، ولهذا قال الإمام أحمد: القدر قدرة الله، واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان وقال: إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر
المنكرون للقدر فرقتين: فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته، وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة. وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورة لله تعالى وصرحت بأن الله لا يقدر عليها، فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب، وأنكرت الأخرى كمال علمه، وقابلتهم الجبرية فجاءت على إثبات [القدرة] والعلم وأنكرت الحكمة والرحمة، ولهذا كان مصدر الخلق والأمر والقضاءِ والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته، ولهذا يقرن تعالى بين الاسمين [والصفتين] من هذه الثلاثة كثيراً كقوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنَ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6]، وقال: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِن الله الْعَزِيز} [الحكيم] [الزمر: 1]، وقال: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ العَلٍيمِ} [غافر: 1-2] وقال: فى حم فصلت بعد ذكر تخليق العالم: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 12]
وذكر نظير هذا [فى الأنعام] فقال: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96].
فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضى أن لا يخرج موجود عن قدرته، وارتباطه بعلمه التام يقتضى إحاطته به وتقدمه عليه، وارتباطه بحكمته يقتضى وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب [تعالى]. وكذلك [ارتباط] أمره بعلمه وحكمته وعزته، فهو عليم بخلقه وأمره حكيم فى خلقه عزيز فى خلقه وأمره. ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى والحكمة من صفاته العلى، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة، والحكمة هى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهى تتضمن العلم بالحق [والعمل] به [والخبر] عنه والأمر به، فكل هذا يسمى حكمة وفى الأثر "الحكمة ضالة المؤمن"، وفى الحديث: "إن من الشعر حكمة"، فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده وهو محمود على جميع ما فى الكون من خير وشر حمداً استحقه لذاته وصدر عنه خلقه وأمره، فمصدر ذلك كله عن الحكمة، فإنكار الحكمة إنكار لحمده فى الحقيقة والله أعلم.