إن الله خلق داريْن وخصَّ كل دار بأهل
إن الله خلق داريْن وخصَّ كل دار بأهل
والله سبحانه مع كونه خالق كل شيء فهو موصوف بالرضا والغضب والعطاء والمنع والخفض والرفع والرحمة والانتقام، فاقتضت حكمته سبحانه أن خلق داراً لطالبى رضاه العاملين بطاعته المؤثرين لأمره القائمين بمحابة وهى الجنة، وجعل فيها كل شيء مرضى وملأها من كل محبوب ومرغوب ومشتهى ولذيذ، وجعل الخير بحذافيره فيها، وجعلها محل كل طيب من الذوات والصفات والأقوال.
وخلق داراً أخرى لطالبى أسباب غضبه وسخطه، المؤثرين لأغراضهم وحظوظهم على مرضاته، العاملين بأنواع مخالفته، القائمين بما يكره من الأعمال والأقوال، الواصفين له بما لا يليق به، الجاحدين لما أخبرت به رسله من صفات كماله ونعوت جلاله لما أخبرت به رسله من صفات كماله ونعوت جلاله، وهى جهنم، وأودعها كل شيء مكروه وسجنها مليء من كل شيء مؤذ ومؤلم، وجعل الشر بحذافيره فيها، وجعلها محل كل خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال.
فهاتان الداران هما دارا القرار. وخلق داراً ثالثة هى كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزود المسافرون إليهما، وهى دار الدنيا، ثم أخرج إليها من أثمار الدارين بعض ما اقتضته أعمال أربابهما وما يستدل به عليهما، حتى كأنهما رأى عين، ليصير للإيمان بالدارين- وإن كان غيباً- وجه شهادة تستأنس به النفوس وتسدل به، فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات والملابس الفاخرة والصور الجميلة وسائر ملاذ النفوس ومشتهاها ما هو نفحة من نفحات الدار التى جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال، فإذا رآه المؤمنون ذكرهم بما هناك من الخير والسرور والعيش الرخى كما قيل:
فإذا رآك المسلمون تيقنوا حور الجنان لدى النعيم الخالد
فشمروا إليها وقالوا: اللَّهم لا عيش إلا عيش الآخرة وأحدثت لهم رؤيته عزمات وهمماً وجداً وتشميراً، لأن النعيم يذكر بالنعيم، والشيء يذكر بجنسه، فإذا رأى أحدهم ما يعجبه ويروقه ولا سبيل له إليه قال: موعدك الجنة، وإنما هى عشية أو ضحاها.
فوجود تلك المشتهيات والملذوذات فى هذه الدار رحمة من الله يسوق بها عباده المؤمنين إلى تلك الدار التى هى أكمل منها، وزاد لهم من هذه الدار إليها، فهى زاد وعبرة ودليل، وأثر من آثار رحمته التى أودعها تلك الدار، فالمؤمن يهتز برؤيتها إلى ما أمامه، ويثير ساكن عزماته إلى تلك، فنفسه ذواقة تواقة، إذا ذاقت شيئاً منها تاقت إلى ما هو أكمل منه حتى تتوق إلى النعيم المقيم فى جوار الرب الكريم.
وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضاً من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات ما يستدل بجنسه على ما فى دار الشقاء من ذلك، مع أن ذلك من آثار النفسين الشتاء والصيف اللذين أذن الله سبحانه بحكمته لجهنم أن تتنفس بهما، فاقتضى ذانك النفسان آثاراً ظهرت فى هذه الدار كانت دليلاً عليها وعبرة.
وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى ونبه عليه بقوله فى نار الدنيا: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لّلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73]، تذكرة تذكر بها الآخرة ومنفعة للنازلين بالقواءِ وهم المسافرون، يقال: أقوى الرجل إذا نزل بالقِى والقَوَى وهى الأرض الخالية، وخص المقوين بالذكر وإن كانت منفعتها عامة للمسافرين والمقيمين تنبيهاً لعباده- والله أعلم بمراده من كلامه- على أنهم كلهم مسافرون وأنهم فى هذه الدار على جناح سفر ليسوا هم مقيمين ولا مستوطنين وأنهم عابرو سبيل وأبناء سفر. والمقصود أنه سبحانه أشهد فى هذه [الدار] ما أعد لأوليائه وأعدائه فى دار القرار، وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عبرة ودلالة على ما هناك من خير وشر، وجعل هذه العقوبات والآلام والمحن والبلايا سياطاً يسوق بها عباده المؤمنين، فإذا رأوها حذروا كل الحذر واستدلوا بما رأوه منها وشاهدوه على ما فى تلك الدار من المكروهات والعقوبات، وكان وجودها فى هذه الدار وإشهادهم إياها وامتحانهم باليسير منها رحمة منه بهم وإحساناً إليهم وتذكرة وتنبيهاً. ولما كانت هذه الدار ممزوجاً خيرها بشرها وأذاها براحتها ونعيمها بعذابها اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن خلص خيرها من شرها وخصه بدار أخرى هى دار الخيرات المحضة ودار السرر المحضة، فكتب على هذه الدار حكم الامتزاج والاختلاط وخلط فيها بين الفريقين، وابتلى بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض فتنة، حكمة بالغة بهرت العقول وعزة قاهرة.
فقام بهذا الاختلاط سوق العبودية كما يحبه ويرضاه، ولم تكن تقوم عبوديته التى يحبها ويرضاها إلا على هذا الوجه، بل العبد الواحد جمع فيه بين أسباب الخير والشر، وسلط بعضه على بعض ليستخرج منه ما يحبه من العبودية التى لا تحصل إلا بذلك. فلما حصلت الحكمة المطلوبة من هذا الامتزاج والاختلاط أعقبه بالتمييز والتخليص، فميز بينهما بدارين ومحلين، وجعل لكل دار ما يناسبها، وأسكن فيها من يناسبها، وخلق المؤمنين المتقين المخلصين لرحمته، وأعداءه الكافرين لنقمته، والمخلصين للأمرين: فهؤلاء أهل الرحمة وهؤلاء أهل النقمة، وهؤلاء أهل النقمة والرحمة. وقسم آخر لا يستحقون ثواباً ولا عقاباً.
ورتب على كل قسم من هذه الأقسام الخمسة حكمه اللائق به، وأظهر فيه حكمته الباهرة، ليعلم العباد كمال قدرته وحكمته وأنه يخلق ما يشاءُ، ويختار من خلقه من يصلح للاختيار، وأنه يضع ثوابه موضعه، ويجمع بينهما فى المحل المقتضى لذلك، ولا يظلم أحداً ولا يبخسه شيئاً من حقه ولا يعاقبه بغير جنايته، هذا مع ما فى ضمن هذا الابتلاء والامتحان من الحكم الراجعة إلى العبيد أنفسهم: من استخراج صبرهم وشكرهم وتوكلهم وجهادهم، واستخراج كمالاتهم الكامنة فى نفسهم من القوة إلى الفعل، ودفع الأسباب بعضها ببعض، وكسر كل شيء بمقابلة ومصادمته بضده، لتظهر عليه آثار القهر وسمات الضعف والعجز ويتيقن العبد أن القهار لا يكون إلا واحداً، وأنه يستحيل أن يكون له شريك، بل القهر والوحدة متلازمان: فالملك والقدرة والقوة والعزة كلها لله الواحد القهار، ومن سواه مربوب مقهور، له ضد ومناف ومشارك: فخلق الرياح وسلط بعضها على بعض تصادمها وتكسر سورتها وتذهب بها، وخلق الماءَ وسلط عليه الرياح تصرفه وتكسره، وخلق النار وسلط عليها الماءَ يكسرها ويطفئها، وخلق الحديد وسلط عليه النار تذيبه وتكسر قوته، وخلق الحجارة وسلط عليها الحديد يكسرها ويفتتها، وخلق آدم وذريته وسلط عليهم إبليس وذريته، وخلق إبليس وذريته وسلط عليهم الملائكة يشردونهم كل مشرد ويطردونهم كل مطرد، وخلق الحر والبرد والشتاء والصيف وسلط كلا منها على الآخر يذهبه ويقهره، وخلق الليل والنهار وقهر كلا منهما بالآخر، وكذلك الحيوان على اختلاف ضروبه من حيوان البر والبحر لكل منه مضاد ومغالب، فاستبان للعقول والفطر أن القاهر الغالب لذلك كله واحد وأن من تمام ملكه إيجاد العالم على هذا الوجه وربط بعضه على بعض وإحواج بعضه إلى بعض وقهر بعضه ببعض وابتلاءِ بعضه ببعض وامتزاج خيره بشره، وجعل شره لخيره الفداءِ، ولهذا يدفع إلى كل مؤمن يوم القيامة كافر فيقال له: هذا فداؤك من النار، وهكذا المؤمن فى الدنيا يسلط عليه من الابتلاء والامتحان والمصائب ما يكون فداءه من عذاب الله، وقد تكون تلك الأسباب فداءً له من شرور أكثر منها فى هذا العالم أيضاً، فليعط اللبيب هذا الموضع حقه من التدبر يتبين له حكمة اللطيف الخبير.