القرآن أولًا
في الصباح الباكر دخلت عربة القطار كعادتي اليومية في طريقي إلى العمل، وأخذت مقعدي المعتاد، وكان الوقت مبكرًا، وبدأ الركاب يتوافدون على المقاعد من حولي، والغالبية منهم ما إن تأخذ مقعدها حتى تبدأ في فتح الجرائد الصباحية وتقليب صفحاتها بشغف منقطع النظير، كنت أتأمل العناوين العريضة في الصحف من حولي، وجميعها لا شغل لها ولا هم إلا متابعة أخبار الثورة المصرية وآخر مستجداتها وأحداثها الملتهبة.
محاكمات ومراجعات ومناقشات وصولات وجولات وتقنينات وتعديلات، بل ونوادر من أحداث الثورة وتبعاتها، كان الغليان هو السمة الغالبة على الأحداث والإعلام وحتى الأحاديث الجانبية بين الناس.
وفي خضم هذه المعمة أدرت بصري فإذا بشاب يجلس بجواري -لم أتفطن له من قبل- وكان مستغرقًا في القراءة في المصحف، فانتابني شعور بالسكينة والمهابة والقناعة أن هذا الشاب الحدث قد وجد طريقه الصحيح من دون الجالسين المطالعين لموجات الصحف الهادرة.
نعم "القرآن" هو البداية الفعلية والمنطلق لأي تغيير نحو الأفضل، وهذا ليس تحيزًا أعمى للقرآن أو عصبية لديني، بل إنها قناعة تؤيدها قواعد المنطق وشواهد التاريخ على مر العصور.
لماذا القرآن أولًا؟
لأن القرآن وحده هو القادر على تأليف القلوب وتجميع الكل في البوتقة الإيمانية الغالية، يقول ابن خلدون -رحمه الله- عن الطبيعة العربية: "العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة؛ والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادًا بعضهم لبعض؛ للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم؛ وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس، فإذا كان فيهم النبي صلى الله عليه وسلم أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق تم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك. وهم مع ذلك أسرع الناس قبولًا للحق والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذميم الأخلاق، إلا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة المتهيئ لقبول الخير، ببقائه على الفطرة الأولى، وبعده عما ينطبع في النفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات، فإن كل مولود يولد على الفطرة، كما ورد في الحديث" (مقدمة ابن خلدون).
ولا يخفى على أي لبيب أن التشرذم والتفرق المخيم على كل أطياف الأمة هو الذي أوردها موارد الضعف والهوان، حتى بتنا نسمع في رحاب أمتنا الإسلامية التليدة عن يساريين وشيوعيين وعلمانيين وليبراليين، والكل يجهر بمعاداة الله تعالى وشرعه جهارًا نهارًا دون أدنى استحياء أو خوف أو مهابة، تحت مظلة حرية التعبير، والرأي والرأي الآخر، وغيرها من الشعارات التي أسيئ استخدامها، حتى بدت غريبة على أسماعنا وأعرافنا وتقاليدنا وأحكامنا، بل لا يجد فريق منهم أي غضاضة من التصريح بالتخوف من قفز الإسلاميين على السلطة ورفضهم الصريح لحكومة دينية تحكم بشرع رب البرية.
وأذكر على سبيل المثال تأكيد دار الإفتاء المصرية على موقعها على الإنترنت بفتوى رقم 292399، بأن التشريع الإسلامي يصلح للحكم بين البشر وأن قول خالد منتصر: "إيه دخل الله في السياسة" بأنه سوء أدب مع الله ولو كان يقصد أن التشريع الإسلامي لا يصلح للحكم بين البشر فهو يكفر بذلك.
يأتي هذا حيث أرسل أحد المسلمين سؤالًا لدار الإفتاء المصرية، حيث أرسل لهم حلقة مع العلماني خالد منتصر والدكتور صبحي صالح، حيث قام خالد منتصر بالهجوم وسوء الأدب، وقال: "إيه دخل الله في السياسة" مما اعتبره المشاهدون هجومًا وسوء أدب مع الله سبحانه وتعالى، فأرسل سؤالًا بحكم ذلك، فكان رد دار الإفتاء المصرية هو: "هذه المقولة خطأ وهى من سوء الأدب من صاحبها، ويجب أن يعلم قائلها أنه إذا كان يقصد أن التشريع الرباني لا يصلح للحكم بين البشر فهو يكفر بذلك".
إننا بدون القرآن لن نجتمع، وإن لم نجتمع فلن تقوم لنا قائمة، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [آل عمران: 103]، أي: وتمسَّكوا جميعًا بكتاب ربكم وهدي نبيكم، ولا تفعلوا ما يؤدي إلى فرقتكم، واذكروا نعمة جليلة أنعم الله بها عليكم، إذ كنتم -أيها المؤمنون- قبل الإسلام أعداء، فجمع الله قلوبكم على محبته ومحبة رسوله، وألقى في قلوبكم محبة بعضكم لبعض، فأصبحتم بفضله إخوانًا متحابين، وكنتم على حافة نار جهنم، فهداكم الله بالإسلام ونجَّاكم من النار. وكما بيَّن الله لكم معالم الإيمان الصحيح فكذلك يبيِّن لكم كل ما فيه صلاحكم؛ لتهتدوا إلى سبيل الرشاد، وتسلكوها، فلا تضلوا عنها (التفسير الميسر).
القرآن يقدم العلاج الرباني الفريد لإصلاح النفوس وتزكيتها بما يمثل تربة نقية طاهرة وقاعدة صلبة راسخة تتفاعل بإيجابية وحب وشغف مع أي إنجازات مستقبلية، قال قتادة: "إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار".
فبدون تربية قلوب طاهرة ونفوس مؤمنة لن نتمكن من تشييد صروح الإنجازات؛ لأن أي عملية بناء تحتاج ابتداء إلى من يتعامل معها بفطرة نقية وضمائر حية ويعطيها من إخلاصه ما يهون عليها العقبات والكبوات.
القرآن يمتلك خطة إصلاحية فريدة منقطعة النظير، تتميز بربانية المصدر من الله، وثبات المنهج ومسايرة الواقع وشمولية الأحكام، قال تعالى: { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41-42]، أي لا يجد الطعن سبيلًا إليه من جهة من الجهات فيتعلق به، متلبسًا بالحجج التي تدفع كل باطل، وبالعدل حتى ينتفي به جَوْر كل مائل.
يقول ابن القيم: "الكتاب المبين الفارق بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، والشك واليقين، أنزله لنقرأه تدبرًا، ونتأمله تبصرًا، ونسعد به تذكرًا، ونحمله على أحسن وجوهه ومعانيه، ونصدق به ونجتهد على إقامة أوامره ونواهيه، ونجتني ثمار علومه النافعة الموصلة إلى الله سبحانه من أشجاره ورياحين الحكم من بين رياضه وأزهاره، فهو كتابه الدال عليه لمن أراد معرفته، وطريقه الموصلة لسالكها إليه، ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات، ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات، والسبب الواصل بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب، وبابه الأعظم الذي منه الدخول فلا يُغلق إذا غلقت الأبواب، وهو الصراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء، والذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء، والنزل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء، لا تفنى عجائبه ولا تقلع سحائبه ولا تنقضي آياته ولا تختلف دلالاته، كلما ازدادت البصائر فيه تأملًا وتفكيرًا زادها هدايةً وتبصيرًا، وكلما بجست معينه فجر لها ينابيع الحكمة تفجيرًا، فهو نور البصائر من عماها، وشفاء الصدور من أدوائها وجواها، وحياة القلوب، ولذة النفوس، ورياض القلوب، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، والمنادي بالمساء والصباح: يا أهل الفلاح حي على الفلاح، نادى منادي الإيمان على رأس الصراط المستقيم: { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّـهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأحقاف:31].
سمع والله لو صادف آذانًا واعية، وبصر لو صادف قلوبًا من الفساد خالية، لكن عصفت على القلوب هذه الأهواء فأطفأت مصابيحها، وتمكنت منها آراء الرجال فأغلقت أبوابها، وأضاعت مفاتيحها وران عليها كسبها، فلم تجد حقائق القرآن إليها منفذًا، وتحكمت فيها أسقام الجهل فلم تنتفع معها بصالح العمل، وعجبًا لها كيف جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولم تقبل الإغتذاء بكلام رب العالمين ونصوص حديث نبيه المرفوع، أم كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ والصواب وخفى عليها ذلك في مطالع الأنوار من السنة والكتاب، وعجبًا كيف ميزت بين صحيح الآراء وسقيمها، ومقبولها ومردودها، وراجحها ومرجوحها، وأقرت على أنفسها بالعجز عن تلقي الهدى والعلم من كلام من كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكفيل بإيضاح الحق مع غاية البيان وكلام من أوتي جوامع الكلم واستولى كلامه على الأقصى من البيان.
كلا بل هي والله فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها، وحيرت العقول عن طرائق قصدها، يربى فيها الصغير ويهرم فيها الكبير.
وظنت خفافيش البصائر أنها الغاية التي يتسابق إليها المتسابقون، والنهاية التي تنافس فيها المنافسون، وتزاحموا عليها وهيهات، أين السهى من شمس الضحى، وأين الثرى من كواكب الجوزاء، وأين الكلام الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم من النقل المصدق عن القائل المعصوم، وأين الأقوال التي أعلى درجاتها أن تكون سائغة الاتباع من النصوص الواجب على كل مسلم تقديمها وتحكيمها والتحاكم إليها في محل النزاع، وأين الآراء التي نهى قائلها عن تقليده فيها وحذر من النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها" (التفسير القيم لابن القيم).
القرآن يقدم للأمة أحكامًا وتشريعات ربانية تختلف عن التشريعات الوضعية بقدسيتها التي تأخذ بشغاف القلوب فتعلم يقينًا باطلاع الله عليها ومراقبته في السر والعلن، وهذا ما لا يتوفر في القوانين البشرية.
ولذلك لا غرابة أن نسمع عن: أعداء الثورة، والثورة المضادة، والالتفاف على الثورة، والتهجم الصريح على الإسلاميين، ومحاولة جرهم إلى أتون الفتنة الطائفية، والحقد عليهم لأنهم أكثر شعبية وتنظيمًا وامتلاكًا للقلوب، نسمع عن الانفلات الأمني، والاعتصامات الفئوية، والفساد الإعلامي الذي لا يتقي الله في الخبر ولا التحليل، نسمع عن الكثير من إفرازات غياب التربية الإيمانية.
إنه من السهل جدًا صياغة قوانين تنظم المرور والبناء والصناعة والزراعة، ولكن من الصعب صياغة قطاعات بشرية تمارس هذه القوانين بدون عملية تربوية إيمانية. إن خلق القانون أيسر بكثير من خلق شعب واعي.
إذن منطلقنا لابد أن يكون تربوي، إيماني، رباني، وهذا ما يقدمه القرآن ولا يقدمه ما سواه.