البعوض: مستكشف الروائح
عزيزي القارئ لو طلب منك تحديد مصدر رائحة ما على بعد أربعة وستين كيلومترا بإستخدام حاسة الشم فقط, فهل بإمكانك أن تفعل ذلك ؟ بالطبع لا، فهذا مستحيل، من المستحيل الإحساس برائحة ما من هذه المسافة البعيدة وبالتالي لا يتسنى أبدا تحديد مصدرها. ولكن البعوض يستطيع تنفيذ هذه المهمة المستحيلة
وهذه الحقيقة العلمية تم اكتشافها من خلال الأبحاث التي أجراها البروفسور جيري تبلر من جامعة فلوريدا، فمن المعروف أن أنثى البعوض تحتاج إلى الدم الضروري لنضج البيض، وبما أنّه خليط من المواد الكيمياوية مثل فيتامين (ب) والكولسترول التي لا تستطيع الأنثى أن تصنعها بنفسها، ولذلك تقوم الأنثى بتوفير هذه المواد الكيمياوية من الإنسان والحيوانات. و قد بينت الأبحاث التي قام بها البروفسور تبلر أن الأنثى لا تختار فريستها التي تمتص منها الدم بصورة اعتباطية، فالاختيار يتمّ من قبل أنثى البعوض حسب طبيعة الفريسة التي يمكن أن توفر لها احتياجاتها المختلفة، وهذا التحديد الأمثل للفريسة ولمكانها يتم باستخدام أنثى البعوض لحاسة الشم. ويؤكد البروفسور بتلر أن حاسة الشم لدى البعوض قوية إلى درجة مذهلة، وهو يستطيع بواسطتها تحديد الجزيئات الصغيرة جدا التي تنبعث من جسم الإنسان (الفريسة) 82. فجسم الإنسان مثلا تنبعث منه روائح مختلفة، إضافة إلى غاز ثاني أوكسيد الكاربون الذي يطلق مع هواء الزفير.
إنّ أنثى البعوض تمتلك حاسة شم قوية تستطيع بواسطتها تحديد مصادر هذه الروائح، إذ تقوم بالتحرك هنا وهناك لتحديد جزيئات الروائح ومصادرها بسهولة، وإلى جانب ذلك تستطيع أنثى البعوض تحديد مواقع الأوعية الدموية التي تمتص منها الدم عن طريق أعضاء حسية خاصة في جسمها، وهذه الأعضاء حساسة جدا للحرارة وبالتالي تساعد الأنثى في تحديد مكان الوعاء الدموي بصورة دقيقة، والمثير هنا هو قدرة كائن حي صغير جدا لا يتعدى حجمه السنتمتر الواحد على التعرف على ماهية الروائح المختلفة وتحديد أماكنها من مسافة تبلغ عشرات الكيلومترات.
وحاسة الشم فائقة الحساسية لدى البعوض تعتبر جزءا من مجموعة أجهزة يمتلكها جسم البعوض وتتميز بكفاءة المذهلة. وهذه الحقيقة العلمية تكشف للإنسان العاقل قدرة الله تعالى في خلق الكائنات والأشياء.
تعليق على الصورة: إنّ البعوض هو من الكائنات الحية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم تذكرة للإنسان بآيات الله في خلقه.
فالبعوض الذي يعتبره كثير منا كائنا حيا صغيرا مثل غيره من الكائنات يحمل في جسمه دلائل القدرة الإلهية وعظمة الخلق، هذه العظمة التي تتجلى في كل شيء حولنا وهي لا تحصى ولا تعد. وإنطلاقا من القدرة العجيبة لحاسة شم البعوض ندعو القارئ الكريم إلى تأمل معاني الآية الكريمة التالية:
(إنّ اهَب لاَ يَستَحِي أَن يَضرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوقَهَا فَأمَّا الذِينَ آمنُوا فَيَعلَمُونَ أَنّهُ الحَقُّ مِن رَبّهِم وَأمّا الذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بِهَذَا مَثلاً يُضِلّ بِهِ كِثيرًا وَيهدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفَاسِقِينَ).
ومن هنا يتضح لنا أن ثمة تفسيرا واحدا لكيفية إحساس البعوض بالروائح ولكيفية قيامه بعملية الطيران بتلك المهارة العجيبة، فالبعوض الذي نصادفه في حياتنا اليومية والذي يحتوي جسمه على أدلة قدرة الله تعالى على خلق الأشياء يدعونا أيضا إلى تأمل الدعوة الإلهية الواردة في الآية الكريمة التالية: (يَا أَيّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إِنّ الذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخلُقُوا ذُبَابًا وَلَو اجتَمَعُوا لَهُ وَ إِن يَسلُبهُم الذّبَابُ شَيئًا لاَ يَستَنقِذُوهُ مِنهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطلُوبُ).سورة الحج- الآية 73.
قدرات الفراشة المدهشةإنّ الفراشات هي حشرات كثيرة الأنواع، إذ يصل عدد أنواعها إلى المليون تقريبا تنتشر في جميع أنحاء الأرض عدا المناطق القطبية والمحيطات، وعملية الشم في جسم هذه الحشرة الصغيرة تقوم بها أعضاء حسية صغيرة تتمثل في اللامسين الدقيقين الموجودين بمقدمة الرأس،
ويحتوي كل منهما على شعيرات دقيقة تقدر بالمئات، وكل شعيرة تحتوي على خلايا شمية مستقبلة، وبفضل هذه الشعيرات يكون للفراشات معرفة للروائح المختلفة . فالفراشة تستطيع عن طريق استخدام حاسة الشم التمييز بين المواد الغذائية الملائمة لغذائها وبين المواد التي تسبب لها الضرر، وإلى جانب ذلك تعتبر حاسة الشم ذات أهمية حياتية بالنسبة إلى الفراشة فعند موسم التكاثر تفرز أنثى الفراشة رائحة مميزة يتعرف عليها الذكر بسرعة فيتجه نحو الأنثى ويقوم بتلقيحها. وينبغي أن نتوقف هنا للتأمل قليلا، فالذّكر يحلق لمسافة عدة كيلومترات كي يصل إلى مصدر تلك الرائحة الأنثوية، وعلى سبيل المثال يحلق ذكر فراشة الحرير لمسافة عشرين كيلومترا أو أكثر متتبعا مصدر رائحة الأنثى85 . و لا شك أن الحساسية الفائقة لحاسة الشم عند هذه الكائنات الصغيرة مثيرة للدهشة ومحيرة للعقول.
تعليق على الصورة:
تمتلك الفراشات حاسّة شم قوية للغاية بفضل وجود شعيرات دقيقة عديدة جدا في لوامسها الأمامية، وبواسطة هذه الشعيرات الدقيقة تستطيع أن تصل إلى المواد ذات القيمة الغذائية الملائمة لغذائها.
ورب سائل يسأل: كيف يستطيع ذكر نوع معين من الفراش أن يحدد مكان وجود أنثاه في تلك المنطقة من بين مئات آلاف الأنواع لإناث الفراشات المختلفة ودون أي خطأ؟ والجواب يكمن في الحساسية العجيبة لحاسة شم الفراشات، فعلى سبيل المثال يستطيع ذكر الفراش من النوع المسمى هليكوفيربازي والذي يعيش في أمريكا الشمالية أن يحدد رائحة أنثاه خلال 0.001 ثانية حتى لو كانت هناك رائحة أخرى قريبة وعلى بعد ملليمتر واحد على الأكثر.
ولقد قام الباحثون بإجراء تجاربهم المتعلقة بحاسة الشم لدى الفراشات بواسطة مستقبلات صغيرة جدا وضعت في لوامس هذه الفراشات ، وسجلت الإشارات العصبية التي أرسلتها الشعيرات الحسية الدقيقة إلى المخ أثناء طيران الذكر نحو مصدر رائحة أنثى مصنعة مختبريا داخل نفق خاص، وقد لوحظ أن هذه الإشارات العصبية طرأ عليها تغيير حال مصادفة الذكر لموجة رائحة الأنثى الصنعية. ولقد بين جيوفاني كاليريا الباحث في معهد الأبحاث العصبية في برلين أن حاسة الشم لدى الفراشة هي من أفضل الأجهزة الحساسة تجاه الروائح عند هبوب الرياح القوية إذن فنحن أمام معجزة إلهية تتمثل في القدرة العجيبة لجهاز حسي في جسم كائن حي لا يبلغ طوله سوى بضعة ملليمترات.
حاسة الشم وسيلة للإتصال بين أفراد النحل
إنّ الروائح التي يفرزها أفراد النحل تمثل إحدى وسائل الاتصال فيما بينها، أي أنّ أفراد خلية النحل التي يقدر عددها بعشرات الآلاف تقوم باستخدام الجزيئات الكيمياوية التي تفرزها كوسيلة من وسائل الاتصال وتبادل المعلومات فيما بينها، وبتعبير آخر تستخدم حشرات النحل الإشارات الكيمياوية لتبادل المعلومات.( والأسلوب نفسه يستخدم لدى أفراد مستعمرات النمل)، فأفراد خلية النحل الواحدة يتعرف بعضها على البعض الآخر عن طريق الرائحة المميزة والمشتركة، وإذا حاولت نحلة غريبة أن تدخل إلى الخلية فسرعان ما يتم التعرف على رائحتها الغريبة ويتم طردها فورا، وإذا قامت نحلة عاملة بمص رحيق زهرة ما حتى نفد هذا الرحيق فإن تلك النحلة تفرز رائحة معينة على الزهرة للدلالة على أنه لم يبق فيها رحيق، وبالتالي لا تخسر باقي العاملات الوقت والجهد عند القدوم إلى تلك الزهرة فتغادرها إلى زهرة أخرى غنية بالرحيق.
وتمتلك كل نحلة جهازا شميا يجعلها قادرة على تمييز المعاني والإشارات التي تحملها أية رائحة حشرية أو أية رائحة أخرى، والخلايا الشمية توجد في لوامسها الأمامية، ويقول الباحث ساثيس تشاندرا الذي أجرى تجارب عديدة على النحل إنّ هذه الحشرات ماهرة جدا في استخدام حاسة الشم الموجودة في أجسامها
يستطيع أفراد خلية النحل الواحدة تمييز الغرباء من خلال الرائحة المختلفة.