لا يمكن للمصادفات أن تنشئ أي تركيب في أجسام الكائنات الحية
لو تمعنا في أي تفصيل من تفاصيل عالمنا هذا لوجدنا أن ثمة عقلا مدبرا لهذا الوجود، وهذا الأمر يقودنا إلى حقيقة كبيرة وعلى درجة عالية من الأهمية، وهي أن كل شيء في الوجود مخلوق من قبل الله رب العالمين، أما ادعاءات الداروينيين فتدور حول المصادفات التي هي الوحيدة القادرة على الخلق حسب وجهة نظرهم، أو بعبارة أخرى فإن الأحداث الحاصلة بصورة عشوائية وتلقائية واعتباطية هي التي أدت إلى ظهور معالم الحياة بكل ما فيها من نظام وإتقان ودقة وتعقيد.
ومن خلال محاولات الداروينيين لتفسير كيفية نشوء حاسة الشم بالتطور فإنهم يرجعون عملية النشوء برمتها إلى المصادفات، أي أن الكائن الحي حسب رأيهم احتاج إلى الشم بالمصادفة، وتشكل العضو الملائم والمؤدي لهذه الوظيفة بالمصادفة أيضا، وبالمصادفة كذلك قامت الجزيئات بترتيب نفسها لتكوّن البروتينات الملائمة في الأعضاء الشمية، وبالمصادفة أيضا قامت الجزيئات بترتيب نفسها أيضا لتكون الروائح، ولعبت المصادفة أيضا دورها في تكوين الأعصاب التي تنقل تأثير الروائح من الأنف إلى المخ بكل ما في تلك الأعصاب الحسية من تعقيد وتفتصيل كثيرة متشعبة. وبالمصادفة أيضا تكونت الإشارات الكهربائية الناقلة للإيعاز العصبي، وهذه المصادفات التي نتحدث عنها عبارة عن أحداث متسلسلة إلى درجة لا يمكن تصور حدوثها بمعزل عن بعضها البعض لأن الحديث يدور عن آليات حياتية متسلسلة ومتكاملة ومعقدة لو فقدت حلقة من حلقاتها لما نشأت تلك الآليات.
وحسب رأيهم أيضا فإنّ تأثيرات خارجية تلقائية هي التي أكسبت الآليات الحياتية التجديدات اللازمة لاستمرارها وصولا إلى الكمال. وينبغي على دعاة التطور في هذه الحالة التسليم بأن هذه الأحداث التصادفية تحدث بانتظام وإتقان لأن نظام الحياة المعقد للكائن الحي يمتلك تفاصيل متكاملة مترابطة مع بعضها البعض، وإذا فقدت أية حلقة أو أصيب النظام بأي خلل مهما كان طفيفا فإن النظام الحياتي يصاب بالعطل من أساسه.
لذلك فحسب نظرية التطور مهما كانت تلك الأحداث وليدة المصادفة فإنه لا يطرأ عليها أي خطإ، إلا أنّ هذه الأحداث التي تقع بشكل اعتباطي يطرأ عليها أحيانا ما يعرف بـ"الطفرات"، وهي تسمية تطلق على التغييرات الحاصلة في التركيب الوراثي للكائن الحي نتيجة تأثيرات خارجية مثل التعرض للإشعاعات النوورية. وهذه التغييرات إذا حدثت دون أيّ تحكّم تصبح خطيرة ومدمرة. ولقد أثبت العلم الحديث مدى الضرر الذي تلحقه الطفرات الوراثية بالتركيب الجزيئي الوراثي لبنية الكائن الحي، فالطفرات الحاصلة ضارة بنسبة 99% وغير مؤثرة بنسبة 1%.
ولهذا السبب فالطفرات لا تؤدي إلى التخريب وإلى تشويش التناسق النوجود في جسم الكائن الحي. ولا يختلف تأثيرها عن تأثير زلزال مدمر يضرب مدينة جميلة فيحيلها قاعا صفصفا، ثم إنّ جسم الكائن الحي أكثر تناسقا وتعقيدا من أية مدينة مهما كانت كبيرة وجميلة. وما دام الأمر كذلك فإنه من المستحيل أن تقود الطفرات إلى حدوث تجديدات أو تطورات في بنية الكائن الحي. ويسلم رجال العلم في عصرنا الراهن بهذه الحقيقة، ويبينون أن الطفرات لا تملك أية تأثيرات تطورية. ويقول البروفسور ميكائيل بتمان الإخصائي في الفيزيولوجيا النباتية معلقا على هذا الموضوع:
"هل رأينا نحن إلى حد الآن أية تراكيب وظيفية فعالة نشأت بفعل الطفرات الوراثية؟ إنه لم تتم مشاهدة مراحل تكون الأعضاء في أي وقت من الأوقات، والمراحل الأولى لتكون الأعضاء مراحل لم تتخصص الأعضاء فيها بعد لأداء وظيفة معينة، وهي المراحل التي يمكن أن تشكل أساسا لنظرية التطور. وكان يفترض أن تُشاهد مثل هذه الطفرات في يومنا هذا، أي كان من الممكن أن تشاهد مثل هذه المراحل في جميع الكائنات الحية وهي التي تتمخض عنها أعضاء وظيفية في أجسام تلك الكائنات الحية. ولكن الواقع أننا لا نرى حدوث مثل هذه الطفرات، ولا يوجد أي أثر لمثل هذ التغيير الجذري، ولم تثبت الملاحظات التجريبية ولا التجارب أن الطفرات الوراثية هي الوسيلة التي اتبعها الانتخاب الطبيعي في تكوين جين وراثي جديد أو هرمون جديد أو حتى أنزيم أو عضو جديد"97.
إنّ مفهوم الطفرات أضيف إلى نظرية داروين في الانتخاب الطبيعي من قبل رائد الداروينية الحديثة جوليان هكسلي، ولكنه عاد واعترف في نهاية الأمر بحقيقة عدم امتلاك الطفرات الوراثية لأي تأثير، ومن هنا يتضح لنا أن الطفرات الوراثية أو بالأحرى (تغيير الأنواع بواسطة الطفرات) ليس لها أي دور في تطور الأحياء المزعوم98.
وبالرغم من انكشاف هذه الحقيقة مازال دعاة التطور متشبثين بالطفرات كتفسير لحدوث تغييرات خيالية في بنية الكائن الحي ووظائف أعضائه، وما زالوا على رأيهم هذا بالرغم من تأكدهم من التأثير الضار لهذه الطفرات، بل يذهبون في ذلك مذهبا بعيدا مؤكدين على بساطة مميزات هذه الطفرات. وهنا يكمن سبب تسميتهم لحاسة الشم بالحاسة البدائية حيث يعتقدون أن من السهولة تفسير كيفية نشوء الأجهزة الجسمية البدائية عن طريق المصادفات أو بالأحرى الطفرات الوراثية. ولكن الحقيقة أن مثل هذا التأويل أو التفسير غير منطقي بالمرة فأي جهاز مهما كان بسيطا لابد أن يحتوي على نظام معين، ومن المستحيل أن تؤدي المصادفات إلى نشوء النظام أو الانتظام، وبتعبير أوضح إنّ من الخطإ تسمية أي شيء في هذا بكونه بدائيا لأن كل شيء فيه مخلوق بانتظام وبدقة مصممة مسبقا من قبل الله سبحانه وتعالى.
وحاسة الشم التي سلطنا الضوء على شيء من تفاصيلها في الصفحات السابقة تتألف من تراكيب وأعضاء معقدة تعمل وفق معايير دقيقة وحساسة للغاية على العكس مما يدعيه دعاة التطور من بدائية هذه التركيب أو بساطة. والأبحاث العلمية التي أجريت على حاسة الشم أكدت النتائج التالية: إنّه لا وجود لحاسة بدائية على الإطلاق، وبالعكس فإن كل النتائج العلمية تشير إلى وجود حاسة ذات تركيب معقد وحساس ودقيق للغاية. ولقد قام آلاف العلماء والباحثين بإجراء أبحاثهم العلمية على حاسة الشم وأسرارها امتدت لسنين طوال ومازالت مستمرة ولكنهم مايزالون في بداية الطريق، ولم يكتشف من هذه الأسرار إلا النزر القليل. وما زالت هذه الأسرار وهذه المكنونات عبارة عن نظريات وتخمينات علمية تتحسس طريقها نحو اليقين. ونذكر من هؤلاء الباحثين في هذا المجال البروفسورة ليندا باك من معهد مديكال. إذ تقول في هذا الصدد:
"من المحتمل أن تكون حاسة الشم أقوى الحواس وأكثرها تعقيدا، بالإضافة إلى كونها أكثر الحواس مدعاة لحيرة العلماء وانبهارهم99.
(الذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالذِي قََدّرَ فَهَدَى* وَالذِي أَخرَجَ المَرعَى* فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحوَى* سَنُقرِئكَ فَلاَ تَنسَى) سورة الأعلى-الآيات 2-5
ونذكر أيضا العالم الألماني هاينز برير من جامعة هوهنهايم في شتوتجارت والذي نال جائزة لايبنيتز برايز وهي أعلى جائزة علمية ألمانية تمنح لرجال العلم، وكان حصوله عليها نتيجة أبحاثه العلمية القيمة المتعلقة بحاسة الشم وأسراها. ويقول هذا العالم عن أهمية حاسة الشم ما يلي:
"إن حاسة الشم ذات قدرة عالية على تمييز الجزيئات المتطايرة في الجو بحساسية فائقة وعلى درجة كبيرة من الصواب، ولكنها من أكثر الحواس احتواء على الأسرار التي لم تكتشف بعد"100.أما محاولات دعاة التطور في إسباغ صفة البدائية على حاسة الشم فهي لا تعدو كونها إنكارا للحقائق الدامغة والصارخة أمام أعينهم. فهم شاهدون بكل وضوح على أن التصميم المدهش والمعقد لحاسة الشم هو دليل على القدرة الإلهية على خلق الأشياء. ولا عجب، فقد وسع علمه سبحانه وتعالى كل شيء، وهو الله الذي يخلق كل شيء بميزان وقسطاس دقيق ويهب لكل شيء نظامه ويمنحه انتظامه، وقد ورد في القرآن الكريم ما يشير إلى ذلك:
(الذِي لَهُ مُلكُ السَّموَاتِ وَالأَرضِ وَلَم يَتّخِذ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقدِيرًا* وَاتَخَذُوا مِن دُونِهِ ألِهَةً لاً يَخلُقُونَ شَيئا وَهُم يُخلَقُونَ وَلاَ يَملِكُونَ لأَنفُسِهِم ضَرًّا وَلاَ نَفعًا وَلاَ يَملِكُونَ مَوتًا وَلاَ حَيَوةً وَلاَ نُشُورًا) سورة الفرقان- الآيات 2-3.