نعم الطاعات واللذات كلها من عند الله تعالى


محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

 

نعم الطاعات واللذات كلها من عند الله تعالى قد فكّرت في هذا الأمر فإذا أصله أن تعلم أن النعم كلها من الله وحده نعم الطاعات ونعم اللذات فترغب إليه أن يلهمك ذكرها ويوزعك شكرها قال تعالى:{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } النحل 53, وقال:{ فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } الأعراف 69, وقال:{ وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } النحل 114, وكما أن تلك النعم منه ومن  مجرد فضله فذكرها وشكرها لا ينال إلا بتوفيقه والذنوب من خذلانه وتخليه عن عبده وتخليته بينه وبين نفسه وإن لم يكشف ذلك عن عبده فلا سبيل له إلى كشفه عن نفسه فإذا هو مضطر إلى التضرع والابتهال إليه أن يدفع عنه أسبابها حتى لا تصدر منه وإذا وقعت بحكم المقادير ومقتضى البشرية فهو مضطر إلى التضرع والدعاء أن يدفع عنه موجباتها وعقوباتها فلا ينفك العبد عن ضرورته إلى هذه الأصول الثلاثة ولا فلاح له إلا بها الشكر وطلب العافية والتوبة النصوح.ثم فكرت فإذا مدار ذلك على الرغبة والرهبة وليسا بيد العبد بل بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء فإن وفق عبده أقبل بقلبه إليه وملأه رغبة ورهبة وإن خذله له تركه ونفسه ولم يأخذ بقلبه إليه ولم يسأله ذلك وما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن.

 

 

 

 

  ثم فكرت هل للتوفيق والخذلان سبب أم هما بمجرد المشية لا سبب لهما فإذا سببهما أهلية المحل وعدمها فهو سبحانه خالق المحال متفاوتة في الاستعداد والقبول أعظم تفاوت فالجمادات لا تقبل ما يقبله الحيوان وكذلك النوعان كل منهما متفاوت في القبول فالحيوان الناطق يقبل ما لا يقبله البهيم وهو متفاوت في القبول أعظم تفاوت وكذلك الحيوان البهيم متفاوت في القبول لكن ليس بين النوع الواحد من التفاوت كما بين النوع الإنساني فإذا كان المحل قابلا للنعمة بحيث يعرفها ويعرف قدرها وخطرها ويشكر المنعم بها ويثني عليه بها ويعظمه عليها ويعلم أنها من محض الجود وعين المنة من غير أن يكون هو مستحقا لها ولا هي له ولا به وإنما هي لله وحده وبه وحده فوحده بنعمته إخلاصا وصرفها في محبته شكرا وشهدها من محض جوده منة وعرف قصوره وتقصيره في شكرها عجز أو ضعفا وتفريطا وعلم أنه إن أدامها عليه فذلك محض صدقته وفضله وإحسانه وإن سلبه إياها فهو أهل لذلك مستحق له.وكلما زاده من نعمه ازداد زلالة وانكسارا وخضوعا بين يديه وقياما بشكره وخشيته له سبحانه أن يسلبه إياها لعدم توفيته شكرها كما سلب نعمته عمن لم يعرفها ولم يرعها حق رعايتها فإن لم يشكر نعمته وقابلها بضد ما يليق أن يقابل به سلبه إياها ولا بد قال تعالى:{ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ }الأنعام 53, وهم الذين عرفوا قدر النعمة وقبلوها وأحبوها وأثنوا على المنعم بها وأحبوه وقاموا بشكره وقال تعالى:{ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } الأنعام 124.

 

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ نعم الطاعات واللذات كلها من عند الله تعالى

  • مراتب العبادة

    الشيخ عبد العزيز بن باز

    هذه العبادات منها المستحب ومنها الواجب، فعبادة الله بالإخلاص له، وصرف العبادة لوجهه الكريم، وأداء ما فرض، وترك ما

    07/10/2013 9122
  • التعريف باسم الله (الأول)

    فريق عمل الموقع

    (الأول): هو الذي يترتب عليه غيره. وهو في حق الله تعالى يدل على أن كل ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن. [تفسير أسماء

    23/05/2021 908
  • يعجز اللسان عن البيان!!

    عبد الله بن مشبب بن مسفر القحطاني

    جاء في "صحيح مسلم" قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال" يقول الشيخ السعدي رحمه الله في شرحه

    13/12/2022 418
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day