أين الله ؟
أين الله ؟
أخبرنا – سبحانه – أنّه في السماء ، مستوى على عرشه ( أَأَمِنتُم مَّن في السَّماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تَمُورُ – أمّ أَمِنتُم مَّن في السَّماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير ) [ الملك : 16-17 ] .
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربّه أنّه في السماء ، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء ، يأتيني خبر السماء صباح مساء ) . (1)
وشهد للجارية بالإيمان عندما أخبرته أن الله في السماء ، ففي صحيح مسلم وسنن أبي داود : أنّ معاوية بن الحكم السلمي ضرب جارية له لتقصيرها في الحفاظ على أغنامه ، ثم ندم فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نادماً يستأذنه في إعتاقها ، فطلبها الرسول صلى الله عليه وسلم وسألها ( أين الله ؟ ) قالت : في السماء . قال : ( من أنا ؟ ) قالت : أنت رسول الله ، قال : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) . (2)
وقد أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم المريض أن يدعو لنفسه أو يدعو له أخوه بهذا الدعاء – وفيه النص على أنه تعالى في السماء – ( ربنا الله الذي في السماء تقدّس اسمك ، أمرُك في السماء والأرض ، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض ، اغفر لنا حوبنا وخطايانا ، أنت رب الطيبينَ ، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ ) . (3)
وفي حديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) . (4)
معنى كونه في السماء :
وليس المراد بأنه في السماء أنّ جرم السماء يحتويه – سبحانه وتعالى عن ذلك – بل المراد بالسماء العلو والفوقية ، فقد وصف نفسه – سبحانه – بأنه الأعلى ( سبّح اسم ربّك الأعلى ) [ الأعلى : 1 ] ، وبأنه العلي العظيم : ( وسع كرسيُّه السَّماوات والأرض ولا يَؤُودُهُ حفظهما وهو الْعَلِيُّ العظيم ) [ البقرة : 255 ] .
وأخبر تعالى أنّه فوق عباده : ( يخافون ربَّهم من فوقهم ) [ النحل : 50 ] ، ( وهو القاهر فوق عباده ) [ الأنعام : 18 ] وفي تمجيد الرسول صلى الله عليه وسلم لربّه في دعائه يقول : ( وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ) . (5) وكانت زينب تفخر على زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وتقول : ( زوجكن أهاليكن وزوّجني الله من فوق سبع سموات ) . (6)
ولا يمكن لمسلم يفقه عقيدته حق الفقه أن يظن أنّ الله في السماء بمعنى أنّ السماء تحويه ، وأنّه في جرم السماء ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، كيف والسماوات ليس بشيء بالنسبة إليه سبحانه ( والسَّماوات مطويَّات بيمينه ) [ الزمر : 67 ] ، ( يوم نطوي السَّماء كَطَيِّ السِّجِلِّ للكتب ) [ الأنبياء : 104 ] .
كثرة الأدلة :
والأدلة من الكتاب والسنة على أنّه تعالى في السماء فوق عباده ظاهر عليهم كثيرة جداً ، ويحتاج استقصاؤها إلى صفحات طويلة ، ويمكن أن نصنفها على النحو التالي :
1- الأدلة الدالة على أنّه في السماء ، وقد ذكرناها .
2- الأدلة الدالة على أنّه مستو على العرش ، وقد سبقت .
3- الأدلة الدالة على علوه ، وأنه فوق عباده ، وقد ذكرنا طرفاً منها .
4- النصوص الدالة على أن بعض مخلوقاته عنده ، كقوله : ( إنَّ الَّذين عند ربّك لا يستكبرون عن عبادته ) [ الأعراف : 206 ] .وقال في الشهداء : ( بل أحياء عند ربهم يرزقون ) [ آل عمران : 169 ] .وهي نصوص كثيرة .
5- النصوص المخبرة برفع بعض الأشياء أو عروجها وصعودها إليه ، كالآيات المصرحة برفع عيسى ابن مريم ( بل رَّفعه الله إليه ) [ النساء : 158 ] والمخبرة بصعود الأعمال إليه : ( إليه يصعد الْكَلِمُ الطيّب والعمل الصَّالح يرفعه ) [ فاطر : 10 ] ، والنصوص المخبرة بصعود أرواح المؤمنين ( إنَّ الَّذين كذَّبوا بِآيَاتِنَا واستكبروا عنها لا تُفَتَّحُ لهم أبواب السَّماء ) [ الأعراف : 40 ] .فدل النصّ على أنّ المؤمنين تفتح لهم ، وقد جاءت الأحاديث مفسرة ذلك وموضحة له .ومن ذلك عروج الملائكة إليه ( تعرج الملائِكة والرُّوح إليه ) [ المعارج : 4 ] .
6- ومنها إخباره بإنزال الملائكة ( ينزّل الملائِكة بالرُّوح من أمره ) [ النحل : 2 ] ، وإخباره بإنزال الكتب ( وهذا كتاب أنزلناه مباركٌ ) [ الأنعام : 92 ] .
7- ومنها رفع الأيدي والأبصار إليه ، وقد وردت أحاديث كثيرة ذكر فيها رفع الرسول صلى الله عليه وسلم يديه في الدعاء ، وكلّ منْ حزَبه أمرٌ فإنه يرفع يديه إلى العلو يدعو الله .وكذلك رفع البصر ، فإنه ثبت في الدعاء بعد الوضوء .
8- ومن ذلك إشارته صلى الله عليه وسلم بإصبعه إلى العلو كما في حديث حجة الوداع عندما قالوا : نشهد أنّك قد بلغت وأديت ونصحت ، فقال بإصبعيه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : ( اللهم اشهد ، اللهم اشهد ) . (7)
وإن أحببت المزيد من ذكر الأدلة وأقوال سلف الأمة فراجع ما جمعه أهل العلم في مدوناتهم في هذا الموضوع .
علوه – سبحانه – لا ينافي قربه :
فهو قريب يجب دعوة الداعي إذا دعاه ، ويعلم سرّه ونجواه ، وهو أقرب إلى داعيه من عنق راحلته ، ويعلم ما توسوس به النفوس ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد ، وهو يعلم السرّ وأخفى ، ويعلم ما يلج في الأرض ، وما يخرج منها ، وما ينزلُ من السماء ، وما يعرج فيها ، وهو مع خلقه بعلمه وقدرته ، لا تخفى عليه منهم خافية ، وما يعزب عن ربك مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، فهو – سبحانه – القريب في علوّه ، العلي في دنوّه وهو الأول والآخر والظاهر والباطن .
--------------
(1) صحيح البخاري : 8/66 ، ورقمه : 4351 ، وصحيح مسلم : 2/742 ، ورقمه : 1064 .
(2) رواه مسلم في صحيحه : 1/382 ، ورقم الحديث : 537 ، ورواه أبو داود في سننه ، انظر صحيح سنن أبي داود : 1/175 ، ورقمه : 823 ، وانظر : 3/632 ، ورقمه : 2809 .
(3) سنن أبي داود : 4/16 ، ورقمه : 3892 .
(4) رواه الترمذي ، انظر صحيح سنن الترمذي : 2/180 ، ورقمه : 1569 ، وقال الترمذي فيه : حديث حسن صحيح .
(5) رواه مسلم في صحيحه : 4/2084 ، ورقمه : 2713 .
(6) صحيح سنن الترمذي : 3/92 ، ورقمه : 2566 .
(7) رواه أبو داود : 1/358 ، ورقمه : 1905 ، وأصل الحديث في الصحيحين ، ولكني لم أجد فيهما رفع الرسول صلى الله عليه وسلم إصبعه إلى السماء ونكتها إليهم .