عظم فضل الصبر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واحد في ذاته، واحد في أسمائه وصفاته" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا ربكم " يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً "[الأحزاب:71]. معاشر المؤمنين! اعلموا رحمكم الله تعالى أن الله جل وعلا خلق الخلق والخلائق، وقدر مبدأهم ومعاشهم ومعادهم، وكل صغير وكبير من الأفراح والمصائب في حياتهم، إما ابتلاءً وتمحيصاً أو تكفيراً وتطهيراً، أو لحكمة يعلمها سبحانه جل وعلا، وما أوتينا من العلم إلا قليلاً.
ولعل من الأمور المدركة بمنتهى الوضوح والبيان لنا وبين أيدينا، هي أن الدنيا لا تستقيم لسعيد مسرور على حال، ولا تبقى لشقي مكسور على حال، بل شأن العباد فيها تقلب وتغيير وتبدل وتغير وانتقال:
هي الحياة كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان
وكل ذلك صغيره وكبيره بقدر الله جل وعلا، فمن رضي؛ فله الرضا، ومن سخط؛ فعليه السخط، والله سبحانه وتعالى حينما أراد أن يبتلي عباده فيما قدر عليهم -وهو أحكم الحاكمين- أرشد أولياءه إلى ما تنطفئ به نار المصائب، وما يبرد على القلوب حرارة الفاجعة.
وذلك بأمور شرعها في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك قوله جل وعلا:"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" [البقرة:155-157]. وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها؛ إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها) يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا الحديث: وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصائب، وأنفع شيء في العاجل والآجل، فإنها تتضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته: أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة، وقد جعل عند العبد عارية، فإذا أخذه منه؛ فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير. والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد للعبد من أن يُخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، بل بلا ثوب، حافياً عارياً لكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد، وما خوله ونهايته؛ فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود؟ ففكرة العبد في مبدئه ومعاده من أعظم علاج المصائب والمحن. وإن من المسلمين -هداهم الله- من إذا أصابته مصيبة في نفسه أو ماله، أو موت حبيب قريب له، ملأ الدنيا صراخاً ونواحاً وبكاءً منكراً ونحيباً، ودعا بالويل والثبور، وقد يقع بعضهم -والعياذ بالله- في الشرك، بدعاء الميت نفسه بالتدارك، مثلاً أن يموت أبوه، فيقول: يا أبتي أدركني! يا أبتي الحقني! يا أبتي افعل بي! وهو يندب ويدعو ميتاً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا حياةً ولا نشوراً، وما ذلك إلا من ضعف الصبر على المصيبة، وضعف الإيمان أمام الأقدار، وكأن المصائب في الدنيا لم تقع إلا على ذلك الذي حلت به تلك المصيبة، ولم تقع على أحد قبله ولن تحل بآدمي بعده.
وهذا يا عباد الله! من الأمور المنكرة التي لا تنبغي، إذ أقرب ما يكون فيها السخط والاعتراض على قدر الله، إن لم يصل الأمر والعياذ بالله إلى حد الشرك في ندبة الأموات ودعائهم، فأين أين أولئك الجزعة الساخطون من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من عظمت مصيبته فليذكر مصيبة المسلمين فيّ) وهل مر على المسلمين منذ فجر الرسالة والنبوة مصيبة أكبر على المسلمين والإسلام من مفارقة النبي صلى الله عليه وسلم عن الدنيا؟! لا والله، فكل مصيبة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم تهون، إذاً فعلام الجزع والخوف والهلع؟! ولو تأمل العبد ونظر إلى ما أصيب به، لوجد أن ربه أبقى عليه مثله وأفضل منه، وادخر له إن صبر ورضي، ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة.
وأن الله لو شاء لجعل مصيبته أعظم مما هي، فليتق الله العبد وليصبر، ولو تدبر العبد حال مصيبته في أحوال أهل المصائب يمنةً، فهل يرى إلا محناً؟! ثم يلتفت يسرةً فهل يرى إلا حسرة؟! وأنه لو فتش العالم كله؛ لم ير فيهم إلا مبتلى، إما بفوات محبوب أو بحصول مكروه.