عبادة الصيام
إخوتي الكرام! الإسلام يدور على هذه الأمور الخمسة، وعبادة الصيام تتعلق بواحدة من هذه الأمور الخمسة، وهي العبادات التي يحصل بها تذلل المخلوق لخالقه، ويحصل بها تعلق العبد بربه، ويعبر بها الإنسان عن حبه لله جل وعلا.
عبادة الصيام..
عبادة الصلاة فيها من آثار حميدة، تذلل للخالق، تعلق به وحب له، ما خلت من العبادات شريعة من الشرائع السماوية التي أنزلها الله جل وعلا في العصور المتقدمة على أنبيائه ورسله عليهم صلوات الله وسلامه. الصيام فرض علينا وفرض على الأمم السابقة، وهكذا الصلاة وسائر العبادات، فهذا خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه يقول ما أخبرنا الله عنه: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم:40]، ويخبرنا الله جل وعلا عنه في سورة الأنبياء فيقول: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [الأنبياء:72-73]، وهذه العبادات التي شرعت لهذه الأمة، شرعت للأمم السابقة، لكن هذه العبادات التي شرعت لنا ولهم أحياناً تكون بكيفية واحدة، وفي زمن واحد، والحكم فيها واحد وهو الوجوب أو السنية، الفرضية أو النفل، وأحياناً تختلف هذه العبادات في الأشكال، في المقدار، في الوقت، في الحكم.
فعبادة الصلاة التي فرضت علينا تختلف عن العبادات التي فرضت على الأمم السابقة قبلنا، فنبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فرض الله عليه وعلى أمته صلاتين كما ثبت هذا في حديث الإسراء والمعراج، وهو حديث صحيح: ( صلاة في الغداة وصلاة في العشي ) ، أول النهار وآخره، وهذه الأمة فرض الله عليها خمس صلوات في كل يوم وليلة.
قد تختلف العبادات من أمة لأمة، أما عبادة الصيام فشرعها الله جل وعلا لعباده لبني الإنسان من عهد آدم إلى نبينا عليه الصلاة والسلام على شاكلة واحدة، وبكيفية واحدة، والحكم فيها واحد، في وقت واحد وهو شهر رمضان المبارك، وقد أشار الله جل وعلا إلى هذا في كتابه فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:183-184] ووجه الشبه كما قال أئمتنا الكرام يشمل ثلاثة أمور: أولها: الوقت والمقدار.
أي: صوم رمضان ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون يوماً، الشهر إما أن يكون تسعة وعشرين، وإما أن يكون ثلاثين، شهر رمضان الوقت والمقدار.
والحكم فرض علينا وفرض عليهم، الوجوب.
والكيفية: فنحن نمتنع عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، وهم كذلك، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183].
إن الأمم السابقة فرض عليهم شهر رمضان كما فرض على أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، لكن الأمم السابقة غيروا وبدلوا، ومن أجل ذلك لعنوا. ثبت في معجم الطبراني الأوسط بسند صحيح عن دغفل بن حنظلة رضي الله عنه مرفوعاً إلى نبينا صلى الله عليه وسلم, ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير عن دغفل موقوفاً وله حكم الرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام: أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: ( فرض الله على النصارى صيام شهر رمضان ) ، وهو ثلاثون يوماً كما قلت أو تسعة وعشرون هو هذا الشهر الذي نصومه، ( فمرض ملك من ملوكهم، فنذر لأن شفاه الله ليزيدن في الصيام عشرة أيام ) ، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، يتلاعبون بشرائعهم وهم يطيعونهم، فشفي هذا الملك العاتي فزاد في الصيام عشرة أيام، فصار النصارى يصومون أربعين يوماً، ( ثم جاء ملك آخر كما يخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم فمرض فنذر لأن شفاه الله ليزدن في الصيام ثمانية أيام أخرى، فلما شفي صام النصارى ثمانية وأربعين يوماً، فجاء ملك آخر فقال: أرى أن نكمل العدة خمسين يوماً، وأن ننقل الصيام من الأشهر القمرية إلى الأشهر الشمسية، وأن نصوم في فصل الربيع ) , فاستمر النصارى على هذا فترة عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، ثم بعد ذلك غيروا أيضاً كيفية الصيام.
والنصارى في هذه الأيام عندما يصومون ويدعون أنهم صيام، غاية ما يفعلون في صيامهم أنهم يمتنعون عن أكل ما فيه دسم فقط، من لحم وشحم وبيض وجبن وغير ذلك، وأما الفواكه والخضار والخبز وغير ذلك فهذه لا تحرم عليهم يوم الصيام وقت الصيام، يصومون فقط عن ما فيه دسم. وعندنا في بلاد الشام أذكر أن الأولين عندما ينفعلون يقولون: لعنة الله على من كفر وعلى من صام عن الزفر، ويقصدون بالزفر: ما فيه دسومة، أي: اللعنة على النصارى الذين تلاعبوا في صيامهم، وغيروا فريضة ربهم. إذاً: إخوتي الكرام! العبادات شرعت لكل أمة؛ لأن فيها تذلل لله، وتعلق به وحب له، فلا تخلو منها شريعة من الشرائع، لكن هذه العبادات أحياناً تختلف وأحياناً تتفق، لكن جنسها لابد من وجوده في كل شريعة، فشعيرة الصيام وجدت في سائر الشرائع بكيفية واحدة بحكم واحد في وقت واحد، كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].