أن اليقين إذا تزوج بالصبر فإنه يولد بينهما الإمامة في الدين
وأمر عاشر مما يثمره اليقين: أن اليقين إذا تزوج بالصبر فإنه يولد بينهما الإمامة في الدين: والله عز وجلّ يقول:
} وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[24]{
[سورة السجدة].
فالصبر هو لقاح اليقين .[مدارج السالكين 2/196 ، الفوائد ص 199].
* والأمر الحادي عشر مما يورثه اليقين: هو أنه يحمل صاحبه على الجد في طاعة الله عز وجلّ والتشمير والمسارعة والمسابقة في الخيرات: ولذلك فإن أصحابه يمتطون العزائم، ويهجرون اللذات، وكما قيل:' وما ليل المحب بنائم' . فعلموا طول الطريق، وقلة المقام في منزل التزود؛ فسارعوا في الجهاز، وجدّ بهم السير إلى منزل الأحباب، فقطعوا المراحل، وطووا المفاوز- كما يقول ابن القيم رحمه الله [مفتاح دار السعادة 1/149] - . وهذا كله من ثمرات اليقين فإن القلب إذا استيقن ما أمامه من كرامة الله، وما أعدّ لأوليائه بحيث كأنه ينظر إليه من وراء حجاب الدنيا، ويعلم أنه إذا زال الحجاب، رأى ذلك عياناً؛ زالت عنه الوحشة التي يجدها المتخلفون، ولان له ما استوعره المترفون؛ ولذلك ما الذي يجعل هذا الإنسان يقدم نفائس الأموال التي تعب في جمعها وتحصيلها، ويجعل الآخر إذا أراد أن يتصدق بصدقة- ولو قلّت- يفكر ويحسب الحسابات؟ ما الذي يجعل هذه المرأة إذا أرادت أن تتصدق تُقَلِّب هذه الثياب والملابس والأثاث، فترفع هذا بحجة أنه يمكن الاستفادة منه، وترفع الآخر بحجة أنه جيد مستحسن، وترفع الثالث باعتبار أنه لم يَبْلَ بعد، وترفع الرابع باعتبار أنه جديد لم يستعمل إلا قليلاً، ما الذي يجعلها كذلك؟! ويجعل الآخر يبحث عن الأشياء الجيدة، فيتصدق بها؟ والله عز وجل يقول:
} لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ...[92]{
[سورة آل عمران]
. الذي يجعل الناس يتفاوتون هذا التفاوت هو اليقين.
الآن انظر إلى ما يُدعى إليه الناس في هذه الدنيا من ألوان التجارات، فربما استشرفتهم الأرباح العالية التي يُدعون إليها، وكم تبلغ هذه الأرباح؟ هي في جميع الأحوال لا تكاد تبلغ الضعف، وإنما هي تتراوح بين نِسَب قد لا تصل إلى خمسين بالمائة، فما الذي يجعل هؤلاء الناس يبيعون بيوتهم، ويجعل بعض الناس يُصَفُّون مؤسساتهم، وما الذي يجعل بعضهم يقترضون، ويشترون سيارات بالأقساط، ثم يبيعونها بخسارة من أجل أن يساهموا في الشركة الفلانية؟! الذي يجعلهم يفعلون ذلك- لا أقول هو اليقين بهذا الطمع القليل- إنما هو ظنٌ غالب عندهم أنهم يربحون، مع أنه يحتمل أن رءوس الأموال تذهب برمتها، ولا يبقى لهم لا ربح، ولا رأس مال، وإنما تكون لهم الخيبة والخسارة محققة!!
ومع ذلك رأيناهم يبيعون سياراتهم، ويبيعون أثاثهم، ويبيعون ممتلكاتهم! ورأينا من يقترض من أجل أن يساهم هنا أو هناك، ما الذي جعلهم يفعلون ذلك؟ هو ظن غالب، وما الذي يجعل العبد يحسب ألف حساب إذا أراد أن يتصدق؟ ما الذي يجعل كثيراً من النساء يسألن أهل العلم ذلك السؤال الذي يتكرر دائماً: هل يجب عليّ أن أُزكى الذهب المستعمل وأنا أتصدق أثناء السنة، أم ذلك يجزئ عنه؟
هل يجب عليّ أن أُخرج زكاة مالي، أو أنه يكفي أن أُسقط الديون المتعثرة المتعذر تحصيلها على فلان وفلان؟ هو يريد أن يخرج الزكاة بواسطة أشياء وديون معجوز عنها، فجعل حق الله عز وجل هو الآخِر، وهو الأقل في اهتماماته، ما الذي يجعل هذا الإنسان يبخل على الله عز وجل بركعة يضحي بها بلذة نومه؟ بل ما الذي يجعل هذا الموظف، أو هذا الطالب يوقت الساعة قبل وقت الدوام، ثم بعد ذلك ينام عن الصلاة، ويفرط فيها؟ وإذا احتُج عليه بهذا قال: ليس مع النوم تفريط! ما الذي يجعل المعلمة تنام ملء جفنيها، ولكنها لا يمكن أن تتأخر عن مدرستها حتى لا توقع تحت الخط الأحمر؟!
السبب هو ضعف اليقين، لو أن أحداً من هؤلاء الموظفين، أو هؤلاء المعلمات يذهب دائماً الساعة التاسعة إلى عمله، وعمله يبدأ في الساعة السابعة ماذا يقال عنه؟ يقال: إنه إنسان لا يبالى، مستهتر، فما الذي يجعل بعض المسلمين لا يحضر مع المصلين في صلاة الفجر، ولا يعرف المسجد في صلاة الفجر إلا في رمضان؟
أقول: ما الذي يجعل الناس يتأخرون عن طاعة الله عز وجلّ، ولا يتأخرون عن الدنيا؟ لماذا يتردد الإنسان عن الصيام تقرباً لله عز وجلّ وتطوعاً- وهو من أَجَلّ القربات- ثم إذا كان ذلك بنصيحة من الطبيب، وأن عافيته تتوقف على ذلك؛ فإنه يترك هذا الطعام والشراب، ويترك أنواع الطيبات، ويبقى في حال يرثى له بها عدوه، حيث منع نفسه أشياء كثيرة جدًّا، وصار لا يأكل إلا بعض الأمور التي يصعب تحصيلها، ما الذي يجعله يفعل ذلك؟ هو صحة متوقعة، وعافية مرجوة ليست متيقنة، فما الذي يمنع العبد من المسارعة في أمور أخبر الله عز وجلّ عنها، وخبره صدق وحق:
} وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا[87]{
.[سورة النساء]
. }وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا[122]{
[سورة النساء].
فلذلك يقول بلال بن سعد رحمه الله:' عباد الرحمن: أمَّا ما وكَّلَكُم الله به فتضيعونه، وأما ما تكفل لكم به فتطلبونه، ما هكذا بعث الله عباده الموقنين، أَذَوُواْ عقول في طلب الدنيا، وبُلْهٍ عما خُلقتُم له؟! فكما ترجون رحمة الله بما تؤدونه من طاعة الله عز وجل، فكذلك أشفقوا من عذاب الله مما تنتهكون من معاصى الله عز وجلّ'[صفة الصفوة 4/219 ، الحلية5/231]. ويقول الحسن البصرى:'ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه من شك لا يقين فيه من أمرنا هذا'. يعني: أننا نوقن بالموت، وبالجزاء والحساب، ولا نعمل لذلك، ولا نستعد له، نوقن بالنار، ولا نرى حَذِراً خائفا منها، وإنما نهجم على معاصى الله عز وجلّ ومساخطه. ويقول سفيان الثورى رحمه الله- مبيناً هذا المعنى: وهو أثر اليقين في قلب العبد بالتشمير في طاعة الله جلّ جلاله-:' لو أن اليقين استقر في القلب كما ينبغي؛ لطار فرحاً، وحزناً، وشوقاً إلى الجنة أو خوفاً من النار'[الحلية 7/17].