إخفاء الصيام
أما إخفاء الصيام فعجبٌ أيضاً :
داود ابن أبي هند ذُكر في ترجمته أنّه صام أربعين سنة لا يعلم به أهله ، و ذكرت لكم ذلك فيما سبق ، قلت كان يخرج في مهنته فيأخذ معه غداءه إذا خرج من أهله ، فيتوهمون أنّه مفطر ، فيتصدق به في الطريق ، ثم يرجع في آخر النهار لأهله فيطعم معهم قد لا تتصور ذلك لكثرة أنواع الطعام الذي نأكله نحن في الإفطار ، أما هم فشربة ماء و تمرات .
فأيضاً مما يتعلق بإخلاص السلف رضي الله تعالى عنهم :
دقتهم و تحريهم في هذا الباب ، و شدة ما كان عندهم من اليقظة و الحذر في قضية الإخلاص ، و دفع ما يضاد ذلك .
هذا أبو الحسن القطان العالم المعروف من أئمة السنة ، كان يقول : " أُصبت ببصري – أي أصابه العمى - ، و أظن أنّي عُوقبت لكثرة كلامي أيام الرحلة " ، يقول هذا العمى الذي أصابني لعله بسبب عقوبة لكثرة كلامي ؛ لأنّ كلامه يكون فيه إظهار للعلم و سعة الحفظ بطريقة تلقائية و إن لم يقصد ذلك .
يقول الذهبي رحمه الله بعد أن ساق هذا في السير : صدق والله ، فقد كانوا مع حسن القصد و صحة النية ، غالباً ما يخافون من الكلام و إظهار المعرفة .
و لهذا كان يقول هشام الدستوائي : والله ما أستطيع أن أقول أنّي ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل .
و كان أحد العلماء ألف كتباً كثيرة و لم يُخرج واحداً منها في حياته ، فقال لبعض أصحابه : إذا حضرتني الوفاة فضع يدك في يدي ، فإن رأيتني في النزع و ضغطت على يدك ، فلا تُخرج هذه الكتب - لأنّه لقي و عرف و رأى ما يكره - ، و إن بسطت يدي فأخرجها – يعني أنّه رأى ما يسره في حال النزع - ، يقول : فوضعت يدي في يده فلما كان في النزع ، يقول : فبسط يده ، فأخرجت كتبه جميعاً .
ما أخرج كتاب منها في حياته ، أراد أن ينظر هل قُبل ذلك منه ، هل قُبلت أعماله ؟ هل له منزلة عند الله عز وجل ؟ أو أنّ عمله لم يُقبل فبالتالي ما الحاجة لخروج هذه الكتب ؟! .
و من أعجب ما وقفت عليه في هذا الباب ، ما وقع لربيعة شيخ الإمام مالك رحمه الله ، جلس يبكي ، فرآه بعض أصحابه كما حكى ذلك سفيان ابن عيينة رحمه الله ، فقالوا له : ما يُبكيك ؟! - و هو إمامٌ كبير - قال : رياءٌ حاضر و شهوةٌ خفية ( الشهوة الخفية حب الرئاسة و الشهرة ) ، والناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم ، إن أمروهم ائتمروا ، و إن نهوهم انتهوا .
يقول لماذا لا أبكي و أنا أعاني من علل ، و هو إمام كبير ، جعل الله عز وجل له القبول ، و تخرج على يده الإمام مالك إمام دار الهجرة ، كان يبكي و يقول أبكي من شهوة حاضرة و من رياء و يقول أبكي لما أرى ، يقول الناس بين أيدي العلماء كالأطفال في حجور الأمهات ، كالطفل عند أمه ، فقط يُشير العالم إشارة فيسارع الناس إلى تلبية مطلوبه ، و إذا قال لزمك كذا نفذ ، و إذا قال عليك كذا نفذ ، و إذا قال لا تفعل كذا فإنّه ينقاد له ، و لربما تشرف الناس أنّ هذا العالم يطلب منهم شيئاً أو آخر ، يقول : الناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم ، فيقول أخشى على قلبي . أين هذا يا إخوان ممن يستميت في تحصيل مثل هذه الأمور الدنيئة المنحطة !
اجتمع الفضيل بن عياض و سفيان الثوري يوماً ، فجلسوا يتذاكرون شيئاً من الرِقاق ، فَرقّ كل واحد منهما و بكى ، فقال سفيان الثوري رحمه الله : أرجو أن يكون هذا المجلس علينا رحمةً و بركة ، فماذا قال الفضيل ابنعياض ؟ قال : لكني يا أبا عبد الله أخاف ألا يكون أضر علينا منه ، - و لاحظ العلة التي تعلل بها – ، قال : أليس تخلصت إلى أحسن حديثك و تخلصت أنا إلى أحسن حديثي فتزينت لك و تزينت لي ، فبكى سفيان الثوري رحمه الله و قال : أحييتني أحياك الله .