إمامة قارئ القرآن
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا
([1]).
إِمَامًا : قدوة وحجة أو أئمة.
المعنى: (وَالَّذِينَ) يسألون الله تعالى (يَقُولُونَ: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) ما تَقَرّ به أعيننا، وفيه أنسنا وسرورنا، (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) قدوة يُقتدى بنا في الخير.
حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ الأنصاري رضي الله عنه يَقُولُ:
قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ وَأَقْدَمُهُمْ قِرَاءَ ةً، فَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُمْ سَوَاءً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ سِنًّا، وَلا تَؤُمَّنَّ الرَّجُلَ فِي أَهْلِهِ وَلا فِي سُلْطَانِهِ، وَلا تَجْلِسْ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَكَ أَوْ بِإِذْنِهِ
([2]).
المعنى : ( حدبث أَبِي مَسْعُودٍ الأنصاري رضي الله عنه) وهو : عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن عمرو أسيرة بن عسيرة الأنصاري ، أبو مسعود ابدري ، شهد العقبة الثانية . توفي سنة : قبل 40 هـ و قيل بعدها بالكوفة , و قيل : المدينة (يَقُولُ) أبو مسعود الأنصاري : (قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : يَؤُمُّ الْقَوْمَ) أي: هو أحقهم بالإمامة (أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ) أَيْ: أكثرهم قرآناً وأجودهم قراءة (وَأَقْدَمُهُمْ قِرَاءَةً) ولا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما هو حيث يكون عارفاً بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة فأما إذا كان جاهلاً بذلك فلا يقدم اتفاقاً (فَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَ تُهُمْ سَوَاءً) أي : مستوين في مقدارها أو حسنها أو في العلم بها (فَلْيَؤُمَّهُمْ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً) أي : انتقالاً من مكة إلى المدينة قبل الفتح فمن هاجر أولاً فشرفه أكثر ممن هاجر بعده . قال تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ) ؛ لأن القدم في الهجرة شرف يقتضي التقديم أو لأن من تقدم هجرته فلا يخلو غالباً عن كثرة العلم بالنسبة إلى من تأخر ، وهذا شامل لمن تقدم هجرةً سواء كان في زمنه صلى الله عليه وسلم أو بعده كمن يهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام . وهكذا نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل ملاك أمر الإمامة القراءة ، وجعلها مقدمة على سائر الخصال المذكورة معها ؛ لأنه لا صلاة إلا بقراءة ، وإذا كانت القراءة من ضرورة الصلاة وكانت ركناً من أركانها صارت مقدمة في الترتيب على الأشياء الخارجة عنها ، ثم تلا القراءة : بالسنَّة - في بعض الروايات - وهي : الفقه ومعرفة أحكام الصلاة وما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وبينه من أمرها , وأن الإمام إذا كان جاهلاً بأحكام الصلاة ربما يعرض فيها من سهو ويقع من زيادة ونقصان أفسدها وأخدجها , فكان العالم بها الفقيه فيها مقدماً على من لم يجمع علمها ولم يعرف أحكامها ، (فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً) معناه : إذا استويا في الفقه والقراءة والهجرة (فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ سِنًّا) أي : إِذَا رجح أحدهما بتقدم إسلامه أو بكبر سنه قُدِّمَ ; لأنها فضيلة يُرَجَّحُ بها ، وعند الاستواء في الكل يُقرع (وَلا تَؤُمَّنَّ الرَّجُلَ فِي أَهْلِهِ) معناه : أن صاحب المنْزل أولى بالإمامة في بيته إذا كان من القراءة أو العلم بمحل يمكنه أن يقيم الصلاة (وَلا فِي سُلْطَانِهِ) معناه : أن صاحب السلطان وصاحب المجلس وإمام المسجد أحق من غيره , وإن كان ذلك الغير أفقه وأقرأ وأورع وأفضل منه , وصاحب المكان أحق فإن شاء تقدم , وإن شاء قدم من يريده , وإن كان ذلك الذي يقدمه مفضولاً بالنسبة إلى باقي الحاضرين ; لأنه سلطانه فيتصرف فيه كيف شاء . فإن حضر السلطان أو نائبه قُدِّم على صاحب البيت وإمام المسجد وغيرهما ; لأن ولايته وسلطنته عامة . قالوا : ويستحب لصاحب البيت أن يأذن لمن هو أفضل منه ، وإنما كان ذلك كذلك لأن الجماعة شرعت لاجتماع المؤمنين على الطاعة وتآلفهم وتوادهم , فإذا أَمَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه أفضى ذلك إلى توهين أمر السلطنة وخلع ربقة الطاعة , وكذلك إذا أَمَّهُ في قومه وأهله أدى ذلك إلى التباغض والتقاطع وظهور الخلاف الذي شرع لدفعه الاجتماع , فلا يتقدم رجل على ذي السلطنة لا سيما في الأعياد والجماعة , ولا على إمام الحي ورب البيت إلا بالإذن ، ويشترط أن يكون صاحب البيت أو السلطان أهلاً للإمامة بغيره ، فإن لم يكن أهلاً كالمرأة والأمي ونحوهما فلاحق له في الإمامة ، لكن يجوز للمرأة الإمامة لغيرها من النساء، ويجوز للأمِّي الإمامة لغيره من الأمِّيين (وَلا تَجْلِسْ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ ) التكرمة : الفراش أو السجادة أو السرير أو نحو ذلك مما يبسط لصاحب المنْزل ويخص به (إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَكَ أَوْ بِإِذْنِهِ) احتراماً له ولحقه وخصوصياته.
حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ:
كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرَّ النَّاسِ، وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ فَنَسْأَلُهُمْ مَا لِلنَّاسِ مَا لِلنَّاسِ؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ أَوْحَى إِلَيْهِ أَوْ أَوْحَى اللَّهُ بِكَذَا. فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلامَ، وَكَأَنَّمَا يُقَرُّ فِي صَدْرِي. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلامِهِمُ الْفَتْحَ فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ؛ فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ. فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلامِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلامِهِمْ. فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ - وَاللَّهِ - مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقًّا، فَقَالَ: صَلُّوا صَلاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلُّوا صَلاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا. فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ. فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ. وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَيِّ أَلا تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ، فَاشْتَروْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ
([3]).
الرُّكْبَانُ : أصحاب الإبل في السفر.
يُقَرُّ : يثبت ويستقر.
وَبَدَرَ : سبق
تَقَلَّصَتْ : انجمعت وارتفعت
المعنى : (حَدِيثُ عَمْرِو ابْنِ سَلَمَةَ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا -) وهو : عمرو بن سلمة بن قيس و قيل ابن نفيع الجرمي ، أبو بريد ، و قيل أبو يزيد ، البصري ، صحابي ، أَمَّ قومَه زمن النبي صلى الله عليه وسلم (قَالَ: كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرَّ النَّاسِ) يَمُرُّ بِنَا النَّاسُ إِذَا أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ) وهم أصحاب الإبل في السفر ، فَكَانُوا إِذَا رَجَعُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرُّوا بِنَا (فَنَسْأَلُهُمْ مَا لِلنَّاسِ مَا لِلنَّاسِ؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟) يسألون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن حال العرب معه (فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ أَوْحَى إِلَيْهِ أَوْ أَوْحَى اللَّهُ بِكَذَا) يريد حكاية ما كانوا يخبرونهم به مما سمعوه من القرآن , أي : فيقولون نبي يزعم أن الله أرسله وأن الله أوحى إليه كذا وكذا، فَأَخْبَرُونَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ كَذَا وَكَذَا ، فَنَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ الْقُرْآنَ (فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلامَ) وهو القرآن ، فَأَدْنُو مِنْهُمْ فَأَسْمَعُ ، وَكُنْتُ غُلامًا حَافِظًا فَحَفِظْتُ مِنْ ذَلِكَ قُرْآنًا كَثِيرًا (وَكَأَنَّمَا يُقَرُّ) من القرار (فِي صَدْرِي)كان يحفظ ولا ينسى. (وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ) أي : تنتظر ، وإحدى التاءين محذوفة ، أي : تَتَلَوَّم (بِإِسْلامِهِمُ الْفَتْحَ) أي : وَكَانَ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ بِإِسْلامِهِمْ فَتْحَ مَكَّةَ (فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ؛ فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ) أي : فَلَمَّا فُتِحَتْ مكة وانتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم (بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلامِهِمْ) أي : جَعَلَ الرَّجُلُ يَأْتِيهِ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا وَافِدُ بَنِي فُلانٍ وَجِئْتُكَ بِإِسْلامِهِمْ ( وَبَدَرَ) أي : سبق (أَبِي قَوْمِي بِإِسْلامِهِمْ) أي : فَانْطَلَقَ أَبِي بِإِسْلامِ قَوْمِهِ ، أي : وَفَدُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَّمَهُمْ الصَّلاةَ ، فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَنْصَرِفُوا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ يَؤُمُّنَا في الصَّلاة؟ قَالَ : أَكْثَرُكُمْ جَمْعًا لِلْقُرْآنِ ، أَوْ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ (فَلَمَّا قَدِمَ) أبي من عند رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم استقبلناه ، (قَالَ) أبي : (جِئْتُكُمْ - وَاللَّهِ - مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقًّا، فَقَالَ: صَلُّوا صَلاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلُّوا صَلاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا ، فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ) فَدَعَوْنِي فَعَلَّمُونِي الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ (فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) فَكُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ إمَاماً (وَأَنَا) غلام (ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ) صَغِيرَةٌ مَفْتُوقَةٌ ، البردة : كساء صغير مربع (كُنْتُ إِذَا) رَكَعْتُ أَوْ (سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي) أي : انجمعت وارتفعت وتَكَشَّفَتْ عَنِّي لقصرها وضيقها حتى يظهر شيء من عورتي ، وفي رواية :فَكُنْتُ أَؤُمُّهُمْ فِي بُرْدَةٍ مُوَصَّلَةٍ - أي : مرقعة - فِيهَا فَتْقٌ فَكُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ خَرَجَتْ اسْتِي (فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَيِّ أَلا تُغَطُّوا عَنَّا) أَيْ: خذوا من كل منا شيئاً واشتروا به ثوباً يستر عورته (اسْتَ) المراد به هنا العجز ، ويراد به حلقة الدبر ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ النِّسَاءِ : وَارُوا عَنَّا عَوْرَةَ (قَارِئِكُمْ ، فَاشْتَروْا) أَيْ: ثوباً (فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ) بَعْدَ الإِسْلامِ (فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ) أَيْ: مثل فرحي بذلك القميص ، أي : فَرِحَ بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا إما لأجل حصول التستر , وعدم تكلف الضبط , وخوف الكشف , وإما فرح به كما هو عادة الصغار بالثوب الجديد ، وفي الحديث حجة في إمامة الصبي المميز في الفريضة.
المراجع
([1]) الفرقان (74)
([3]) رواه البخاري في كتاب المغازي، باب وقال الليث حدثني يونس …، ح3963.