اشتر نفسك اليوم, فإن السوق قائمة, والثمن موجود
ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين:
إحداهما: سوء ظنه بربه, وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيرا منه حلال,
والثانية: أن يكون عالما بذلك, وأن من ترك لله شيئا أعاضه خيرا منه (أعطاه خيرا منه), لكن تغلب شهوته صبره, وهواه عقله. فالأول من ضعف علمه, والثاني من ضعف عقله وبصيرته. قال يحيى بن معاذ: من جمع الله عليه قلبه, في الدعاء لم يرده قلت : إذا اجتمع عليه قلبه وصدقت ضرورته وفاقته, وقوي رجاؤه, فلا يكاد يرد دعاؤه.
لما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها, وخداع الأمل لأربابه, وتملك الشيطان قياد النفوس, ورأوا الدولة للنفس الأمارة, لجأوا إلى حصن التضرّع والالتجاء, كما يأوي العبد المذعور إلى حرم سيده. شهوات الدنيا ك "لعب الخيال", ونظر الجاهل مقصور على الظاهر, فأما ذو العقل فيرى ما وراء الستر. لاح لهم المشتهى, فلما مدوا أيدي التناول بأن لأبصار البصائر خيط الفخ, فطاروا بأجنحة الحذر, وصوبوا إلى الرحيل الثاني: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} يونس 26, تلمح القوم الجود, ففهموا المقصود, فأجمعوا الرحيل قبل الرحيل وشمروا للسير في سواء السبيل, فالناس مشتغلون بالفضلات, وهم في قطع الفلوات, وعصافير الهوى في وثاق الشبكة ينتظرون الذبح. وقع ثعلبان في شبكة, فقال أحدهما للآخر: أين الملتقى بعد هذا؟ فقال: بعد يومين في الدباغة. تالله ما كانت الأيام إلا مناما, فاستيقظوا وقد حصلوا على الظفر. ما مضى من الدنيا أحلام, وما بقي منها أماني, والوقت ضائع بينهما.
كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه, وولد لا يعذره, وجار لا يأمنه, وصاحب لا ينصحه, وشريك لا ينصفه, وعدو لا ينام عن معاداته, ونفس أمارة بالسوء, ودنيا متزيّنة, وهوى مرد, وشهوة غالبة له, وغضب قاهر, وشيطان مزين, وضعف مستول عليه. فإن تولاه الله وجذبه إليه انقهرت له هذه كلها, وان تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة.
لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة التهما, واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما, وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ, عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم, وظلمة في قلوبهم, وكدر في أفهامهم, ومحق في عقولهم. وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم, حتى ربي فيها الصغير, وهرم عليها الكبير, فلم يروها منكرا. فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن, والنفس مقام العقل, والهوى مقام الرشد, والضلال مقام الهدى, والمنكر مقام المعروف, والجهل مقام العلم, والرياء مقام الإخلاص, والباطل مقام الإخلاص, والباطل مقام الحق, والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقابل النصيحة, والظلم مقام العدل. فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور, وأهلها هم المشار إليهم وكانت قبل ذلك لأضدادها وكان أهلها هم المشار إليهم فإذا رأيت دولة هذه الأمور قد أقبلت, وراياتها قد نصبت, وجيوشها قد ركبت, فبطن الأرض والله خير من ظهرها, وقلل الجبال خير مكن السهول, ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس.
اقشعرّت الأرض وأظلمت السماء, وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة, وذهبت البركات, وقلّت الخيرات, وهزلت الوحوش, وتكدرت الحياة من فسق الظلمة, بكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة, وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح. وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه, ومؤذن بليل بلاء قد ادلهمّ ظلامه. فاعزلوا عن طريق هذا السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح. وكأنكم بالباب وقد أغلق, وبالرهن وقد غلق وبالجناح وقد علق {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} الشعراء 227.
اشتر نفسك اليوم, فإن السوق قائمة, والثمن موجود, والبضائع رخيصة, وسيأتي على تلك السوق والبضايع يوم لا تصل فيها إلى قليل ولا كثير: { ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} التغابن 9, { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْه} الفرقان 27.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى وأبصرت يوم الحشر من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملا يثقله ولا ينفعه. إذا حملت على القلب هموم الدنيا وأثقالها, وتهاونت بأورادها التي هي قوته وحياته, كنت كالمسافر الذي يحمل دابته فوق طاقتها ولا يوفيها علفها, فما أسرع ما تقف به.
ومشتت العزمات ينفق عمره حيران لا ظفر ولا إخفاق
هل السائق العجلان يملك أمره فما كل سير اليعملات وحيد
رويدا بأخفاف المطى فإنما تداس جباه تحتها وخدود
من تلمح حلاوة العافية هانت عليه مرارة الصبر. الغاية أول في التقدير, آخر في الوجود, مبدأ في نظر العقل, منتهى في منازل الوصول. ألفت عجز العادة, فلو علت بك همّتك ربا المعالي لاحت لك أنوار العزائم. إنما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور. نزول همة الكساح دلاه في جب العذرة. الكساح: داء يصيب الإبل, العذرة فناء البيت, وكذلك يقال للغائط. بينك وبين الفائزين جبل الهوى, نزلوا بين يديه ونزلت خلفه, فاطو فصل منزل, تلحق بالقوم. الدنيا مضمار سباق, وقد انعقد الغبار وخفي السابق, والناس في المضمار بين فارس وراجل وأصحاب حمر معقرة.
سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أو حمار
في الطبع شره, والحمية أوفق. لص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى. حبة المشتهى تحت فخ التلف, فتفكر الذبح وقد هان الصبر. قوة الطمع في بلوغ الأمل توجب الاجتهاد في الطلب, وشدة الحذر من فوت المأمول. البخيل فقير لا يؤجر على فقره. الصبر على عطش الضر, ولا الشرب من شرعة منّ. تجوع الحرة, ولا تأكل بثدييها. لا تسأل سوى مولاك, فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه. غرس الخلوة يثمر الأنس. استوحش مما لا يدوم معك, واستأنس بمن لا يفارقك. عزلة الجاهل فساد, وأما عزلة العالم فمعها حذاؤها وسقاؤها. إذا اجتمع العقل واليقين في بيت العزلة, واستحضر الفكر وجرت بينهم مناجاة:
أتاك حديث لا يمل سماعه شهى إلينا نثره ونظامه
إذا ذكرته النفس زال عناؤها وزال عن القلب المعنى ظلامه
إذا خرجت من عدوك لفظة سفه, فلا تلحقها بمثلها تلقّحها, ونسل الخصام نسل مذموم. حميتك لنفسك أثر الجهل بها, فلو عرفتها حق معرفتها أعنت الخصم عليها. إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب ابتدأت بإحراق القادح. أوثق غضبك بسلسلة الحلم, فإنه كلب إن أفلت أتلف. من سبقت له سابقة السعادة, دل على الدليل قبل الطلب. إذا أراد القدر شخصا بذر في أرض قلبه بذر التوفيق, ثم سقاه بماء الرغبة والرهبة, ثم أقام عليه بأطوار المراقبة, واستخدم له حارس العلم, فإذا الزرع قائم على سوقه. إذا طلع نجم الهمة في ظلام ليل البطالة, وردفه قمر العزيمة, أشرقت أرض القلب بنور ربها. إذا جن الليل تغالب النوم والسهر, فالخوف والشوق في مقدم عسكر اليقظة, والكسل والتواني في كتيبة الغفلة, فإذا حمل العزم حمل على الميمنة وانهزمت جنود التفريط, فما يطلع الفجر إلا وقد قسمت السهمان وبردت الغنيمة لأهلها. سفر الليل لا يطيقه إلا مضمر المجاعة, النجائب في الأول, وحاملات الزاد في الأخير. لا تسأم من الوقوف على الباب ولو طردت, ولا تقطع الاعتذار ولو رددت, فإن فتح الباب للمقبولين دونك فاهجم هجوم الكذابين وادخل دخول الطفيلية وابسط كف {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} يوسف 88. يا مستفتحا باب المعاش بغير إقليد التقوى (أي مفتاحها), كيف توسع طريق الخطايا وتشكو ضيق الزرع. لو وقفت عند مراد التقوى لم يفتك مراد. المعاصي سد في باب الكسب, و" إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه".
تالله ما جئتكم زائرا إلا وجدت الأرض تطوي لي
ولا انثنى عزمي عن بابكم إلا تعثرت بأذيالي
الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج, وليس ما أعد للاستفراخ كمن هيىء للسباق. من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل وبأي شغل يشغله. كن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا, فإن الوليد يتبع الأم. الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها, فكيف تعدو خلفها؟. الدنيا مجاز والآخرة وطن, والأوطار إنما تطلب في الأوطان.
الاجتماع بالإخوان قسمان: أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت, فهذا مضرّته أرجح من منفعته, وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت. ثانيهما: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر, فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها, ولكن فيها ثلاث آفات: الأولى: تزين بعضهم لبعض. الثانية: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة. الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود. وبالجملة, فالاجتماع والخلطة لقاح أما للنفس الأمارة وأما للقلب والنفس المطمئنة, والنتيجة مستفادة من اللقاح, فمن طاب لقاحه طابت ثمرته, وهكذا الأرواح الطيّبة لقاحها من الملك, والخبيثة لقاحها من الشيطان, وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين, والطيبين للطيبات وعكس ذلك.