الْمَعْلَمُ الثالث: يُسْرُ الدَّعْوَةِ وبَسَاطَةُ الْمَفَاهِيم
فقال سبحانه: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)
(القمر:32)
(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)
(الحج:78)
ثم أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثيه إلى اليمن جابر بن عبد الله ومعاذ بن جبل فقال لهما :
(يَسرا ولا تُعَسرا ، وبشرا ولا تنفرا)
متفق عليه
وقال صلى الله عليه وسلم: (إنّ هَذَا الدّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادّ الدّينَ أَحَدٌ إلاّ غَلَبَهُ فَسَدّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَيَسّرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَة)
رواه البخاري
. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيّهَا النّاسُ عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ. فَإِنّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا. وَإِنّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَىَ الله مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ!)
متفق عليه.
وروى الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثةُ رَهْط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تَقَالُّوهَا! وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً! وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر! وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً! فجاء رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له! لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني!)
متفق عليه
ومثل هذا في السنة كثير جدا؛ مما يفيد استقراؤه كليةً قطعية من كليات الدين. فوجب إذن أن يؤخذ على هذا الوزان؛ تكليفا وتعليماً، ودعوةً وتزكيةً. وما خالفه فإنه يُرَدُّ إليه.
ولذلك قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله، من بعدما سرد عددا من أدلة اليسر والتيسير في الشريعة: (وهذا وأمثاله في الشريعة أكثر من أن يحصر! فمن قال إن الله أمر العباد بما يعجزون عنه - إذا أرادوه إرادة جازمة - فقد كذب على الله ورسوله! وهو من المفترين!)([1])
ولقد التقط أبو إسحاق الشاطبي هذا المعنى العظيم من القرآن، فجعله أصلا من أصول المقاصد، حيث استعمل مصطلح (الأمية) في وصف الشريعة، لكن ليس بمعنى الجهل. وهذا أمر غلط فيه كثير من طلبة العلم، وحتى بعض الدارسين! ممن قرأه في كتاب الموافقات؛ فمن السذاجة أن يفهم عن أبي إسحاق رحمه الله أنه يصف الشريعة بالجهل، أو أنها غير صالحة إلا للعوام! كيف وهو شيخ المقاصد المجدد لعلم أصول الفقه!؟ ولكنه استعمل مصطلح (الأمية) بمعنى السهولة والبساطة واليسر، في الفهم وفي التكليف، على ما أصلنا آنفا. وقد نقل المصطلح من دلالته اللغوية، الدالة على الجهل بالحساب والكتاب، ليستعمله في وصف الشريعة نفسها، لكن بدلالة أخرى اصطلاحية، على مفهوم منهجي، متعلق أساسا بمعنى اليسر المشترك في التكليف، وفي تطبيق الشريعة. قال رحمه الله في المسألة الثالثة من كتاب المقاصد في الموافقات: (هذه الشريعة المباركة أمية)([2]). وهو ما فسره في موطن آخر بقوله: (ربما أُخِذ تفسير القرآن على التوسط والاعتدال، وعليه أكثر السلف المتقدمين. بل ذلك شأنهم، وبه كانوا أفقه الناس فيه، وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه. وربما أُخِذ على أحد الطرفين الخارجين عن الاعتدال، إما على الإفراط؛ وإما على التفريط! وكلا طرفَيْ قَصْدِ الأمورِ ذَميمٌ! فالذين أخذوه على التفريط قصروا في فهم اللسان الذى به جاء، وهو العربية. فما قاموا في تفهم معانيه ولا قعدوا! كما تقدم عن الباطنية وغيرها. ولا إشكال في اطراح التعويل على هؤلاء. والذين أخذوه على الإفراط أيضا قصروا فى فهم معانيه، من جهة أخرى. وقد تقدم في كتاب المقاصد بيان أن الشريعة أمية وأن ما لم يكن معهودا عند العرب فلا يعتبر فيها!)([3])
وهذا معنى عظيم! إذْ عدم اعتباره أدى بكثير من الناس إلى الزيغ عن جادة المنهاج النبوي الفطري، في الدعوة والتكليف، وإنما الأصول قائمة على حمل الناس على الوسط والتوسط، والاعتدال، لا على الغلو! سواء في ذلك : الفهم أو التكليف.
فالداعية قد يؤدي به التمسك بآحاد الأدلة – دون اعتبار كلياتها الأصولية – إلى الانحراف في المنهج. كما أن مراعاة بعض الجزئيات في الفهم والإفهام، لاينقض ما تقرر قطعا في الكليات الاستقرائية. فقد تقرر مثلا أن الدعوة يجب أن تقوم على منهج التيسير والتبشير؛ قصد التمكين من عموم التطبيق والتنـزيل، فإذا وجد ما يخالفه حمل عليه وأرجع إليه. وعدم مراعاة ذلك يوقع في إشكالات منهجية، ويؤدي إلى مناقضة الفروع للأصول وهو محال. وقد وجدت - مثالا على ذلك – نازلة من كلام للشيخ الداعية المجدد، والعالم المحقق، محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، وجزاه عن الأمة خير الجزاء، إذ تشدد – على غير عادته - في إلزام ما لا يلزم في نازلة من بعض فروع العقيدة. فنحن والحمد لله على عقيدة السلف الصالح، فيما قرروه؛ استقراءً من نصوص الكتاب والسنة، من توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، بما يتضمن ذلك كله من إثبات للأسماء والصفات، وعدم تأويلها، ولا تعطيلها، ولا تشبيهها.
ولكن؛ أن يصير الأمر في ذلك إلى تحقيق قضايا فوق طاقة الجمهور؛ فَهْماً، وإدراكا وتكليفا؛ فهذا مما يكون القول بالتكليف به مناقضا لأصول الدين وأصول الفقه معا! كما قرره العلماء بقواعد الاستقراء القطعي، مما بينا سابقا. إذ هو من باب (تكليف ما لا يطاق) وهو ممتنع في الدين، مرفوع في الشريعة أصولِها وفروعِها! ولقد قَبِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر الإيمان من الناس، ولم يحقق معهم جزئيات المعاني التي لا تطيق العقول البشرية إدراكها، ولا استحضارها. بينما ذهب فضيلة الشيخ الألباني رحمه الله – فيما سنورده - إلى حمل الناس على ذلك في خصوص هذه النازلة، ساخرا من علماء الأزهر، وكل عالم لا يدرك ما أدركه من التكلف والتعمق! بل سفَّه أحلام بعض علماء العقيدة السلفية الذين لم يفهموا ما فهمه! جاء ذلك في فتوى من فتاويه رحمه الله، نشرت مستقلة بعنوان: (التوحيد أولا يا دعاة الإسلام!) ونحن أيضا نقول بذلك على تمامه وكماله، ولكن بـ(المنهاج التربوي)، القائم على التوسط والاعتدال. قال رحمه الله: (إن عقيدة التوحيد بكل لوازمها ومتطلباتها؛ ليست واضحة - للأسف - في أذهان كثير ممن آمنوا بالعقيدة السلفية نفسها! فضلا عن الآخرين الذين اتبعوا العقائد الأشعرية، أو الماتريدية، أو الجهمية؛ في مثل هذه المسألة. فأنا أرمي بهذا المثال إلى أن المسألة ليست بهذا اليسر، الذي يصوره اليوم بعض الدعاة، الذي يلتقون معنا في الدعوة إلى الكتاب والسنة! إن الأمر ليس بالسهولة التي يدعيها بعضهم! ولا يكفي أن يعتقد المسلم
"الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى"
(طه:5)
[و]"ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"
رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم، عن ابن عمر مرفوعا،وقال الترمذي: حسن صحيح. وصححه العلامة الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة:925، وفي صحيح الجامع الصغير:3522
دون أن يعرف أن كلمة (في) التي وردت في هذا الحديث ليست ظرفية، وهي مثل (في) التي وردت في قوله تعالى:
"أأمنتم من في السماء" الآية
(الملك:16)
؛ لأن (في) هنا بمعنى (على). والدليل على ذلك كثير، وكثير جدا (...) ويُقَرِّب هذا حديثُ الجارية – وهي راعية الغنم – وهو مشهور معروف، وإنما أذكر الشاهد منه، حينما سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أين الله؟" قالت: "في السماء"
9 رواه مسلم.
لو سألت اليوم بعض كبار شيوخ الأزهر - مثلا – أين الله؟ لقالوا لك في كل مكان! بينما الجارية أجابت بأنه في السماء، وأقرها النبيe؛ لأنها أجابت على الفطرة (...) لأنها لم تتلوث بأي بيئة سيئة؛ عرفت العقيدة الصحيحة التي جاءت في الكتاب والسنة، وهو ما لم يعرفه كثير ممن يدعي العلم بالكتاب والسنة!)([4]). كذا!
قلت: هذا كلام – من حيث الأصل - صحيح؛ ولكن التكليف به، والاشتغال به، تربيةً ودعوةً؛ غلو شديد! وتتبع مثل هذه الدقائق في تجديد الدين – وجدانا وعملا - مخالف لما جاء به الإسلام من التيسير وعدم التعسير، كما سبق بيانه بالقواعد القطعية؛ فالعقيدة إنما هي عبادةٌ خوطب بها كل الناس: العالِم والعامي كلهم في ذلك سواء! وأخْذُ الناس بمثل هذه الدقائق؛ إنما هو حملٌ لهم على ما لا طاقة لهم به! فالعقيدة التي (لا يعرفها) علماء الأزهر، ولا أهل التدين السليم، ولا كثير من أهل العقيدة السلفية؛ إنما هي مجال لا تكليف به أصلا! وإنما رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبِلَ من الجارية ظاهر خطابها. ولم يوقفها ليحقق معها معنى (في) أتعني الظرف الداخلي؛ أم الخارجي؟ أي: هل هي بمعنى (داخل) أم بمعنى (على)؟! فهذا تحَكُّمٌ في النص! ثم إنما مرجع ذلك - في نهاية المطاف - إلى تحكم العقول في الاعتقاد، وهو باطل شرعا وعقلا. وإنما هي أسماؤه الحسنى وصفاته العلى، نؤمن بها كما وردت، نأخذها على حقيقتها، بما لا يعطلها، ولا يؤولها، ولا يشبهها، عقيدةً فطريةً بسيطةً، بلا تحكم، ولا تعقيد! وما خاطب رسول الله الجمهور، ولا أحدا من خواص الصحابة بمثل ذلك قط!
نعم إن الفطرة المسلمة السليمة تتلقى لفظ (في) الوارد بالآية والحديثين المذكورين؛ بمعنى (على)، ولكن على غير منهج جدلي؛ بل يكفي في ذلك أن يكون بمنهج تربوي كما كان الشأن في زمن الصحابة والتابعين؛ لأن المنهج التربوي يعمر القلب معرفةً بالله تعالى، فيعظمه جل وعلا خشيةً وإجلالا؛ وينـزهه عن أن يحاط به سبحانه، بل هو تعالى بكل شيء محيط:
(إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ)
(فصلت:54).
فليس كل شيء يتناوله البحث، ويصح في التحليل والاستدلال؛ يصلح ليكون مادة للدعوة والتربية، ومقصدا شرعيا يخاطب به عموم الناس. إن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم على منهجهم؛ إنما كانوا على عقيدة سلفيةٍ موضوعاً؛ تربويةٍ منهجاً، لا على عقيدة سلفيةٍ موضوعاً، جدليةٍ منهجاً! وفرق بينهما كبير!
إن (العقيدة السلفية موضوعا؛ التربوية منهجا) هي التي وردت في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي خرجَّت جيل الصحابة والتابعين، وسائر العلماء الربانيين، وهي التي أطاق الجمهور من المسلمين اعتقادها والعمل بها، وكانوا بها صالحين.
فلم تكن البعثة المحمدية إلا بسيطة وسهلة، وميسرة تيسيرا في الفهم والعمل. ولا نجاح لعمل دعوي يخرج عن هذا المنهج. ولذلك كان هذا مَعْلَماً من معالم (بعثة التجديد). فحاجة العالَم اليوم إلى الدين شديدة، وعودة الناس إلى الله رغبة أكيدة، وهي كامنة في الوجدان الإنساني، تنتظر أهل البعثة ليكتشفوها، وينـزلوا عليها كلمات الله طريةً ندية. وأما التعقيد فلا يجعل ماءها إلا غورا، فلا يستطيع المعنتون له طلبا!
المراجع
- مجموع الفتاوى: 8/440.
- الموافقات: 2/69
- الموافقات: 3/409
- التوحيد أولاً يا دعاة الإسلام: 25-29 مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض. ط. الثانية:1422هـ/2001م.