الإيمان بالله : عن طريق الفطرة ، عن طريق الأدلة
يقول ربنا سبحانه و تعالى
" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) "(سورة الحجرات)
فهذا الذي يجد في نفسه ريباً ليس مؤمناً ، وليس في الإيمان حل وسط ، فإما أنك مؤمن إيماناً قطعياً ، ولو أن أهل الأرض كلهم كفروا فأنت لا تكفر ، وإما أن يكون في هذا الإيمان ريب أو شك أو تردد ، فهذا ليس بإيمان والدليل القاطع قوله تعالى " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا " فلو أنهم ارتابوا لفقدوا صفة الإيمان ، وبادئ ذي بدء الإنسان بفطرته التي فطره الله عليها مؤمن بالله ، واليوم درسُنا مقسم إلى قسمين :
الإيمان بالله عن طريق الفطرة .
الإيمان بالله عن طريق الدليل ,
الفطرة : كأنها مرآة صافية نظيفة ينطبع عليها الشيء الذي أمامه وهكذا طبيعة المرآة إنها تعكس ما أمامها ، فلو أن دخاناً كثيفاً طمسها لغيَّر صفاءها ، وغيّر قابليتها للانعكاس وعندئذٍ يأتي الدليل ، فالإيمان بالله عز وجل يمكن أن يكون عن طريق الفطرة السليمة ، ويمكن أن يكون عن طريق الدليل العقلي والبرهان العلمي .
إن مسالك اليقين أربعة مسالك :
1 ـ اليقين الحسي .
2 ـ اليقين الاستدلالي .
3 ـ اليقين الإخباري .
4 ـ ويقين الفطرة الإشراقي .
فالإنسان أي إنسان ، كبير أم صغير ، ومتعلم أم جاهل ، وغني أم فقير ، وقوي أم ضعيف ، ومدني أم ريفي ، وعبقري أم غبي . بحسب فطرته مؤمن بأنه لا إله إلا الله ، مؤمن بالله بالفطرة ، كيف يبدو هذا ؟ لو ركب البحر إنسان ملحد وإلحاده عميق ، أي عنده ألف دليل ودليل بحسب تصوره الأخرق على أنه لا إله ، فصارت الأمواج كالجبال وأصبحت السفينة تتهاوى بين الأمواج كريشة في مهب الريح ، عندئذٍ يلتجئ هذا الملحد إلى الله عز وجل وهذه طائرة تُقِلُّ بضعة خبراء لا يؤمنون بالله ، ينكرون وجوده فلما وقعت في عدة جيوب هوائية وظن هؤلاء الخبراء أن الطائرة على وشك السقوط ، دعوا الله مخلصين ، فالإنسان مؤمن بالفطرة ، لكنه وهو في سلام ، وفي بحبوحة ، وفي غنى ، وفي أوج وقوة يكابر .
وهناك شخص قال لي لقد نشأت في بيئة تنكر وجود الله عز وجل إنكاراً كلياً وعملت عند شخصٍ في حرفة ، وهذا الشخص أيضاً ينكر وجود الله ، أوحى إلي على أنه لا إله و افعل ما تشاء فالحياة اقتناص ملذَّات ، وهكذا فعلت ، ولم أترك معصيةً إلا وارتكبتها وعملت في التجارة ، فربحت مئات الألوف ، وتزوجت ، وسافرت إلى بعض الدول وفعلت فيها من كل أنواع المعاصي "هكذا قال " وفجأةً " والقصة طويلة " صودرت بضاعته ، وبقي بلا دخل وعليه دين ، وصار أصحاب الدين يطالبونه بقسوة ، مرض أولاده وزوجته وليس معه ثمن الدواء فضلاً عن ثمن الغذاء ، وضاقت عليه الدنيا فقال لي : أصابتني مصائب لو أنها نزلت على جبلٍ لهدَّته وما شعرت في أحد الأيام إلا و أنا داخل إلى المسجد لأصلي ، فهذه هي الفطرة وصلّى ......
وإنسان آخر هذا عقيدته أنه لا إله ، و له أعمال مخزية جداً ، وعنده بنت صغيرة في سن الورود ، مرضت مرضاً شديداً ، وهذا المرض جعله ينفق كل ما يملك إلى أن قال له أحد الأطباء : " لا تنتظر أن تعيش هذه الفتاة ، دعها كي تموت ". قال : " فكنت آخذها معي إلى عملي خشية أن تموت في غيابي " لشدة تعلقه بها " و هو يصر أنه لا إله " ارتفعت حرارتها وبقيت في الأربعين ولم يترك طبيب أطفال إلا وزاره ، ولم يترك دواءً إلا واستعمله ، وهذه الحرارة لا تنخفض ، إلى أن همس في أذنه أحد أطباء الأطفال إن هذا المرض نادر الوقوع وإن هذه الحرارة لن تنخفض إلا عند الموت ، قال :" في أحد الأيام قلت لزوجتي " سخني لي الماء لأغتسل " و فيما يقول لم يغتسل في حياته ولا مرة " كان يتغسل ولا يغتسل " فاغتسل ووقف ليصلي ، و سأل زوجته ماذا تقرئين في الصلاة إنه لا يعرف الفاتحة ، وتقول زوجته " بقي واقفاً نصف ساعةٍ يبكي و يقول يا رب إما أن تأخذها أو أن تأخذني أو أن تشفيها ، ضيّق الله عليه فظهرت فطرته فأين الإلحاد ، أين دعواك العريضة أنه لا إله ، وبقي يصلي نصف ساعة وأجهش بالبكاء ، وما أن سلم من صلاته حتى رأى حرارتها قد انخفضت ، بعد أن تصلبت عضلاتها ، و بدأت تتحرك .
أقول لكم هذه الكلمة : ما من إنسانٍ ينكر وجود الله عز و جل إلا و هذا قوله يوم القيامة :" ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) "(سورة الأنعام)
فحينما أنكروا كانوا كاذبين ، و يكابرون ، و يركبون رؤوسهم ، و يبالغون ، والإنسان لا ينبغي له أن يأتي في الشدة ، بل عليه أن يأتي في الرخاء والبطولة أن تأتي إليه وأنت معافى وأنت في أوجك ، أوج صحتك وقوتك ، ومالك ، وفراغك ، لا أن تأتيه بعد شدةٍ بالغة تنهدُّ لها الجبال .
و الإنسان .. أيها الأخوة المؤمنون ، مؤمن بالفطرة وحينما يؤمن ترتاح نفسه ، وهذا هو الدليل ، وحينما ينكر تضطرب نفسه ، ويختل توازنه ، ويضجر ، ويسقم ، ويسأم ، وحينما لا يؤمن ترون منه ردود فعلٍ قاسيةً جداً لأسبابٍ تافهةٍ ، وهذا دليل اضطرابه ، وإن هذا الذي لا يؤمن ينفجر لأتفه سبب ، وهذا عند علماء النفس دليل اضطرابه الداخلي لأنه خالف الفطرة . وهذا المحرك لا يعمل إلا بالوقود ، بالبنزين ، فلو وضعت فيه ماءً أو وقوداً من نوع آخر لظهرت أصوات و اضطراب ولتوقف ، وتشعر أن الوضع غير طبيعي ، فالإنسان مؤمن بالفطرة ، لا تفهموا من هذا الكلام أنه ليس هناك أدلة ، بل هناك مليون دليلٍ و دليل على وجود الله ولكن قبل أن نستعرض هذه الأدلة العلمية والبراهين العقلية نود أن نلفت النظر إلى أن الإنسان مؤمن بالفطرة .
ولقد قال العلماء : الطفل حينما يولد يملك منعكساً اسمه منعكس المص ، ومنعكس المص عملية بالغة التعقيد ، فالآن ولِدَ هذا الطفل ، ولو أنه بعد الولادة بساعة واحدة وضعته أمه على ثديها لالتقم الثدي ولأحكم إغلاق فمه على الثدي ، ولسحب الحليب ، وهذه عملية معقدّة كيف خلقت هذه الفطرة ، إن الطفل بالفطرة يتقن المص إتقاناً كاملاً . وحينما كنا في الجامعة درسنا في علم نفس الطفولة أن الإنسان حينما يولد ، يولد مزوداً بمنعكس المص تزويداً كاملاً .
أما الحيوان فلأنه ليس مكلفاً ، ولم يخلق الله له فكراً ، فرخ البط عوام كما يقولون والطائر يطير ، و كل حيوان حينما يولد تراه مزوداً بمئات المنعكسات ، هذه يسميها العلماء الغريزة ، وهي آلية معقدة جداً ولكنها جاهزة دون تعلم ، هذه الفطرة ، بالنسبة إلينا بني البشر أطفالنا حديثو الولادة مزودون بمنعكس المص ، وهذا المنعكس ليس له تفسير إلا الفطرة أي بفطرة هذا الطفل المولود يعرف أن يلتقم ثدي أمه ، وأن يمص منه الحليب ، وهذا من أدلة الفطرة .
ودليل آخر : شعور الأم بعاطفةٍ جياشةٍ نحو ابنها من دون أن تعلم ما قيمة هذه العاطفة ولولا هذه العاطفة لما كنا نحن هنا .
وقصة رمزية تروى : أن سيدنا موسى رأى امرأةً تخبز خبزاً في تنور وابنها على طرف التنور الأيمن وكلما وضعت رغيف خبزٍ في التنور ، تلتفت نحوه وتقبله من شدة عطفها وحنانها ، فعجب هذا النبي الكريم ، فالله سبحانه وتعالى أعطاه درساً نزع الرحمة من قلب الأم فلما بكى الطفل ألقته في التنور، فأي أمٍ جاهلة ، أو متعلمة ، أو مؤمنة ، أو كافرة ، أو زنديقة ، أو بغي ، أي أمٍ تحب ابنها بالفطرة ، هذه فطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها .
" يا داود ذكر عبادي بإحساني إليهم فإن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها ".
فبالفطرة يلتقم الطفل ثدي أمه ، وتحس الأم بعاطفةٍ جياشةٍ نحو ابنها ، ويحب الإنسان من أحسن إليه ، فلو أن له أخاً من أمٍ وأب وهذا الأخ أساء إليه وشخص لا يمت إليه بأية صلة من طرف الدنيا الآخر ، فلو أحسن إليه لأحبه أكثر من أخيه .
وشخص قال لي : وقعت بعجزٍ مالي في عملي التجاري أي أخفقت ، وضاقت عليَّ الدنيا ، صرت أهيم على وجهي في الطرقات ، فالتقيت بتاجرٍ في طرفٍ من أطراف البلاد البعيدة ، وهذا التاجر ليس من ديني ، إنه من دينٍ آخر ، فقام هذا التاجر وأعطاني بضاعة بما قيمته خمسون ألف ليرة سورية وقال : خذ هذه البضاعة وبعها وحينما تحس أنك وقفت على قدميك ادفع لي الثمن فقال لي : والله أحس أن قلبي ينفطر حباً له ، سبحان الله هذه هي الفطرة أخوه النسبي لم ينجده ، وأقرباؤه ، وجيرانه ، أهله ، لا أحد ينجده ، وهذا الإنسان من بلدٍ بعيد علم بحالته وأمده بهذه البضاعة كي يقف على قدميه وهو من دينٍ غير دينه فأحبه .
لا تعجبوا كيف فتح المسلمون البلاد ، فتحوها بأخلاقهم الكاملة فحينما كانوا مُثلاً عُليا في الخلق الكريم ، أهل البلاد دلوهم على الطرقات ، ويوجد جبال معقدة جداً فتجاوزها المسلمون شمال إفريقيا وآسيا ، وجبال وعرة جداً ، ولو أن أهل البلاد أبغضوهم لكانت هذه البلاد قي حصنٍ حصين و لكنهم لكمالاتهم ورحمتهم وعدالتهم فُتحت لهم القلوب قبل أن تفتح لهم البلاد ، فالذي أعانهم على فتحها أبناء البلاد المفتوحة نفسها ، هذه هي الفطرة ، فالأم تشعر بعاطفةٍ نحو ابنها من دون أن تعرف قيمة هذه العاطفة ، ولولا هذه العاطفة لما كنا أحياء .
وحينما أرى طفلاً أمه تعتني به ، وأبوه يأتي كل مساء بكل حاجاته ، يكدح الأب ويسعى ويجهد ويتحمل المخاطر والمسئوليات ويغامر إلى أن يأتي مساءً بكل حاجات البيت وحينما يرى ابنه في دفءٍ ويرتدي ثياباً نظيفة ، ويأكل ما يشتهي يحس الأب بسعادةٍ لا توصف هذه هي الفطرة . فلو حللنا هذه الفطرة لعرفنا أنه لولا هذا العطف لما استمرت الحياة ، وهذا إدراك عقلي ، لكن الأب يحس بهذه العاطفة من دون أن يبحث في تحليلاتها ومدلولاتها ، فمن منا ينكر ما في نفس الأم من عطفٍ إنه شيء ثابت فما الدليل ؟ لا يوجد دليل ، وإحساسها بالعاطفة هو الدليل وإحساسها هو الفطرة ، والإحساس الفطري لا يحتاج إلى دليل ، بل بديهي يسميه الناس المسلمات ، والمسلمات هي مبادئ لا تحتاج إلى براهين ، الكل أكبر من الجزء برهن عليها ، إنها واضحة مثل الشمس ، هذه مسلمة ، وجميع الناس مدفوعون بدافعٍ من فطرتهم إلى كسب قوت يومهم ، وهذا دافع خفي ، فعندما يفتح الإنسان محلاً وينطلق هذا المحل فإن نفسه ترتاح لأنه أمن رزقه وأكله . وإذا كان الموسم جيداً والقمح كثيراً يرتاح الفلاح لأنه أمن المئونة . قال عليه الصلاة والسلام :
" إذا أحرزت النفس قوتها اطمأنت " فالفطرة هكذا ، كل إنسانٍ ينطلق هذا يفتح محل ديكور وهذا يفتح محل ملبوسات ، وهذا مكتباً عقارياً ، وهكذا ، وكل الناس مدفوعون بدافع من فطرتهم لكسب الرزق ، والإحساس بالجوع هل لك أن تنكره ؟ برهن عليه ، أخي أنا جائع ما الدليل عليه إنه لا يحتاج إلى دليل ، إحساس بالجوع صارخ فالإحساس بالجوع فطرة .
وهناك بحث آخر عن قيمة الطعام في حياتنا في توليد الطاقة ، والحرارة ، وتأمين الفيتامينات والمعادن . والطعام منه مرمم ، ومنه مولد للطاقة ، وبحوث طويلة آلاف الصفحات هذا الجائع في غنىً عن هذه البحوث .
وهناك رجل له ابن درس فلسفة في أوروبا ثم عاد بعد سبع سنوات ومعه دكتوراه في الفلسفة ، جلس الأب والأم وهذا الابن ليأكلوا من فروجين فقال الابن لأبويه : أنا بدراستي العميقة أستطيع أن أبرهن لكم أن هذين الفروجين هما ثلاثة وليسا باثنين ، فالأب ذكي ، بدافعٍ من فطرته قال : سآكل واحداً و أمك واحداً و كل أنت الثالث ، فالاثنان اثنان مهما فلسفت لهما .
والدافع بالفطرة أوضح شيء له الشعور بالجوع فما الدليل على أنك جائع ؟ لا يوجد دليل جائع وكفى ، والإحساس بالجوع أكبر دليل ونحن لا نقول هذا الكلام لأنه ليس هناك أدلة على وجود الله ، لا والله ولكن هناك ملايين الأدلة لكن أحب أن أؤكد لكم قبل كل شيء على أنك إنسان بفطرتك مؤمن بالله ، وحينما لا تؤمن ، تصور مرآةً كانت صقيلةً نظيفةً ذات قابليةٍ للانعكاس عالية جداً ، جاءها دخان كثيف من شمعةٍ فطمست معالمها ، وشفافيتها ، وانعكاسها عندئذٍ الآن نحتاج إلى دليل فلو أن هذه المرآة صافية لما احتجنا إلى دليل .
وأحياناً يحتاج الإنسان لأن يأكل شيئاً حامضاً فيكون عنده نسب الكلس عالية و الكلس لا يذوب إلا بالحمض ، وقد يشتهي الإنسان سلطة فيها حمض زائد فما السبب ؟ أحيانا تشتهي أكل برتقالة حامضة ، وأحياناً فتيات يأكلن الليمون ، و قد يشمئز الإنسان من أكل الليمون ، وقد ترى البنت تأكل الليمون بكل سرور ، تقطعه وتأكله مع الملح فما هو تفسير هذا الشيء ، عندها رغبة جامحة لأكل الليمون ، السبب هو وجود مواد كلسية زائدة لديها ، فربنا عزّ وجل لحكمةٍ بالغة يخلق في الإنسان دافعاً نحو الحمض .
وقد يشتهي الإنسان أكل الموالح فيكون عنده نقص بالملح ، وأحياناً يشتهي أكل الحلو فيكون عنده نقص بالطاقة ، فرغبة الإنسان لأنواع الطعام مبنية على حاجاته .
وهناك علماء أتوا بعشرة أطفالٍ ووضعوهم في مختبر أمام ألوانٍ منوعة من الطعام وعشرة أطفالٍ آخرين تولى خبراء في التغذية إطعامهم ، أي تغذية مدروسة بالحريرات والبروتينات ، والدهنيات ، والسكريات ، والمعادن ، وأشباه المعادن ، والفواكه ، واللحوم فكانت نتيجة الأطفال الذين أكلوا وفق رغبتهم الخاصة أن نموهم كان أفضل لأن الرغبة الخاصة مبنية على حاجة داخلية فحينما تشتهي الطعوم الحامضة يكون عندك كلس زائد ،وحينما تشتهي الموالح يكون عندك نقص بالأملاح ، وحينما تشرب الماء يكون دليلاً على نقص الماء بالجسم وهذا أيضاً إحساس بالفطرة . إذاً شعورنا بالعواطف والأحاسيس هذه كلها من الفطرة ولا برهان عليها ، وشعورنا وحده هو الدليل .
الشعور الفطري إحساس بين جميع الخلائق المدركة على اختلاف نزعاتها ومستوياتها وثقافاتها في البيئات البدائية ، وفي المدن المتحضرة ، وفي منتديات المثقفين ، وفي قاعات العلوم والفنون والمختبرات ، إنه شعور مشترك بين جميع الناس ، يقوم في نفس الطفل الصغير والإنسان البدائي ، والإنسان المتحضر ، والجاهل ، والعالم ، والباحث ، والفيلسوف ، والعبقري والفنان ، والخبير في المعمل ، وكل هؤلاء يشعرون أن الله حق ، وأنه القوة القابضة على ناصية كل شيء ، والعالمة بكل شيء ، والحكيمة ، المريدة التي لا شك فيها .
قرأت كلمةً لأكبر عالمٍ في الذرة ، وهذا العالم اكتشف أحدث نظرية حتى الآن اسمها النظرية النسبية وهو "انشتاين" قال هذا العالم : كل إنسان لا يرى في هذا الكون قوةً هي أقوى ما تكون ، عليمةً هي أعلم ما تكون ، حكيمةً هي أحكم ما تكون ، هو إنسان حي و لكنه ميت .
الآن إليكم بعض الآيات التي تؤكد هذه الحقائق :" قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)" (سورة إبراهيم)
هو الذي فطر السماوات و الأرض فطرها على أن تؤمن به ." تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)" (سورة الإسراء)
ولذلك فالذي فطر السماوات و الأرض فطرها على أنها تؤمن به بدافعٍ من بنيتها وخلقها وقال تعالى في آية أخرى : " فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚلَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) " (سورة الروم)
نقطة دقيقة جداً أتمنى عليكم أن تكونوا في مستواها ، النبات أوضح شيء ، ترى نبتةً يقال لك إن هذه النبتة تحتاج سقيا في الأسبوع مرة فلو أكثرت عليها الماء تموت ، وهذه النبتة تحتاج ثلاث مراتٍ سقيا أسبوعياً ، وهذه النبتة بالشهر مرة ، وهذه النبتة نبات الصالون ، تزدهر في الغرف ، وهذه النبتة لا تزدهر إلا في أشعة الشمس ، فلو جلست مع صاحب حدائق لديه خبرات عالمية لوجدت أنه يعلم طباع كل نبتة ، فهذه النبتة تحتاج إلى ظل ، وإلى شمس مبرقعة " بوضع أقمشة خفيفة في بعض البيوت البلاستيكية " وهذه تحتاج إلى ضوء ، وهذه تنمو في البيوت في الغرف ، وهذه تحتاج إلى سقيا كثيرة ، وهذا النبات لا ينمو إلا في الماء كالزنبق الذي يجب أن يغمر في الماء . إذاً ربنا عزّ وجل خلق في النباتات شيئين : شيئاً ظاهراً لعينك مثل طولها ، وشكلها ، وأوراقها ، وألوانها ، وأزهارها ، وأشياء تكتشفها مع الأيام وهي وطباعها هي الفطرة التي فطرها الله عليها ، أي حاجاتها وطباعها ، وأنواعها ، ومواسمها وأوقات ازدهارها أي أشياء دقيقة جداً ، فمثلاً بعض النباتات يزهر مرتين في السنة ، وآخر خلال شهر ، وهذا النبات تسقط أوراقه ، وهذا أزهاره فواحة ، وهذا أزهاره ليست لها رائحة وهذا أوراقه كثيفة ، وذاك أوراقه مبعثرة ، فطرة الله التي فطرَ النبات عليها ، كما أن النبات له طِباع ، مثلاً النباتات إن لم تسقِها لا تنمو ، الباذنجان يحتاج إلى تعطيش إلى أن يذبل وبعد أن يذبل تعطيه الماء فينمو ، والرز يحتاج إلى غمرٍ في الماء ، وهذه خبرة الفلاح وكل نبات يعرف طباعه ، فالتفاح ينمو في المرتفعات ، والحمضيات في السواحل ، والحمضيات لا تنمو بالرياح إذاً فهي تحتاج إلى مصدات رياح ، وطباع هذا النبات هكذا ، فهذا ينمو في أفريقيا ويحتاج إلى رطوبة عالية ، وهذا النبات ينمو في الصحراء فالشوكيات كلها صحراوية ، وهذا النبات قطبي وهذا نبات ينمو في قاع البحر ، وفي الأنهار ، وهذه هي الفطرة لكل مخلوقٍ ، غير النواحي المادية طباعُهُ ، حاجاته ، أطواره ، تطوراته هي الفطرة ، فالإنسان مفطور على حب الكمال وهكذا فُطِر ، ومفطور على حب الإحسان ، وقد خلق ضعيفاً ، وعجولاً ، وهلوعاً هذه هي فطرته . " فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ "
أما هذه الفطرة فقد تنطمس بفعل انغماس الإنسان في الشهوات فيتحول هذا الإنسان إلى وحشٍ بشري .
وهناك امرأة في فرنسا لها ولد ، أغلقت عليه البيت وسافرت إلى عند صديقتها فمات بعد أسبوعين ، جوعاً وعطشاً ، ويوجد حالات نادرة فهذه الأم تشوهت فطرتها .
وإنسان آخر دخل في بعض القرى و ذبح امرأته و أولاده الخمسة ، وهذا فطرته مشوهة .
ويوجد حالات نادرة جداً الفطرة التي فطر الله الناس عليها تتشوه . فهذا موضوع الفطرة وهو موضوع طويل ، لكن الإنسان من دون تعقيدات في بنيته النفسية ، وبطبيعته وطريقة خلقه وبفطرته التي فطره الله عليها مؤمن بالله ، وهذا هو الأصل فإذا كفر أو إذا أنكر أو إذا ألحد اضطربت نفسه واختل توازنه وقست ردوده وأصبح مريضاً .
وهناك أشخاص ليسوا في مشفى المجانين لكنهم قريبون جداً من الجنون ، ترى أحدهم عنيداً لدرجة أنه يطلّق امرأته لسببٍ تافه ، ويفصل الشركة مع شريكه لأتفه سبب ، ويقتل إنساناً لأن بقرته دخلت إلى أرضه وأكلت بعض الحشائش ، هذه واقعة وهذه حالات نادرة الآن القسم الثاني من الدرس :
إذا تركنا الفطرة جانباً كان البحث العلمي بما فيه من استدلالٍ نظري واختبارٍ وتجربة سبيلاً إلى التعرف على حقيقة وجود الخالق جل وعلا .
الآن دعونا من الفطرة ، دعونا من الإحساس الفطري بوجود الله ، وأوضح مثلٍ له إذا ركب الإنسان الملحد في باخرة أو طائرة وشعر أن هذه الطائرة أو أن الباخرة في خطرٍ محقق عندئذٍ انظر له ماذا يقول ، كل واحدٍ يدعو الله بلغته و يرجوه و يتوسل إليه لأنه استيقظت فطرته .
أو شيء يوجد نقطة مهمة جداً في هذا الموضوع ، هذا الدين من عند الله ، الله سبحانه وتعالى عليم بكل شيء ، وهذه المجرات والشمس والقمر والبحار والسماوات والأسماك والأطيار والنباتات والحيوانات وأي شيء مبني على علم بالغ ، مثلاً الناموسة إذا وقعت على يديه لا يشعر بشيءٍ إطلاقاً ، لا بتأنيب الضمير ولا بوخز الضمير ولا بشعور أنه قتل قتيلاً ولا بأنه ارتكب إثماً ، ولا ارتكب معصيةً ، ولا أنه أزهق نفساً من غير سبب لتفاهتها عن الخلق ، ومع ذلك هذه الناموسة فيها رادار ، وفيها جهاز تحليل دم ، و جهاز تمييع دم ، و جهاز تخدير ، و جناح يرف أربعة آلاف رفه في الثانية ، وفيها ثلاثة قلوب ، و محاجم ، و مخالب ، و ذكاء ، فالناموسة تختبئ وراء الستار أو وراء السرير ، إذا استيقظت وأشعلت المصباح فأين هي ؟ إنها تختبئ لأنها تعرف أنك غضبت منها وأنك تهم بقتلها ، تختبئ في مكانٍ لا تراها فيه ، هذه الناموسة عندها علم .
الحوت كم فيه من علم ؟ وزنه تقريباً مائة وثلاثون طناً وطوله ثلاثون إلى أربعين متراً ، وفيه خمسون طناً دهناً ، وخمسون طناً لحماً ، وثلاثون طناً عظماً تقريباً ، ويخرج منه تسعون برميلاً زيتاً ، إذا أراد أن يتناول وجبة خفيفة فإنه يأكل 4 طن و يرضع صغيره 300 كغ حليب بالوجبة " ببرونة " ، 3 وجبات طناً حليباً ، باليوم الواحد يرضع صغيره طن حليب ، فهل الحوت مبني بلا علم .
و العصفور ألا يوجد عنده علم ، فلقد قرأت في مجلةٍ عن الطيران أن أعظم طائرة اخترعت حتى الآن " الكونكورد " لا ترقى إلى مستوى الطير أبداً وما فيه من علم ، اركب طائرة 400 راكب وكأنهم في مدينة ، أكل وشرب وحاجات ومقاعد كثيرة ، وعلى ارتفاع 40 ألف قدم ، الطيران بالليل كم ساعة من أمام الطيار والرادار هل هو قليل ، والطائرة تُسيّر ذاتياً يرسم لها خطة ، فهل الطائرة ليس عندها علم ، فالطائر أعظم من الطائرة البحار ليس عندها علم ، السحب ، والأمطار ، والجبال ، والمعادن ، وأشباه المعادن ، الحقيقة إذا قلت علم الله عز وجل الفيزياء علم الله وهناك تجد كتاباً في آخره ثماني صفحات مراجع بخط صغير يمكن أن تكون ثمانمائة مرجع ، الفيزياء فقط الفيزياء الكيميائية والكهرباء في الفيزياء ، أو الصوت ، أو الحرارة ، تجد الفيزياء النووية ، والكيمياء العضوية واللاعضوية هذه علوم الله ، والإنسان لم يفعل شيئاً سوى كشفها فالفلك ، والطب و الحيوانات والأسماك والأطيار ، كل شيءٍ اكتشفه العلم إنما هو من علم الله :" وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
"(سورة الإسراء)
" اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
"(سورة البقرة)
فلو أنك ذهبت إلى مكتبة غنية تجد مائة ألف مجلد متعلقة فقط بالجسم ، مثلاً كتاب ستة أجزاء عن القلب ، بالحرف الصغير ، وكل جزء ثمانمائة صفحة ، عن القلب : لقد تصفحت كتاباً عن القلب منذ يومين ، يشعر الإنسان بدهشة ، ويصعب عليه فهمه ، وعن الرئتين ، والدماغ ، والعضلات ، و العظام . هذا علم الله ، و هذا دينه ، أيعقل أن يكون دين الله فيه خطأ ، أو فيه تناقض ، أو فيه أشياء غير معقولة ، هذا مستحيل ، إنه خلق الله وكلام الله .
لابد من تناسبٍ بين خلق الله و بين كلام الله ، دقة بالغة في كلامه ، و تشريعه ، و أنبيائه ، و قرأنه فالنقطة الدقيقة التي أُريد أن أقولها " إن الحقيقة لا تخشى البحث أبداً " ، مهما تقدم العلم بعد ألفي سنة ، أو خمسة آلاف ، لن يكتشف العلم حقيقةً تعارض القرآن الكريم و مستحيل ذلك لأن هذا كلامه وهذا خلقه ، فمن سابع المستحيلات أن يكتشف العلم شيئاً مناقضاً للدين أبداً ، وكلما تقدم العلم ازداد قرباً من الدين .
وقد التقيت مع طبيبٍ جراح فقال لي كلما وجدت جرحاً إنتانياً مستعصياً شفاؤه أضع له العسل و هكذا درسنا في بريطانيا : يوضع العسل على الجروح الانتانية التي لا يرجى شفاؤها و خلال يومين يشفى المريض سبحان الله : " ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) " (سورة النحل)
وعندئذٍ أدركت أن العسل إلى أن يكون دواءً أقرب منه إلى أن يكون غذاءً ، بل إن العسل كما وصف من قبل بعض العلماء " صيدلية كاملة " .
فالحقيقة لا تخشى البحث ، لا تخف أن تقرأ مقالةً في مجلةٍ تنقض آيةً قرآنية ، لاتخف لن يكون هذا لأن خالق الكون هذا كلامه و ليس يعقل أن يكون في كلامه شيء مناقض لخلقه ، فالعنوان أعجبني " الحقيقة لا تخشى البحث " وإذا كنت تُعرّف الناس بالله فقل لهم أقرءوا ما تشاءون ، اذهبوا أينما شئتم ، ناقشوا من تشاءون ، يبقى الحق حقاً والباطل باطلاً ، وفي مقالةٍ قرأتها لم أنم الليل ، لماذا ؟ قال إنهم عرفوا نوع الجنين ، هكذا بهذه البساطة الحقيقة لا تخشى البحث ، لقد وجدنا جمجمة هي الحلقة المفقودة بين الإنسان و القرد و ذلك يعني أن نظرية داروين صحيحة ، كله كلام فارغ . هذا الذي لا يقرأ مشكلته مشكلة ، وأخطر إنسانٍ في المجتمع هو نصف العالم أخذ شهادة فظن نفسه عالماً الجهل مفيد لأن صاحبه متواضع يتعلم و العلم مفيد و لكن الشيء الخطر أن تتعلم شيئاً و تغيب عنك أشياء ، أن تظن نفسك عالماً و أنت لست كذلك ، قرأ في البكالوريا عن نظرية داروين أن الإنسان أصله قرد فعلق ذلك بذهنه و الدين يعتبره خرافة ، شيء قديم .أما أنا ، فالآن من جديد بدأت أؤمن بهذه النظرية ولكن معكوسة ، أي أن هذا الإنسان كان إنساناً و أصبح قرداً ، مسخ الآن . إذا كان الإنسان همه بطنه وهمّه شهوته ، وليس عنده أية قيمة فإنه مسخ قرداً ، أنا آمنت بها مؤخراً بشكلٍ معكوس ، كان إنساناً فأصبح قرداً .
فالحقيقة لا تخشى البحث ، لا تخف و لو ذهبت إلى عواصم الكفر و لو التقيت مع أكبر العلماء لا تخش على إيمانك ، لا يوجد وقت للإفاضة في هذه الموضوعات ، علماء من كبار الملاحدة حينما قرءوا بعض آيات القرآن قالوا هذا الكلام من فوق ، من عند جهةٍ فوق الكون ، لأنه واضح ، والآن فالعلم اكتشف أن بلاد العرب كانت في القرون السحيقة بساتين و أنهاراً ، فكيف عرفوا ذلك ؟ من المستحثات ، إذ يوجد مدن بكاملها في الربع الخالي مدفونة تحت الرمال ، وجذوع أشجارٍ ضخمة ، ومستحثات متحجرة ، ورسوبيات أنهار ، والعلم أيضاً بحسب معطياته الحديثة يتنبأ أن خطوط المطر تنتقل إلى أن تغدو بلاد العرب بساتين و أنهاراً .
العالم الجيولوجي الذي قرأ هذا الحديث الشريف قال عليه الصلاة والسلام :
" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ فَلا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا " .
وفي القرآن يوجد إشاراتٍ كلما تقدم العلم اكتشف بعض الحقائق إلا أن الإمام علي كرّم الله وجهه قال : " في القرآن الكريم آيات لمّا تفسر والعلم كلما تقدم يفسرها ، إذاً هذه الملاحظة " الحقيقة لا تخشى البحث أبداً " .
وديننا دين معقول ، مبني على العلم لأن الخالق عليم و هذا دينه فيه علم فلا يظن أحدنا أنه إذا تناقش مع كافر فسينهار أمامه ، ولو أن لك إيماناً قوياً لا تخش به أن تواجه أحداً على وجه الأرض ، لكن يوجد ملاحظة : لو أنك واجهت حقيقةً أو واجهت شيئاً في العلم يناقض شيئاً في الدين ، فكيف تفسر هذه الظاهرة ؟ هناك ثلاثة تفسيرات :
الأول : إما أن البحث العلمي لم يصل إلى مرحلة الحقيقة ، فهو نظرية ، فنظرية داروين لن تنقلب إلى حقيقة ، وإن هذه النظرية تُخالف ما جاء في كتاب الله فهي نظرية لما تثبت ، بل إن أهل العلم في أوروبا أنكروها وتجاوزوها والآن يسخرون ممن يتكلمون بها فالذي يقول بها الآن أقول له كلمة واحدة : معلوماتك قديمة جداً وأهل العلم في أوروبا سخروا ممن يدعيها ، فإذا كان هناك تناقض بين العلم وبين الدين فلأن البحث العلمي لما يصلْ إلى مرحلة الحقيقة بل بقي في حيّز النظرية .
الثاني : أو أن المنقول عن الدين غير صحيح ، مثلاً هناك 200 ألف حديث موضوع فلو أنك قرأت حديثاً موضوعاً بأي كتابٍ أو قرأت حديثاً ضعيفاً و ناقضاً حقيقةً علميةً لا نفعل شيئاً هذا الحديث ضعيف وقد تكون نسبة هذه الحديث ليست صحيحة ، والحديث الموضوع قد يُناقض العلم .
أو شيء ثالث : أنه وقع الإنسان في خطأ في تفسير الحديث .
إذاً ، فإما أن نسيء فهم الحديث أو أن يكون الحديث موضوعاً و إما أن تكون مرحلة البحث العلمي لا تزال في حيّز النظرية .
هذه هي ثلاثة التفسيرات التي يمكن أن تفسر بها التناقضات أحياناً بين العلم والدين ، أما الحقائق المقطوع بها في الدين ، والنتائج التي يتوصل إليها العلم بطرقه اليقينية القاطعة فإن بينهما تمام التوافق ولا بد من أن يلتقيا على نقطةٍ من الحقيقة واحدة ، ولأن الحق لا يتعدد قطعاً في الأمور الاعتقادية ، ولا في الكائنات الثابتة ، أي إذا رسمت خطاً مستقيماً بين نقطتين ، وأردت أن ترسم بين هاتين النقطتين خطاً مستقيماً ثانياً لابد من أن ينطبق على الأول تمام الانطباق . تصور نقطتين ، رسمت الخط الأول ثم الثاني فسيأتي فوقه تماماً . فإذا كان الخط الأول هو العلم والثاني هو الدين فلا بد من تطابقٍ كامل ، أما إذا كان أول خط لم يمس النقطة الثانية أي كان منحرفاً و الخط الثاني يمس النقطة الثانية فستجد فرقاً بينهما ، واحد لن يمر من هاتين النقطتين .
آخر الدرس ، في عهد الغزالي علماء درسوا أن الكسوف والخسوف مبنيان على قاعدة ، مثلاً يقولون إنه في يوم 23 الشهر الثالث الساعة الثامنة في الليل يخسف القمر ، هذا علم و يوجد دورة حول الأرض و حول القمر فإذا وقع القمر بين الأرض و الشمس كان الكسوف و إذا وقعت الأرض بين الشمس و القمر كان الخسوف ، ففي عهد الغزالي اكتشف العلماء قانوناً للخسوف و الكسوف فلما أذاعوا به قام عليهم رجال الدين و اتهموهم بالزندقة و الكفر فجاء العالم الغزالي الباحث فرد عليهم و قال : " ومن ظن أن المناظرة في إبطال هذا العلم " معرفة الكسوف والخسوف " من الدين فقد جنى على الدين و ضعف أمره ، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية و حسابية لا تبقي معها ريباً "، فمن يطلع عليها و يتحقق أدلتها إذا قيل له إن هذا خلاف الشرع لم يرتب فيه و إنما يرتاب بالشرع.
و إذا قلت لأحدٍ في أوروبا إن هناك عالماً في البلاد الإسلامية ينكر أن تكون الأرض كروية فهل يشك بعلمه أم يشك بالدين ؟ يشك بالدين طبعاً ، إذا قلت له إن العالم الإسلامي الكبير ينكر أن تكون الأرض كروية جاء بمجلةٍ في بعض الدول الأجنبية ، كتبوا فيها فلان العالم الفلاني يقول الأرض مسطحة في عام 1975 ، إذا قرأ الناس هذا الخبر بخطٍ عريض و قد ذهبوا إلى القمر و رأوا الأرض بأم أعينهم كرةً وصوروها و المجلات العلمية طافحة بصور الأرض وهي كرة ، والأقمار الصناعية تصور كل دقيقةٍ ، الأرض كرة وهناك من رآها كرة ، فإذا قرأت في مجلةٍ أن العالم الفلاني يقول إن الأرض مسطحة فهل تشك بالدين أم بالعلم ؟ ساعتها أشك بالدين فالإمام الغزالي يقول " إن هذا الذي يطلّع على هذه الحقائق إن قيل له جهلاً إنها خِلاف الشرع إنما يرتاب في الدين ولا يرتاب من هذه الحقائق و عندئذٍ يكون كمن طعن في الدين " ، فلا تتسرع لأن العلم لا يناقض الدين أبداً ، ولا تنف شيئاً ثابتاً علمياً دفاعاً عن الدين فإن الدين لا ينقضه .
والنبي عليه الصلاة و السلام لما توفي ابنه إبراهيم كسفت الشمس وقتها مصادفةً فقال الصحابة لقد كسفت الشمس لموت إبراهيم ، فقال عليه الصلاة و السلام و هو العالم المُدقّق : " أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تكسفان لموت واحدٍ من خلقه ولا لحياته " هذه آية كونية .
نقطة مهمة جداً : لا تدافع عن الدين برد الحقائق العلمية الصحيحة ، إن هذه الحقيقة تتوافق مع الدين مثلاً إذا قلنا هناك زلزال فالزلزال له تفسيرات ، حركة في باطن الأرض أدت إلى اهتزاز القشرة ، وتفسيرها معقد جداً ، وأقول الزلزال من الله عز وجل هذا كلام صحيح ، لا يمنع أن يكون للزلزال تفسيرٌ علمي جيولوجي وتفسير ديني التفسيران يتوافقان ، ويتكاملان ، وهذا الزلزال سببه اضطراب الأرض ومسبب السبب هو الله عز و جل قضية سهلة جداً ، على العكس بل رائعة متكاملة ، اضطراب القشرة الأرضية سبب الزلزال و مسبب هذا السبب رب السماوات و الأرض ، فإذا قلت إن هنا زلزالاً أصاب قريةً فأهلكها لأنها فاسدة ، فهذا كلام صحيح و كلام ديني ، و إذا قلت إن الزلزال هو اضطراب في القشرة الأرضية وانزياح الطبقات عن بعضها ، وتسرب بعض المائع الناري إلى الطبقات العليا ، وخروج بركان أيضاً فصحيح . وهذا العلم لا يتناقض مع الدين إطلاقاً بل يلتقيان ويتوافقان .
وانطلاقاً من هذا الكلام ، إذا مرض للإنسان ولد فعليه أن يأخذه إلى الطبيب و يشتري الدواء و يعطيه إياه ثم يتوكل على رب الأرباب " اعقلها و توكل " اعقلها وتوكل هذا هو الدين ، لذلك اطمئنوا لن تكتشف حقيقةٌ علميةٌ حتى نهاية الحياة تناقض ما في القرآن لأن هذا الكلام كلامه وهذا الكون خلقه ، ولا يعقل أن يكون في كلامه تناقض أو في كلامه ما يناقض خلقه .
والحمد لله رب العالمين