التشريك في النية على نوعين
و بهذا الاعتبار صار التشريك في النية على نوعين :
- نوع يُشرّك فيه العامل بأمر يجوز التشريك فيه : و هو أمرٌ مباح يجوز أن يلتفت إليه المُكلّف ، و يحصل على سبيل التبع ، كالذي يدرس العلم الشرعي ليُحصّل علماً و ليتعبد الله عز وجل بذلك ، و أيضاً ليحصل شهادةً أو ليحصل جائزةً أو غير ذلك ، فهذا عمله صحيح مقبول .
- أما الالتفات الثاني فهو محرم : و هو أن يلتفت مع إرادة وجه الله عز وجل إلى أمرٍ يحرم الالتفات إليه ، الرياء و السمعة .
فصار الالتفات على قسمين : قسم محرم و قسم جائز ،
و صار التمحض في الإرادة على قسمين : أن يريد وجه الله فقط وهذا في أعلى المراتب ،
أو أن يُريد غير وجه الله عز وجل و هو نوعان : أن يريد دنيا فقط غير الرياء و السمعة ،
أو أن يريد رياءً و سمعةً خالصةً و لا يريد وجه الله عز وجل مع ذلك ، فهذه مراتب العاملين و أنواعهم من جهة الالتفات الذي يجوز و الذي لا يجوز ، و هذا التفصيل لعله أجود ما يُقال في هذا الموضوع ، و قد تكلم العلماء كثيراً على هذه القضايا ، فبين مفرقٍ و مفرط ، و هذا التفصيل تجدون تفصيل يشبهه ذكره القراصي رحمه الله في كتابه الفروق ، في قاعدة التي يذكر فيها أنواع التشريك في النيات و المقاصد ، إذا عرفت هذا أقول الذي ينافي الإخلاص هو الشرك بجميع أنواعه .
الشرك الأكبر يكون معه حبوط الأعمال ، فلا يُقبل من صاحب الشرك الاكبر فرطٌ و لا عدل ،
و الله عز وجل يقول : ( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) .
و يقول عن أعمال الكافرين
( أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ )
، (أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ )
، فليس لهم حظ عند الله عز وجل و لا نصيب .
و هؤلاء الذين يشركون مع الله عز وجل غيره قد أخلوا بأحد أركان قبول العمل الثلاثة ، و هي : الإخلاص و المتابعة و الايمان :
قال الله في آخر سورة الكهف :
( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا- أي خالصاً صوابا - وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا )
، و قال في أولها :
( و يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ) .
فذَكَر الإيمان و ذكر العمل الصالح الذي لا يكون العمل به صالحاً إلا إذا كان خالصاً و صواباً على وفق ما شرع الله عز وجل ، و الآيات الدالة على هذا كثيرة ، كقوله تبارك و تعالى :
( وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا )
، سعى لها سعيها الخالص الصواب الذي تابع فيه النبي صلى الله عليه و سلم ، ( وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) هذا هو الشرط الثالث من شروط قبول العمل و هو الإيمان .
فالشرك الأكبر ينافي الإخلاص و يضاده ، و كذلك أيضاً الرياء و هو مصدر راء ، مراءةً ، تقول هو مرائي ، و حقيقته في كلام العرب أن يُري غيره خلاف ما هو عليه ، فيُظهر الخشوع و هو ليس بخاشع ، و يُظهر التقوى و هو ليس بتقي ، و هكذا حينما يتزين بأعماله التي يظهر أنّه يبتغي بها وجه الله عز وجل ليحصّل منزلةً في قلوب المخلوقين ، ليطروه و ليثنوا عليه و ليرفعوه و ما إلى ذلك .
و أما عبارات العلماء في معنى الرياء فهي عبارات متفاوتة مع تقاربها في المعنى ، فمن قائلٍ هو أن يقوم العبد بالعبادة التي يتقرب بها لله لا يريد الله عز وجل بل يريد عرضاً دنيوياً ، و من قائل هو إرادة العبادة بطاعة الله ، و من قائل هو التشبه بذوي الأعمال الفاضلة طلباً للسمعة و المفاخرة ، و من قائلٍ هو إظهار عمل العبادة لينال مُظهرها عرضاً دنيوياً إما بجلب نفعٍ دنيوي أو تعظيمٍ أو إجلال ، و من قائل هو طلب ما في الدنيا بالعبادة و أصله طلب المنزلة في قلوب الناس ، ومن قائل الرياء أن يفعل شيئاً من العبادات التي أمر الله بفعلها لغيره ، و من قائل هو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس فيَحمد صاحبها .
و هذا هو أدق التعريفات الذي اختاره الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ، هو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس فيَحمدُ صاحبها ، فصار الرياء يتعلق بأمرٍ مُظهر لقصد رؤية الناس ؛ لأنّ الرياء يتعلق بحاسة البصر ، فيَحمدُ صاحبها ، فهو يريد بهذا أن يُحصّل منزلةً في قلوب الناس ، لا يريد أمراً يحصل على سبيل التبع ، كما قلنا الذي يحج و يريد التجارة ، أو يطلب العلم و يريد الله عز وجل و يطلب الشهادة ، فإنّ ذلك يجوز ، لكن هذا طلب أمراً يحرُم أن يلتفت إليه ، و هو أراد أن يكون له وقعٌ و منزلةٌ في نفوس الناس ، فعلى كل حال هذا أدق هذه التعريفات .
وقيل غير ذلك كقول الصنعاني : هو أن يفعل الطاعة و يترك المعصية مع ملاحظة غير الله ، أو يُخبر بها أو يحب أن يُطلع عليها بمقصد دنيوي من مالٍ أو غيره ، وهذا ليس فالدقة كالذي قبله .