الثانية: القرآن معراج التعرف إلى الله
إن أول مقاصد القرآن الكريم إنما هو تعريف الناس بالله، المتكلم بالقرآن. ولذلك جاء تعريف الله لذاته سبحانه بأسمائه الحسنى مباشرة بعد التنبيه
على عظمة هذا القرآن -كما جاء في سورة الحشر- كأنه قال: اعرف القرآن أولاً تعرف الله.
أَوَليس هو تعالى المتكلمَ بالقرآن؟ قال جل وعلا:
﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾
(الحشر:21)،
فقال بعدها مباشرة:
﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾
(الحشر:22-23).
إن الذي ينصت إلى خطاب الفطرة في نفسه يسمع نداء عميقا يترجم الرغبة في معرفة من أسدى إليه نعمة الوجود، ذلك الإنسان مفطور
على شكر من وصله بمعروف. ومن هنا نخلص إلى نتيجة وهي "حق الخالقية" هو مفتاح التعرف إلى الله.
وهذه حقيقة قرآنية كبرى تترتب عليها أمور كبيرة في حياة الإنسان. ذلك أنه كلما نادى الله الناس في القرآن بالاستجابة لأمره التعبدي ناداهم من حيث هو خالقهم، هكذا، بهذه الصفة دائماً، وهو أمر مهم فيما نحن فيه من طريق المعرفة بالله، أي إنه تعالى يسألهم أداء "حق الخالقية"،
هذه الصفة العظيمة لذاته تعالى، التي بها كنا نحن الناس هنا في الأرض نتنفس الحياة.
قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
(البقرة:21-22)،
وقال سبحانه:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾
(النساء:1).
هاتان آيتان كليتان من القرآن العظيم، تعلق الأمر فيهما بالعبادة والتقوى، وما في معناهما من الانتظام في سلك العابدين، وفلك السائرين إلى الله رب العالمين، إثباتاً لحق الله من حيث هو خالق للبشر. ولا يفتأ القرآن يذكّر بهذه الحقيقة باعتبارها مبدءاً كليا من مبادئ الدين والتدين، وأنها العلة الأولى منه، وذلك نحو قوله تعالى:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾
(الذاريات:51)
إنها آية كونية عظمى.. إنها مفتاح من مفاتيح فهم القرآن العظيم، وباب من أبواب
معرفة الربوبية العليا.. قال تعالى في سياق الحِجاج:
﴿مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾
(نوح:13-14).
إنه تعالى ربط حقه سبحانه على عباده بمبدإ خلقهم أطوارا.. فكلما ازداد المنكرون تعنتا ازداد القرآن إفحاما في بيان تفاصيل
الخلق. فتلك حجة الله البالغة إجمالا وتفصيلاً.
وكما كانت تلك هي حجة القرآن في الدعوة إلى العبادة، وإثبات "حق الخالقية" لله الواحد القهار؛ كانت هي عينُها حجته في الدعوة إلى التوحيد
ونفي الحق الوهمي للشركاء، وذلك كما في قوله تعالى:
﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾
(الروم:40).
وبهذا المنطق أيضا رد الله على المشركين، كما في قوله تعالى:
﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾
(الأعراف:191).
وقوله سبحانه:
﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾
(النحل:17).
فما كان هذا البيان والتفصيل لقضية الخلق ليكون؛ لولا أنها قضية كونية كبرى، ينبني عليها ما ينبني من مصير وجودي في حياة الإنسان،
هذا المخاطب بها ابتداء.
إن "قضية الخلق" تمثل مفتاح فهم الربوبية، إنها المبدأ الكلي الذي على أساسه خاطب الله الإنسان بكل أمر ونهي، بل إنها تمثل البنية الأساس
لخطابه، الذي عليه يتفرع كل شيء، مما قرره في العقيدة والشريعة على السواء. نعم، "حق الخالقية" إذن هو مفتاح التعرف إلى الله جل وعلا.
إن إحساس الإنسان بوجوب هذا الحق عليه يخرجه من التيه الوجودي، أو بعبارة قرآنية يخرجه
﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾
(البقرة:257)
. وأيّ ظلام أشد من التصور العبثي للحياة! فبأي نفسية يعيش الإنسان هذه الحياة وهو يرى أنما غايتها إلى العدم المطلق
والفناء الرهيب، الذي ما بعده حياة؟!
إن السالك حينما يذوق من معرفة الله لمعات وأنوارا يتعلق قلبه بحب الله تعالى، لأنه هو الذي أوجده وخلقه، وإنما يجد الجمال الحق في تلك المعرفة.. وإنما نرى جمال الله سبحانه وتعالى في شعورنا القوي بجمال خالقيته تعالى وكمال قيوميته وحسن إجابته وكرم رعايته، وقرب رحمته وأنسه.
فلم يكن عبثاً إذن أن يتوارد ذكر الأسماء الحسنى والصفات الإلهية العلا عبر كل فصول القرآن.
فهي كالنجوم الدرية تتلألأ بالنور الرباني العظيم في تلك المسافات جميعاً، ما بين السوابق واللواحق والقرائن، بما يجلي للعبد الذاكر جمال الله وجمال المعرفة به، فيعبّد له طريقها سالكة جلية. ولكن كل ذلك إنما يكون على قدر شهود القلب وصفاء البصيرة وصدق الإقبال
على الله عند الدخول في مشاهد الذكر والتلاوة للكتاب.
إن العبد الذي أيقن بمعرفة الله يفيض قلبه بالمحبة، محبة كل شيء، إذ يجد أخوة إيمانية في وجدانه مع كل شيء من الكائنات، عدا من تولّى. فالكل مستغرق في عبادة الله سائر إليه عبر مسالك المحبة
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾
(الإسراء:44).
ولقد جعل الله لنبيه داود معجزةَ كشفٍ لبعض ذلك، فكانت الجبال والطير تسبح بتسبيحه وتدعو بدعائه، في مجالس تفيض بالنور والجمال،
تلتقي على موعد بالغدو والآصال، كما في قوله تعالى:
﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾
(ص:18-19).
إن الكون كله في وجدان المسلم مثل طيور داود عليه السلام، مجالس أنس وذكر تشعره بالأخوة الكبرى في السير إلى الله عبر أفلاك العبودية: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(الأنبياء:21)، فالمعرفة طريق لا تنفد تجلياتها، ولا تنتهي إشراقاتها إلا بلقاء الله، حيث ينكشف
سر السير إلى الله:
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾
(الحجر:99)
، ويرى العبد هناك بعين اليقين حقيقة الوجود الدنيوي من
خلال وجوده الأخروي:
﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾
(ق:22).
إن المعرفة بالله تملأ القلب أنسا بالله، ثم أنسا بالحياة، وأنسا بالكون والكائنات، وأنسا حتى بالموت الذي لن يرى فيه العبد المحب -إذ يقف عليه- إلا موعدا جميلا، للقاء جميل، مع رب جميل. فذلك ذوق الإحسان في قمة المشاهدات الإيمانية.
وإنما
"الإحسان أن تعبد اللهَ كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"
(متفق عليه).
وعليه فإن هذا الإنسان بما هو مخاطب بهذا القرآن أساسا بأبعاده "الأمرية" المذكورة هو إنسان "كوني" بامتياز. فهو لا يسكن الأرض إلا بقدر ما يسكن الكون كلَّه حقيقة. وبما أن البشر شتى خلقا وتقديرا وسعيا وتدبيرا، فقد كان هذا القرآن على نفس تلك السعة والشمول من
الإمكانات المتصورة للنشاط الإنساني في الأرض على الإطلاق. ولذلك جاء جامعا لكل معارج الكتب السماوية السابقة بدون استثناء؛ ففيه معارج إبراهيم ومعارج موسى ومعارج داود ومعارج عيسى ثم فيه معارج أخرى فُضْل تفرد بها القرآن الكريم لم تفتح قبله قط في التاريخ.
وكل ذلك جميعه كان معارج لنبي هذه الأمة الرسول الجامع المانع سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
إن هذا القرآن بعمقه الكوني هذا، المطلق عن الزمان والمكان يحقق أخوة إنسانية كبرى، لا يمكن أن تتحقق على هذا الوزان بسواه؛ لأنه شبكة اتصال وجودية ذات أنسجة أفقية وعمودية، فيها مداخلُ لا حصر لها للإمكانات البشرية.
ولذلك فهو يتيح لكل إنسان مهما كانت ميوله وإمكاناته الطبيعية والفطرية والاجتماعية والثقافية أن يتصل بحقائق الوجود الحق:
﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم * صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾.
(الشورى:52-53)
وبما أن شبكته موئلها -في نهاية المطاف- واحد، فهي تصل في الختم إلى الحق الواحد
﴿أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾
(الشورى:53)،
وهنالك يجد المؤمن لذة التعرف إلى الله جل وعلا.
بناء على ما تقرر من أن غاية الخلق الإلهي للإنسان إنما هي التعرف إلى الله جل علاه، فقد جعل له صلى الله عليه وسلم وسيلة من أعظم الوسائل التعبدية، ألا وهي التعارف. فالإنسان بما هو مفطور خلقة على سنة الاجتماع البشري -إذ خلق من ذكر وأنثى وجعل شعوبا وقبائل- فقد خلقت أرواح الناس لتلك الغاية على ائتلاف واختلاف بقصد إنتاج التكامل المعرفي في طريق السير إلى الله تعالى.
وهذا من أعجب السنن الإلهية في الخلق البشري وألطفها، وهو مفهوم من آية قرآنية وحديث نبوي شريف.
فأما الآية فقوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾
(الحجرات:13).
وأما الحديث فهو قوله عليه الصلاة والسلام:
"الأرواح جنود مُجنَّدة، فما تعارف منها ائْتلف، وما تناكر منها اختلف"
(متفق عليه).
إن التعارف العمراني ضروري للإنسان، ليس فقط لأنه لا يمكن أن يعيش بصورة انفرادية اعتزالية، فهذا أمر بديهي، ولكن ليكون
ذلك مقدمة لإنتاج حوار في المجال الروحي، والتداول المعرفي بحقيقة المعرفة بالله في طريق السير إلى الله.
إن العلاقات الأفقية على المستوى البشري العمراني في شبكة الاتصال المعرفية إذا أتيحت لها ظروف الحوار الهادئ الصادق،
والتعارف البناء الواثق، تفضي في النهاية إلى علاقات عمودية متوازنة ترتفع بالإنسان إلى السماء في طريق معرفة الله، بل في طريق التكامل في تلك المعرفة.
إن هذا القرآن محفوظ بحفظ الله محروس بقدرته جل علاه، كما نص عليه القرآن بآيه المحكم وكما رسخته حقائق التاريخ الطويل.
ومن هنا فإن كل من تعلق بمحفوظ فهو محفوظ بالضرورة.