الحجاب العاري
إن الفتاة التي احتجبت حقا وصدقا، لا تفتنها إغواءات الشيطان، وإغراءات الموضات المتدفقة بالفتن! فلا ترتد على أدبارها لتتحايل على حجابها، بالتشكيل والتجميل؛ مما يفقد اللباس الإسلامي مقصده الشرعي من التستر والتخفي، وحفظ الكرامة والحياء! إن المرأة المؤمنة بالله واليوم الآخر تعبد ربها بلباسها، ولا يقبل الله من العبادة إلا ما كان على شرطين. الأول: أن يكون خالصا له تعالى، والثاني: أن يكون صوابا، أي منضبطا لحدود الله، كما وردت في كتاب الله وسنة رسول اللهe، بلا تبديل ولا تحريف!
إن الفتاة المؤمنة لا تخرج بالبنطلونات والمعاطف القصيرة! والسراويل التي لا يسترها جلباب! وإن الفتاة المؤمنة لا تخرج على الناس بالبذلات الأوروبية، متشبهة بالرجال على طريقة اليهوديات والنصرانيات، ثم تضع على رأسها خرقة لتوهم نفسها أنها متحجبة! وإنما الحجاب عبادة، ولا يعبد الله إلا بما شرع، لا بأهواء الناس وموضاتهم. وإن الفتاة المؤمنة لا تضع خرقة قصيرة فوق رأسها ثم تعري كعابها للناس! ولا خلاف في أن القدم مما يجب على المرأة ستره؛ إلا خلافا ليس له حظ من النظر! ولا صلاة لمن صلت وكعبها عارٍ، كاشفة ظهور قدميها!([1])
وإن الفتاة المؤمنة لا تخرج بالثياب الناعمة المتموجة، التي تلتصق بالجسم، لتكشف عن فتنته عبر كل خطوة وحركة! وإن الفتاة المؤمنة لا تملأ الساحات بالصخب والقهقهات! ولا تمازح الذكور بلا حياء! ولا تزاحم الفتيان بأكتافها وصدورها! وإن الفتاة المؤمنة لا تُخْضِع لباسها الشرعي لموضات الألوان، مما تتفتق عنه عبقرية الشيطان! ولا تقتدي بمحجبات التلفزيون، المتزينات بكل ألوان الطيف! كما يقتضيه ذوق الإخراج والماكياج، ونصائح مهندس الديكور، ومدير التصوير! ذلك (حجاب) ولكن على مقاييس التلفزيون، وشهوة الميكروفون! إنه إذن؛ الحجاب العاري!
وإن الفتاة المؤمنة لا تنتف حاجبيها، ولا تنمقهما بما لم يخلق الله فيها! فذلك هو (النَّمْصُ) الملعون في حديث رسول اللهe! والنَّمْصُ - بتسكين الميم – هو في اللغة: نتف شعر الوجه بالملقط أو المنقاش. والنَّمَصُ بفتحتين، هو في الأصل: الريش الصغير والشعر الرقيق. فكأن المرأة إذ تَنْمِصُ حاجبَها توهم أنها على تلك الصورة طبيعةً وخِلْقَةً. وهو علة التحريم أي تغيير خلق الله، وإظهاره بما ليس فيه. قال رسول اللهe:
(لعن الله الواشمات! والمسْتَوْشِمَاتِ! والنَّامِصَاتِ! والْمُتَنَمِّصَاتِ! والْمُتَفَلِّجَاتِ للحُسْنِ، المغيراتِ خلق الله!)
( وهذا حديث شديد، ووعيد رهيب! لعن فيه رسول اللهe الواشمة: وهي التي تنقش الوشم للنساء، والمستوشمة: وهي التي تطلب ذلك لنفسها، ولعن النامصة: وهي التي تقوم بالنمص للنساء وتنميق حواجبهن! والمتنمصة: هي التي تطلب ذلك لنفسها! وأما المتفلجة: فهي التي تحاول إحداث فلجات بين أسنانها بالمبرد الطبي أو غيره؛ لتحسين منظرها.([3])
والغريب أنه رغم هذا الوعيد الشديد ينتشر النمص بين بعض المتحجبات! اقتداءً بمن لا خلاق لهن من دُمَى التلفزيون! ألا شتان شتان بين الناهضات والعارضات!
وإن ذلك كله لعمري أشبه ما يكون بحيل اليهود مع رب العالمين! إذ حرم عليهم الصيد يوم السبت فوضعوا الشباك مساء الجمعة، ثم جمعوها صباح الأحد! أمع الله رب العالمين يمارس العبد الضعيف لعبة التحيل؟ وهو تعالى
(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)(غافر:19).
وإنما الفتاة المؤمنة هي التي تمر كما تمر الملائكة، ستيرة حيية، تزينها السكينة ويجللها الوقار! فإذا مزحت مزحت بأدب، وإذا جدت كان لجِدِّها قوة الشمس في تبديد الظلام!
وإنما الفتاة المؤمنة هي التي ترفع راية الإسلام بلباسها الشرعي، وخلقها الاجتماعي، فلا تفتنها الأضواء الفاضحة، ولا الدعايات الكاشفة، بل تجاهد في الله من أجل بناء قيم الإسلام في المجتمع من جديد، وتسعى لطلب العلم بدينها، وتعلم شرائع ربها، للعمل بها في نفسها أولا، ثم تعليمها لغيرها؛ دعوة وتربية لأبنائها وعشيرتها وكل محيطها. وإن الفتاة المؤمنة هي التي تعلقت بالله رغبة ورهبة؛ فكانت مثال الصلاح والتقوى والعفاف. ومنار الهداية لجيلها، وللجيل الذي يتربى على يدها.
وإن الفتاة المؤمنة هي التي لا تتحايل على ربها بلباسها؛ فتظهر زينتها من حيث هي تزعم التدين والانتماء لأهل الصلاح، بل الفتاة المؤمنة هي التي تلبس جلبابها الشرعي ثوبا هادئا ساكنا، خاشعا على بدنها. يسترها ولا يفضحها، ويرفعها ولا يضعها، ويكرمها ولا يمسخها! ثم يقربها من ربها ولا يبعدها، ويرفعها في الجنة إلى منازل الصالحين والصالحات، والصديقين والصديقات.
وليس معنى ذلك أن تلبس أرذل الثياب، وألا تهتم بنظافتها، وإصلاحها بالمكواة، كلا! فليس الإسلام أن تتبذل المؤمنة في مظهرها؛ حتى تبدو كالعجوز التي لا يناسبها ثوب البتة! أو كما كان أهل المرقعات من جهال العُبَّاد أو الصعاليك! فتخرج على الناس في مزق من الأثواب، بادية التجاعيد والانكماشات! إن الفتاة المؤمنة لا يريد لها الإسلام أن يكون منظرها بشعا، ولا منفرا، بل يجب أن يكون محترما، يوحي بالجد، ويفرض على الناظرين الإجلال لها، والتقدير والتوقير. وإنما يحرم عليها أن يكون لباسها إغواء، أو إغراء. وذلك حقا هو دور الشيطان!
وأما إن كانت تريد الله والدار الآخرة، وتريد التعبير السيميائي الصادق عن مقاصد التعبد، ورفع راية الانتماء العقدي للإسلام بريش اللباس؛ فإنما يجزئها على العموم جلباب واسع ساتر، هادئ اللون، لا يصف ولا يشف، ولا يخطف الأنظار من بعيد بألوانه وبريقه، كما سيأتي بدليله بحول الله في متن هذه الرسالة. وذلك معنى قول الفقهاء: (ولا يكون زينة في نفسه). وخمار على وزانه وشرطه، هدوءا وسكينة مما ذكرناه، لا تشتعل ألوانه، ولا تخلله صاحبته بذهب، ولا بما يلمع من الحلي والخلالات، ولا تضفر طرفَيْه على جبينها، بصورة الضفيرة من الشعر، كما يفعله بعضهن من تشكيله وتزيينه؛ حتى ليكاد يصرخ في الملأ بمنظره وبريقه: ها أنا ذي انظروني! ولكنه خمارٌ ضافٍ وافٍ، شاسعٌ كافٍ، يضرب على جيوب العنق والنحر، ويغطي هيأة الصدر. ولا تعقده صاحبته على رأسها من جهة القفا؛ بما يظهر هيأة الشعر وحجمه، كما يفعله بعض الجاهلات من المتحجبات! ولا يشترط فيه أن يغطي الوجه. وإن كان ذلك من كمال الورع، كما سيأتي بيانه.
ثم جوارب للقدمين في غير لون الجسم البشري؛ حتى لا توهم العري الجزئي، ولا الرغبة الخفية في إظهار الزينة. وتكون الفتاة المؤمنة بذلك على أكمل ما تكون العفة الظاهرة([4]). وعليها آنئذ أن تجاهد نفسها في الله للرقي بكمالات العفة الباطنة، وإنما الموفقة من وفقها الله.
إن أغلب ما يلبسه كثير من المَوْسُومَات بـ(المتحجبات) في هذا الزمان الرديء؛ لم يكن – في خصائصه العامة - إلا ألبسة داخلية لدى نساء السلف الصالح - كما سترين بدليله بحول الله - فما بالك بالعاريات من المتبرجات والمتمجنات؟
فانظري بنيتي أي هوة تفصل بيننا وبين قيمنا الحقيقية؟
وأحب أن أسجل ههنا أنني كنت - في سياق إعداد مادة هذا الكتاب – أطالع صفحات من كتاب (الحجاب)، الذي ألفه العلامة أبو الأعلى المودودي رحمه الله، وأجزل له الثواب! ذلك الكتاب الرفيع مادةً وتحليلا! فكنت أقرأ ما كتبه رحمه الله، وهو ينعى ما وصلت إليه المرأة المسلمة في البلاد العربية، من دركات الانحطاط الخلقي، مقارنا لها بالمرأة المسلمة في الهند والباكستان. قال رحمه الله في مقدمة الترجمة العربية: (إن حضارة أهل الغرب ومدنيتهم لم تتغلغل في بلادنا، ولم تؤثر في حياتنا؛ مثلما قد تغلغلت في بلاد العرب، وأثرت في حياتهم، في مدة لا تكاد تذكر بالنسبة لامتداد وطأة الاستعمار علينا، وخاصة أن النساء في بلدنا (...) قلما توجد واحدة من ألف امرأة تتبرج في الطرق والأسواق، وتتعرض للرجال، وجسدها مكشوف فوق كعبيها، أو يداها مكشوفتان إلى منكبيها!)().
قرأت هذا وتبسمت مرارة! فهذا مستوى العري الذي نعاه المودودي على المرأة العربية آنذاك، فكيف لو عاش لزماننا هذا؟ بأي لغة يمكنه وصف عري النساء والفتيات اليوم؟
وإنما الحاصل أن البلاد العربية عموما باعتبارها مجال التداول الاجتماعي لكتاب الله وسنة رسولهe، وأقرب إلى فهمهما من غيرها؛ كانت معاول الهدم عليها أشد!
إنني أدعو إلى حركة تصحيحية في مجال المرأة – كما في غيره من المجالات – حركة تنفي عنها تحريف الغَالِين، وانتحال المُبْطِلين، وتأويل الجاهلين! وترتقي بنموذج التدين في النساء المسلمات؛ إلى قمة الإنتاج الرفيع جودةً ووفرةً! على مستوى النفس وعلى مستوى الصورة؛ عسى أن يكون ذلك بدء ميلاد جديد، لجيل النصر القرآني، فقها وتدينا. ذلك الجيل الذي ذكره الله في القرآن الكريم، وأخبر بسيمائه ودلالاتها التعبيرية العظيمة، في التوراة وفي الإنجيل، ثم في القرآن، فقال سبحانه:
(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ. تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا. سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ. ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ. وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)(الفتح:29)
. تلك سيماء جيل النصر، فاقرأ وتدبر!
من هنا إذن؛ وباعتبار هذه الحيثيات وغيرها؛ أسرعت في إخراج هذه الورقات؛ إسهاما مني في إنقاذ الأمة، وضربا في اتجاه إعادة التوازن للعمل الديني، ورغبة في فضح خلفيات الفجور السياسي، في مجال المرأة خاصة، وكشف جذوره الشيطانية، وطبيعته العدوانية، ثم التعاون على بناء النموذج الإسلامي للفتاة المؤمنة، وللجيل الراشد الصالح تبعا بحول الله. فكانت لذلك هذه الورقة تتضمن – بعد هذه المقدمة – مدخلا اصطلاحيا في مفهوم السيماء، وفصلين اثنين: الأول في المرأة وسيماء النفس، ناقشت فيه قضيتين في مبحثين: المبحث الأول في المرأة والنفس الواحدة، والمبحث الثاني في السيماء التربوية لنفسية المرأة. وأما الفصل الثاني فكان في المرأة وسيماء الصورة. ناقشت فيه هو أيضا قضيتين في مبحثين: المبحث الأول حاولت أن أدرس فيه سيماء الصورة في التدافع الحضاري، والمقصود بـ(الصورة) هنا: الشكل الظاهري للمرأة، مما يشكل هيأتها الخارجية، من أمور لباسها وتصرفها الصوري، كلاما وحركة في المجتمع. والمبحث الثاني لخصت فيه التأصيل الفقهي لسيماء الصورة في الإسلام. ثم جمعت خلاصة الورقة كلها في خاتمة قصيرة.
هذا وقد آلينا على أنفسنا في ذلك كله - كما هو معهود منهجنا – أن نستثمر الخطاب القرآني أولا؛ لتعبير (سيمياء) المرأة وكشف دلالته. فالقرآن هو مصدر تعبير الرموز السيميائية في الإسلام؛ إذ هو مرتكز الرسالة الإلهية وأساس مقاصدها، وأن نشفعه بالبيانات السنية المكيفة للنموذج البشري على وفقه. فإنما (كان خلقهeالقرآن)([6])، وألا نورد لذلك من الحديث إلا ما صح سنده، فلا نبني حكما شرعيا على حديث ضعيف؛ بله أن يكون موضوعا. والله المستعان.
وكتبه عبد ربه راجي عفوه وغفرانه، الفقير إلى رحمته ورضوانه: فريد بن الحسن الأنصاري الخزرجي السجلماسي، غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين. وقد وافق تمام تبييضه وتصحيحه - بمكناسة الزيتون، من حواضر المغرب الأقصى – ليلة الجمعة 24 من شهر رمضان المعظم، لعام: 1423هـ/ 29/11/2002م.
روى مالك رحمه الله في موطئه أن امرأة (سألت أم سلمة زوج النبيe: ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب؟ فقالت تصلي في الخمار والدرع السابغ إذا غيب ظهور قدميها) الموطأ: 1/142 ورواه أيضا أبو داود والبيهقي والدارقطني وعبد الرزاق في مصنفه. وروى مالك مثل ذلك عن عائشة وميمونة في الموطأ أيضا.
وقال ابن عبد البر في التمهيد:
(وقد أجمعوا أنه من صلى مستور العورة فلا إعادة عليه. وإن كانت امرأة فكل ثوب يغيب ظهور قدميها ويستر جميع جسدها وشعرها فجائز لها الصلاة فيه؛ لأنها كلها عورة إلا الوجه والكفين. على هذا أكثر أهل العلم) التمهيد:6/364.
متفق عليه
ولا يدخل فيه طبعا عملية تقويم الاعوجاج للأسنان، أو لأي عضو من الأعضاء به عيب معلوم. فذلك تطبيب مشروع وعلاج مأذون، وليس تغييرا لخلق الله.
انظري ذلك مفصلا بأدلته في المبحث الثاني من الفصل الثاني (التأصيل الفقهي لسيماء الصورة في الإسلام).
الحجاب للمودودي: 6.
رواه مسلم