الحكمة من إخفاء ليلة القدر؟
أخرج البخاري من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال:
((خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)).
وفي بعض روايات الحديث: ((فالتمسوها في العشر الأواخر))
فدلَّ الحديث على أن المخاصمة كانت سببًا لنسيان وقتها.
• ومعنى تلاحى: تشاجر.
وجاء في صحيح مسلم عن أبى هريرة - رضي الله عنه -
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
(( أُريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها)).
قال الحافظ - رحمه الله - في "فتح الباري" (4/ 268):
وهذا سبب آخر، فإما أن يحمل على التعدد بأن تكون الرؤية في حديث أبى هريرة منامًا؛ فيكون سبب النسيان الإيقاظ، وأن تكون الرؤية في حديث غيره في اليقظة فيكون سبب النسيان ما ذكر من المخاصمة.
أو يحمل على اتِّحاد القصة، ويكون النسيان وقع مرتين عن سببين، ويحمل أن يكون المعنى: أن أيقظني بعض أهلي فسمعت تلاحي الرجلين، فقمت لأحجز بينهما فنسيتها للاشتغال بهما. اهـ.
وقال - رحمه الله - في "فتح الباري" (4/ 315).
قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها. اهـ.
وقال الفخر الرازي في تفسيره "التفسير الكبير": أنه تعالى أخفى هذه الليلة لوجوه:
أحدها: أنه تعالى أخفاها كما أخفى سائر الأشياء، فإنه أخفى رضاه في الطاعات حتى يرغبوا في الكل، وأخفى غضبه في المعاصي ليحترزوا عن الكل، وأخفى وليَّه فيما بين الناس حتى يعظموا الكل، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء، وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف... فكذا أخفى هذه الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان.
وثانيها: كأنه تعالى يقول: لو عينت ليلة القدر وأنا أعلم بتجاسركم على المعصية، فربما دعتك الشهوة في تلك الليلة إلى المعصية فوقعت في الذنب، فكانت معصيتك مع علمك أشد من معصيتك لا مع علمك؛ فلهذا السبب أخفيتها عليك.
روى أنه - عليه الصلاة والسلام -: دخل المسجد فرأى نائمًا، فقال:
((يا عليُّ نبهه ليتوضأ، فأيقظه عليُّ، ثم قال عليُّ: يا رسول الله إنك سبَّاق إلى الخيرات، فَلِمَ لم تنبِّهُه؟ قال: لأن ردَّه عليك ليس بكفر، ففعلت ذلك لتخفَّ جنايته لو أبى)).
فإذا كانت هذه رحمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكيف برحمة الله تعالى.
فكأنه تعالى يقول: إذا علمتَ ليلة القدر؛ فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر، وإن عصيت فيها اكتسبت عقاب ألف شهر، ودفع العقاب أولى من جلب الثواب.
وثالثها: أنى أخفيت هذه الليلة حتى يجتهد المكلف في طلبها حتى يكتسب ثواب الاجتهاد
ورابعها: أن العبد إذا لم يتيقَّن ليلة القدر إنه يجتهد بالطاعة في جميع ليالي رمضان، على رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليله القدر؛ فيباهي الله تعالى بهم ملائكته، ويقول: كنتم تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء، فهذا جدَّه واجتهاده في الليلة المظنونة، فكيف لو جعلتها معلومة له؛ فحينئذ يظهر سر
قوله تعالى:
﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾
[البقرة: 30].
وفى الحقيقة أنه على الإنسان أن يهتم بما طلبه الله منه وهو العبادة في ذلك الشهر عامة، والمزيد منها في العشر الأواخر خاصة، ولا يشغل نفسه بما طواه الله عنه، فما كان الله ليخفي عنا شيئًا ثم يطالبنا بإفراغ الوقت في تحديده.
فالله تعالى أخفى عنا تحديدها، فما ذلك إلا من أجل الاجتهاد في العبادة طوال الشهر عامة، وفي العشر الأواخر خاصة، فالعاقل هو الذي يشتغل بما طُلِبَ منه، ولا يصرف وقته فيما طوي عنه، ويضع نصب عينيه دائمًا ، مَن لم يُغْفَر له في رمضان فمتى؟.