الخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها
الأمر السادس: فهو أن تفرغ قلبك لها، وأن تؤثرها على ما سواها مع مجانبة الصوارف و الشواغل التي تؤثر في القلب: وقد ذكر هذا المعنى الحافظ ابن كثير رحمه الله في[ تفسيره 5/456] حيث قال: 'والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، حينئذ تكون راحة له وقرة عين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد والنسائي عن أنس رضي الله عنه عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
[ حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ]'
وكان محمد بن المنكدر رحمه الله:' يقول أني لأدخل في الليل، فيهولني، فينقضي، وما قضيت منه أربي ' يقول: أدخل في الليل لأصلي صلاة الليل، فأشرع فيها، فينقضي الليل بأجمعه ولم أشبع، ولم أقض نهمة نفسي، وذلك لاستغراقه في هذه الصلاة، وقد قال سعد بن معاذ رضي الله عنه:' فيّ ثلاث خصال لو كنت في سائر الأحوال أكون فيهن لكنت أنا أنا: إذا كنت في الصلاة لا أحدث نفسي بغير ما أنا فيه، و إذا سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع في قلبي ريب فيه، وإذا كنت في جنازة لا أحدث نفسي بغير ما تقول أو يقال لها' . يعني من الحساب .
وقد قالوا لعامر بن عبد القيس، أتحدث نفسك في الصلاة؟ قال:' أو شيء أحب إلي من الصلاة أحدث به نفسي؟' قالوا: إنا لنحدث أنفسنا في الصلاة !! قال: أبالجنة والحور؟ قالوا: لا، بأهلينا وأموالنا . فقال:' لئن تختلف الأسنة فيّ أحب إلي' أي من أن أحدث نفسي، يعني بشيء من حطام الدنيا وأنا في هذه الصلاة !! وهذا عامر بن عبد القيس قيل له: أما تسهو في صلاتك؟ قال: أو حديث أحب إلى من القرآن أنشغل فيه؟ هيهات .. مناجاة الحبيب تستغرق الإحساس. بعضنا ربما يكون إماماً ويسجد للسهو في اليوم مراراً !! وقد اشتكى بعض الناس من إمام لهم يسهو في اليوم الواحد في ثلاثة فروض هذه التي يسجد فيها للسهو!! فأين القلب؟ هذا قلبه مشغول.
فينبغي للعبد أن يفرغ قلبه .. فالمرأة- مثلاً- إذا جاءت إلى الصلاة لا تجعل شيئاً على النار تحتاج إلى مراقبته عن قريب، و إذا كان لديها طفل، فإنها تشغله في مكان آمن لئلا ينشغل قلبها عليه، ولا تحتاج أن تتجوز في صلاتها من أجل ملاحظة هذا الطفل، كما أنها لا تجعله بجانبها لكي لا يشوش عليها .. وكذلك من كان في انتظار مكالمة مهمة أو نحو ذلك، أو عنده بعض المكالمات، وهو يريد أن يصلي الليل مثلاً، أو يتطوع، فإنه ينتهي من هذه المكالمات، وهكذا في الفريضة يُبكر قبل الأذان، ويقضي حوائجه، ويفرغ من هذه الأمور المقلقة له، ثم يدخل في الصلاة وهو فارغ القلب لا يحدث نفسه بشيء سواها .. وهذا الحسن رحمه الله يقول: إذا قمت إلى الصلاة قانتاً فقم كما أمرك الله، و إياك والسهو والالتفات، إياك أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره،وتسأل ربك الجنة وتعوذ به من النار وقلبك ساه لا تدري ما تقول بلسانك، الله ينظر إليك، ولربما كنت تفكر في بعض الأمور المحرمة، ولربما نظر الله إليك وأنت تفكر في أمور حقيرة، فربما كان الواحد يصلح شيئاً تافهاً في بيته، لربما كان يصلح مسلاة لصبي، ثم يقوم يصلي وقلبه مشغول بإصلاحها، والله ينظر إليه ويطلع عليه، فهذا لا يليق في أي حال من الأحوال، فينبغي التفطن لهذه المعاني.
وللأسف نحن عندما كنا نعيش بعيدا عن هذه الأحوال أصبحنا نستغرب منها، ولقد حدثني جماعة من الناس عن رجل من المعاصرين- وهو من العوام وليس من طلبة العلم ولا من العلماء- أنه إذا قام يصلي فإن أهله أو من بجانبه يحتاجون إلى تنبيهه إذا قرب وقت الأذان من أجل أن يوجز في صلاته؛ لأنه يستغرق في صلاته، وينسى كل شيء . كان هذا الرجل يتطوع بعد صلاة العشاء في المسجد النبوي، وكان بعض الحراس يعرفونه، وهو رجل يسكن المدينة من عشرات السنين، فكان إذا قرب وقت إغلاق الأبواب بعد صلاة العشاء بمدة معلومة يأتون إليه قبل ذلك بنحو عشر دقائق وينبهونه من أجل أن يتفطن، من أجل أن يُجوٌز في صلاته. و امرأته كانت تأتيه قبيل الأذان الأول وهو يصلي فتنبهه من أجل أن يجوز فيخرج إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تفتح أبوابه من الأذان الأول .. حدثني عن هذا بعض جيرانه، وبعض من عرفه منذ زمن طويل، وحدثني عن هذا ابنه بعد أن مات -رحمه الله - . هذا مثال واقعي ' رجل من العوام يحصل له هذا الاستغراق والخشوع '
والأمر السابع مما يورث الخشوع هو تدبر القرآن: يقول ابن جرير الطبري رحمه الله: عجبت لمن يقرأ القرآن ولا يعرف معانيه كيف يتلذذ بقراءته؟ وجرب هذا في نفسك، اقرأ تفسير بعض الآيات، ثم اسمعها في الصلاة كيف تجد الفرق؟ بل وربما تكلم الإمام أو تكلم غيره في صلاة التراويح عن تفسير بعض الآيات فإذا قرئت؛ رأيت فرقاً شاسعاً بينها وبين غيرها من الآيات التي لم تُفسر، وهذا شيء مشاهد . فمعرفة معاني القرآن تجعل القلب يستغرق في تدبره والتفكر في معانية، حتى أن القلب يخشع عند ذلك، بل لربما خشع الإنسان عند تسميع القرآن، يسمع لغيره قد لا يتحمل، وكان أبو بكر رضي الله عنه قريب الدمعة، كثير البكاء، لا يتمالك نفسه إذا صلى، ولذلك لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أن يصلى أبو بكر بالناس اعتذرت عنه عائشة رضي الله عنها بأنه رجل رقيق لا يتمالك إذا صلى وقرأ القرآن فإنه يبكي.