الخلوة وأثرها في عبادات السّرّ
الخلوة أو العزلة: انحباس للنفس بعيدا عن مخالطة النّاس، وذلك لمراجعة النّفس والوقوف على أخطائها، أو التفكر في ملكوت السموات والأرض وتمجيد باريها، أو الزيادة في العبادات والتلذذ بالمناجاة، وقد جاءت في ذلك أقوال عدّة عن السلف،منها: قول عمر رضي الله عنه: "خذوا بحظِّكم من العزلة"، وقال "((العزلة راحة من خلاط السّوء" ، وقول أبي الدرداء – رضي الله عنه: ((نِعْمَ صومعة الرجل بيته يكفّ فيها بصره ولسانه، وإيّاكم والسّوق فإنّها تُلهي وتُلغِي))، وقول ابن المسيب: (العزلة عبادة وذكر)، وقول مسروق: (إنّ المرء لحقيق أن تكون له مجالس يخلو فيها يذكر فيها ذنوبه فيستغفر منها "، وقال ابن تيمية:لابدَّ للعبدِ من عزلةٍ لعبادتِه وذكرِه وتلاوتِه، ومحاسبتِه لنفسِه، ودعائِه واستغفارِه، وبُعدِه عن الشرِّ، ونحوِ ذلك"؛ ولقد عقد ابنُ الجوزي ثلاثة فصولٍ في (صيْدِ الخاطرِ)، ملخَّصها أنه قال: ما سمعتُ ولا رأيتُ كالعزلة، راحةً وعزّاً وشرفاً، وبُعداً عن السّوءِ وعن الشّرِّ، وصوْناً للجاهِ والوقتِ، وحِفظاً للعمرِ، وبعداً عن الحسَّادِ والثّقلاءِ والشَّامتين، وتفكُّراً في الآخرةِ، واستعداداً للقاءِ اللهِ عزَّ وجلَّ، واغتناماً في الطّاعةِ، وجولان الفكر فيما ينفعُ، وإخراج كنوزِ الحِكَمِ، والاستنباط من النّصوصِ".
وليس المراد من الحثّ على اتخّاذ خلوات للتّعبد، الحثُّ على العزلة المطلقة عن الناس، إذ ذاك أمر تأباه نصوص الشّرع وقواعده، والحقّ أنّ من العزلة ما هو مشروع، ومنها ما هو ممنوع.
فالعزلة المشروعة ما كان مأموراً بها أمرَ إيجاب كاعتزال الأمور المحرّمة وترك مخالطة من يخوض في آيات الله - عز وجلّ - حتى يخوض في حديث غيره، أو عزلة استحباب كاعتزال النّاس في فضول المباحات وما لا ينفع في الآخرة، والاختلاء الوقتي بالنّفس للمحاسبة والتّأمل والصّلاة، والقراءة والدّعاء والاعتكاف ونحو ذلك.
والعزلة غير المشروعة ما أدَّت إلى إضاعة حقّ الله تعالى، أو النّفس أو الخلق كإضاعة الجُمَع والجماعات، وجهل ما يجب علمه، وعدم تعاونٍ على البر والتقوى، وتضييعٍ لحق الأهل والوالد والولد، وترك كسب ما يحتاج إليه العبد من نفقة، ونحو ذلك ".
قال بكر أبوزيد رحمه الله تعالى: " وَمِن لطيفِ ما يُقَيَّدُ قَولُ بعضِهِم:
"العُزلةُ من غيرِ عينِ العلم: زَلَّة، ومنِ غير زاي الزُّهد: عِلَّة".بمعنى أن من أراد العزلة فعليه بالعلم والزهد، وإلا فلا يتعنّى.
وقد كان عبد الله بن عبد العزيز العمريّ الزّاهد لا يجالس النّاس، وينزل مقبرة من المقابر، وكان لا يكاد يُرى إلاّ ومعه كتاب يقرؤه، فسئل عن ذلك، وعن نزوله المقبرة فقال: لم أر أوعظ من قبر، ولا أمتع من كتاب، ولا أسلم من الوحدة، فقيل له:قد جاء في الوحدة ما جاء! فقال: ما أفسدها للجاهل، وأصلحها للعاقل !.