الدرجة الثالثة من درجات الفقر
الدرجة الثالثة من درجات الفقر
قوله: "والدرجة الثالثة صحة الاضطرار، والوقوع فى يد التقطع الوحدانى، والاحتباس فى بدء قيد التجريد، وهذا فقر الصوفية". وهذه الدرجة فوق الدرجتين السابقتين عند أَرباب السلوك، وهى الغاية التى شمروا إِليها وحاموا حولها، فإِن الفقر الأَول فقر عن الأَعراض الدنيوية، والفقر الثانى فقر عن رؤية المقامات والأَقوال، وهذا الفقر الثالث فقر عن ملاحظة الموجود الساتر للعبد عن مشاهدة الوجود، فيبقى الوجود الحارث فى قبضة الحق عز وجل الهباء المنثور فى الهواءِ، يتقلب بتقليبه إِياه، ويسير فى شاهد العبد كما هو فى الخارج، فتمحو رؤية التوحيد عن العبد شواهد استبداده واستقلاله بأَمر من الأُمور، ولو فى النفس واللمحة والطرفة والهمة والخاطر والوسوسة، إِلا بإِرادة المريد الحق سبحانه وتدبيره وتقديره ومشيئته، فيبقى العبد كالكرة الملقاة بين صولجانات القضاءِ والقدر، تقلبها كيف شاءَت بصحة شهادة قيومية من له الخلق والأَمر وتفرده بذلك دون ما سواه. وهذا الأَمر لا يدرك بمجرد العلم، ولا يعرفه إِلا من تحقق به أَولاح له منه بارق، وربما ذهل صاحب هذا المشهد عن الشعور بوجوده لغلبة شهود وجود القيوم عليه، فهناك يصح من مثل هذا العبد الاضطرار إِلى الحى القيوم، وشهد فى كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فقراً تاماً إِليه من جهة كونه رباً ومن جهة كونه إلهاً معبوداً لا غنى له عنه كما لا وجود له بغيره. فهذا هو الفقر الأَعلى الذى دارت عليه رحى القوم، بل هو قطب تلك الرحى.
وإِنما يصح له هذا بمعرفتين لا بد منهما: معرفة حقيقة الربوبية والإلَهية، ومعرفة حقيقة النفس والعبودية، فهنالك تتم له معرفة هذا الفقر، فإِن أعطى هاتين المعرفتين حقهما من العبودية اتصف بهذا الفقر حالاً، فما أَغناه حينئذ من فقير، وما أَعزه من ذليل، وما أَقواه من ضعيف، وما آنسه من وحيد. فهو الغنى بلا مال القوى بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفى بلا عتاد. قد قرت عينه بالله [فقرت به كل عين، واستغنى بالله] فافتقر إِليه الأَغنياءُ والملوك. ولا يتم له ذلك إِلا بالبراءَة من فرث الجبر ودمه فإِنه إِن طرق باب الجبر انحل عنه نظام العبودية، وخلع ربقة الإِسلام من عنقه وشهد أَفعاله كلها طاعات للحكم القدرى الكونى وأَنشد:
أَصبحت منفعلاً لما يختاره منى، ففعلى كله طاعات
وإِذ قيل له: اتق الله ولا تعصه، يقول: إِن كنت عاصياً لأَمره، فأَنا مطيع لحكمه وإِرادته َ، فهذا منسلخ من الشرائع، بريء من دعوة الرسل، شقيق لعدو الله إِبليس بل وظيفة الفقير فى هذا [الموضع]، وفى هذه الضرورة مشاهدة الأَمر والشرع، ورؤية قيامه بالأَفعال وصدورها منه كسباً واختياراً، وتعلق الأَمر والنهى بها طلباً وتركاً، وترتب الذم والمدح عليها شرعاً وعقلاً، وتعلق الثواب والعقاب بها آجلاً وعاجلاً، فمتى اجتمع له هذا الشهود الصحيح إِلى [شهود] الاضطرار فى حركاته وسكناته، والفاقة التامة إِلى مقلب القلوب ومن بيده أَزمة الاختيار ومن إِذَا شاءَ شيئاً وجب وجوده، وإِذا لم يشأْ امتنع وجوده، وأَنه لا هادى لمن أضله ولا مضل لمن هداه وأنه هو الذى يحرك [القلوب بالإرادات والجوارح بالأعمال وأنها مدبرة تحت] تسخيره مذللة تحت قهره، وأنها أعجز وأضعف من أَن تتحرك بدون [مشيئته، وأن] مشيئته نافذة فيها كما هى نافذة فى حركات الأفلاك والمياه والأَشجار وأَنه حرك كلا منها بسبب اقتضى تحريكه وهو خالق السبب المقتضى وخالق السبب خالق للمسبب، فخالق الإِرادة الحازمة التى هى سبب الحركة والفعل الاختيارى خالق لهما، وحدوث الإِرادة بلا خالق محدث محال، وحدوثها بالعبد بلا إِرادة منه محال، وإِن كان [بإرادته] فإِرادته للإِرادة كذلك ويستحيل بها التسلسل، فلا بد من فاعل أوجد تلك الإرادة التى هى سبب الفعل، فهنا يتحقق الفقر والفاقة والضرورة التامة إِلى مالك الإِرادات ورب القلوب ومصرفها كيف شاءَ، فما شاءَ أَن يزيغه منها أَزاغه، وما شاءَ أَن يقيمه منها أَقامه: {رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لّدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ} [آل عمران: 8]، فهذا هو الفقر الصحيح المطابق للعقل والفطرة والشرع، ومن خرج عنه وانحرف إِلى أَحد الطرفين زاغ قلبه عن الهدى، وعطل مالك الملك الحق وانفراده بالتصرف والربوبية عن أَوامره وشرعه وثوابه وعقابه.
وحكم هذا الفقير المضطر إِلى خالقه فى كل طرفة عين وكل نَفَس أَنه إِن حرك بطاعة أَو نعمة شكرها وقال: هذا من فضل الله ومنَّه وجوده فله الحمد. وإِن حرك بمباديء معصيته صرخ ولجأَ واستغاث وقال: "أَعوذ بك منك، يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك يا مصرف القلوب صرف قلبى على طاعتك"، فإن تم تحريكه بالمعصية التجأَ التجاءَ أَسير قد أسره عدوه وهو يعلم أَنه لا خلاص له من أَسره إِلا بأَن يفكُّه سيده من الأَسر، ففكاكه فى يد سيده ليس فى يده منه شيء البتة، ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فهو فى أَسر العدو ناظر إِلى سيده وهو قادر [على تخليصه]، قد اشتدت ضرورته إِليه، وصار اعتماده كله عليه. قال سهل: إِنما يكون الالتجاءُ، على معرفة الابتلاء، يعنى وعلى قدر الابتلاءِ تكون المعرفة بالمبتلى ومن عرف قوله صلى الله عليه وسلم: "وأَعُوذ بك منك"، وقام بهذه المعرفة شهوداً وذوقاً، وأَعطاها حقها من العبودية، فهو الفقير حقاً، ومدار الفقر الصحيح على هذه الكلمة، فمن [زرق] فهم سر هذا [فهم سر] الفقر المحمدى، فهو سبحانه الذى ينجى من قضائه بقضائه، وهو الذى يعيذ بنفسه من نفسه، وهو الذى يدفع ما منه بمامنه، فالخلق كله له، والأَمر كله له والحكم كله له، وما شاءَ كان وما لم يشأْ لم يكن، وما شاءَ لم يستطع أَن يصرفه إِلا مشيئته، وما لم يشأْ لم يمكن أَن يجلبه إِلا مشيئته، فلا يأتى بالحسنات إِلا هو، ولا يذهب بالسيئات إِلا هو، ولا يهدى لأَحسن الأَعمال والأَخلاق إِلا هو، ولا يصرف سيئها إِلا هو: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]، والتحقق بمعرفة هذا يوجب صحة الاضطرار وكمال الفقر والفاقة، ويحول بين العبد وبين رؤية أَعماله وأَحواله والاستغناءِ بها والخروج عن رفقة العبودية إِلى دعوى ما ليس له.
وكيف يدعى مع الله حالاً أَو ملكة أَو مقاماً من قلبه وإِرادته وحركاته الظاهرة والباطنة بيد ربه ومليكة لا يملك هو منها شيئاً، وإِنما هى بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاءُ فالإِيمان بهذا والتحقق به نظام التوحيد، ومتى من القلب انحل نظام التوحيد، فسبحان من لا يوصل إِليه إِلا به. ولا يطاع إِلا بمشيئته، ولا ينال ما عنده من الكرامة إِلا بطاعته ولا سبيل إِلى طاعته إِلا بتوفيقه ومعونته فعاد الأَمر كله إِليه كما ابتدأَ الأَمر كله منه، فهو الأَول والآخر وأن إِلى ربك المنتهى.
ومن وصل إِلى هذا الحال وقع فى يد التقطع والتجريد، وأَشرف على مقام التوحيد الخاص، فإِن التوحيد نوعان: عام وخاص، كما أَن الصلاة نوعان، والذكر نوعان، وسائر القرب كذلك خاصية وعامية، فالخاصية ما بذل فيها العامل نصحه وقصده بحيث يوقعها على أَحسن الوجوه وأكملها، والعامية ما لم يكن كذلك. فالمسلمون كلهم مشتركون فى إِتيانهم بشهادة أن لا إِله إِلا الله، وتفاوتهم فى معرفتهم بمضمون هذه الشهادة وقيامهم باطناً وظاهراً أَمر لا يحصيه إِلا الله عَزَّ وجَلَّ، وقد ظن كثير من الصوفية أَن التوحيد الخاص أَن يشهد العبد المحرك له ويغيب عن المتحرك وعن الحركة فيغيب بشهوده عن حركته، ويشهد نفسه شبحاً فانياً يجرى على تصاريف المشيئة، كمن غرق فى البحر فأَمواجه ترفعه طوراً وتخفضه طوراً، فهو غائب بها عن ملاحظة حركته فى نفسه، بل قد اندرجت حركته فى ضمن حركة الموج وكأَنه لا حركة له بالحقيقة، وهذا وإِن ظنه كثير من القوم غاية، وظنه بعضهم لازماً من لوازم التوحيد فالصواب أَن من ورائه ما هو أَجل منه، وغاية هذا الفناءِ فى توحيد الربوبية، وهو أَن لا يشهد رباً وخالقاً ومدبراً إِلا الله، وهذا هو الحق، ولكن توحيد الربوبية وحده لا يكفى فى النجاة فضلاً عن أَن يكون شهوده والفناءُ فيه هو غاية الموحدين ونهاية مطلبهم، فالغاية التى لا غاية وراءَها ولا نهاية بعدها الفناءُ فى توحيد الإلهية وهو أَن يفنى بمحبة ربه عن محبة كل ما سواه، وبتأَلهه عن تأَله ما سواه، وبالشوق إِليه وإِلى لقائه عن الشوق إِلى ما سواه، وبالذل [والفقر] له والفقر إِليه من جهة كونه معبوده وإِلهه ومحبوبه عن الذل إِلى كل ما سواه، وكذلك يفنى بخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه، فيرى أَنه ليس فى الوجود ما يصلح له ذلك إِلا الله، ثم يتصف بذلك حاله وينصبغ به قلبه صبغة ثم يفنى بذلك عما سواه، فهذا هو التوحيد الخاص الذى شمر إِليه العارفون، والورد الصافى الذى حام حوله المحبون، ومتى وصل إليه العبد صار فى يد التقطع والتجريد، واشتمل بلباس الفقر الحقيقى، وفرق حب الله من قلبه كل محبة وخوفه كل خوف ورجاؤه كل رجاءٍ، فصار حبه وخوفه ورجاؤه وذله وإِيثاره وإِرادته ومعاملته كل ذلك واحد لواحد، فلم ينقسم طلبه ولا مطلوبه، فتعددُ المطلوب وانقسامه قادح فى التوحيد والإِخلاص، وانقسام الطلب قادح فى الصدق والإِرادة، فلا بد من توحيد الطلب والإِرادة وتوحيد المطلوب المراد، فإِذا غاب بمحبوبه عن حب غيره وبمذكوره عن ذكر غيره وبمأَلوهه عن تأَله غيره صار من أَهل التوحيد الخاص، وصاحبه مجرد عن ملاحظة سوى محبوبه أَو إِيثاره أَو معاملته أَو خوفه أَو رجائه.
وصاحب توحيد [الربوبية] فى قيد التجريد عن ملاحظة فاعل غير الله وهو مجرد عن ملاحظة وجوده، وهو كما كان صاحب الدرجة الأُولى مجرداً عن أَمواله وصاحب الثانية مجرداً عن أَعماله وأَحواله، فصاحب الفناء فى توحيد الإِلهية مجرد عن سوه [مراضى محبوبه وأوامره قد فنى بحبه وابتغاء مرضاته عن] حب غيره وابتغاءِ مرضاته. وهذا هو التجريد الذى سمت إِليه همم السالكين، فمن تجرد عن ماله وحاله وكسبه وعمله ثم تجرد عن شهود تجريده فهو المجرد عندهم حقاً، وهذا تجريد القوم الذى عليه يحومون، وإِياه يقصدون، ونهايته عندهم التجريد بفناءِ وجوده، وبقاؤه بموجوده، بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، ولا غاية عندهم وراء هذا. ولعمر الله إِن وراءَه [تجريداً] أَكمل منه، ونسبته إِليه كفتلة فى بحر وشعرة فى [ظهر] بعير، وهو تجريد الحب والإِرادة عن الشوائب والعلل والحظوظ، فيتوحد حبه كما توحد محبوبه، ويتجرد عن مراده من محبوبه [بمراد محبوبه] منه، بل يبقى مراد محبوبه هو من نفس مراده، وهنا يعقل الاتحاد الصحيح وهو اتحاد المراد، فيكون عين مراد المحبوب هو عين مراد المحب، وهذا هو غاية الموافقة وكمال العبودية، ولا تتجرد المحبة عن العلل والحظوظ التى تفسدها إِلا بهذا. فالفرق بين محبة حظك ومرادك من المحبوب وأَنك إِنما تحبه لذلك وبين محبة مراد المحبوب منك ومحبتك له لذاته أَنه أَهل أَن يحب. وأَما الاتحاد فى الإِرادة فمحال كما أَن الاتحاد فى المريد محال، فالإِرادتان متباينتان. وأَما مراد المحب والمحبوب إِذا خلصت المحبة من العلل والحظوظ فواحد.
فالفقر والتجريد والفناء من واد واحد. وقد جعله صاحب "منازل السائرين" من قسم النهايات، وحدَّه بأَنه الانخلاع [من] شهود الشواهد، وجعله على ثلاث درجات: الدرجة الأُولى تجريد الكشف عن كسب اليقين، والثانية تجريد عين الجمع عن درك العلم، والثالثة تجريد الخلاص من شهود التصريح.
فقوله فى الأُولى: "تجريد الكشف عن كسب اليقين" يريد كشف الإِيمان ومكافحته للقلب، وهذا وإِن حصل باكتساب اليقين من أَدلته وبراهينه، فالتجريد أَن يشهد سبق الله تعالى بمنته لكل سبب ينال به اليقين أَو الإِيمان، فيجرد كشفه لذلك عن ملاحظة سبب أَو وسيلة، بل يقطع الأَسباب والوسائل وينتهى نظره إِلى المسبب، وهذه إِن أُريد تجريدها عن كونها أسباباً فتجريد باطل، وصاحبه ضال وإن أريد تجريدها عن الوقوف عندها ورؤية انتسابها إِليه وصيرورتها عنوان اليقين إِنما كان به وحده، فهذا تجريد صحيح ولكن على صاحبه إِثبات الأَسباب، فإِن نفاها عن كونها أسباباً فسد تجريده.
وقوله فى الدرجة الثانية: "تجريد عين الجمع عن درك العلم" لما كانت الدرجة الأُولى تجريداً عن الكسب وانتهاءً إِلى عين الجمع الذى هو الغيبة بتفرد الرب بالحكم عن إِثبات وسيلة أَو سبب، اقتضت تجريداً آخر أَكمل من الأَول وهو تجريد هذا الجمع عن علم العبد به. فالأُولى تجريد عن رؤية السبب والفعل، والثانية تجريد عن العلم والإِدراك وهذا يقتضى أيضاً تجريداً ثالثاً أكمل من الثانى وهو تجريد التخلص من شهود التجريد، وصاحب هذا التجريد الثالث فى عين الجمع قد اجتمعت همته على الحق، وشغل به عن ملاحظة جمعه وذكره وعلمه به، قد استغرق ذلك قلبه، فلا سعة فيه لشهود علمه بتجريده ولا شعوره به، فلا التفات له إِلى تجريده، ولو بقى له التفات إِليه لم يكمل تجريده. ووراءُ هذا كله تجريد نسبة هذا التجريد إِليه كشعرة من ظهر بعير إِلى جملته، وهو تجريد الحب والإِرادة عن تعلقه بالسوى، وتجريده عن العلل والشوائب والحظوظ التى هى مراد النفس، فيتجرد الطلب والحب عن كل تعلق يخالف مراد المحبوب، فهذا تجريد الحنيفية. والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إِلا به.