السلف و الخشوع :الجزء الثاني
وأما ابن المبارك الذي عرفتم توبته فكان يوصف خشوعه بأوصاف عجيبة، كان إذا قرأ في كتابه الزهد والرقائق كأنه بقرة منحورة من كثرة البكاء،
وكذا كان الفضيل في خشوعه . جاء ناس إلى الفضيل بن عياض، واستأذنوا عليه عند بابه، فلم يؤذن لهم، فقال قائل: إنه لا يخرج إليك إلا إذا سمع القرآن، فكان معهم رجل مؤذن حسن الصوت، فقال له اقرأ:
"أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ[1]"
[سورة التكاثر]
فقرأ ورفع بها صوته، فأشرف عليهم الفضيل، وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع، ومعه خرقه ينشف بها الدموع من عينيه ويقول:
بلغت الثمانين أو جُزتها فماذا أُؤمل أو أنتـظر
أتاني ثمانون من مولدي وبعد الثمانين ما يُنتظر
علتني السنين فأبلينــني
ثم انقطع وخنقته العبرة، فقال لهم رجل أنا أكمل لكم البيت:
علتني السنون فأبليننــي فَرقت عظامي وكل البصر
:
" أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ...[16]"
[سورة الحديد]
يقول الحسن البصري رحمه الله:'إن المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله صدقوا بها، وأفضى يقينها إلى قلوبهم، وخشعت لله قلوبهم وأبدانهم وأبصارهم، وكنت والله إذا رأيتهم رأيت قوماً كأنهم رأى عين- يعني: للجنة والنار- فوالله ما كانوا بأهل جدل ولا باطل، ولا اطمأنوا إلا إلى كتاب الله، وما أظهروا ما ليس في قلوبهم، ولكن جاءهم عن الله أمر؛ فصدقوا به، فنعتهم الله في القرآن بأحسن نعت فقال:
" وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا[63] "
[سورة الفرقان]
. قال: حلماء لا يجهلون، وإذا جُهل عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهاراً بما يسمعون، ثم ذكر ليلهم خير ليل فقال:
"وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا[64]"
[سورة الفرقان]
تجري دموعهم على خدودهم؛ خوفاً من ربهم. فقال:'لأمر ما سهروا ليلهم، لأمر ما خشعوا نهارهم . ثم قرأ:
"وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا[65]"
[سورة الفرقان] .
قال: كل شيء يصيب ابن آدم، ثم يزول عنه فليس بغرام، إنما الغرام الملازم له ما دامت السماوات والأرض قال: صدق القوم والله الذي لا إله إلا هو، فعلموا وأنتم تمنون، فإياكم وهذه الأماني؛ فإن الله لم يعط عبداً بأمنيته خيراً قط في الدنيا والآخرة، وكان يقول:' يالها من موعظة لو وافقت من القلب حياة '.
فتيـة يُعرف التخشع فيــــهم كلهم أحكم القرآن غلامـــــا
قد بـرى جلدهم التهجد حتــى عـاد جلداً مصفـراً وعظامـــــا
تتجافى عن الفراش من الخوف إذا الجاهـلون بــاتوا نيــامــــا
بأنيـــن وعبـــرة ونحيــب ويظلـون بالنهار صيــــامــا
يقرؤون القرآن لا ريــب فيـــه ويبيتون سجـــداً وقيامــــا