العلم والإيمان
أفضل ما اكتسبته النفوس, وحصلته القلوب, ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة, هو العلم والإيمان, ولهذا قرن الله سبحانه بينهما في قوله: { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ }الروم 56. وقوله:{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}المجادلة 11, وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبه, والمؤهلون للمراتب العالية, ولكن أكثر الناس غالطون في حقيقة مسمى العلم والإيمان اللذين بهما السعادة والرفعة, وفي حقيقتهما. حتى أن كل طائفة تظن أن ما معها من العلم والإيمان هو هذا الذي به تنال السعادة, وليس كذلك بل أكثرهم ليس معهم إيمان ينجي ولا علم يرفع, بل قد سدوا على نفوسهم طرق العلم والإيمان اللذين جاء بهما الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا إليهما الأمة, وكان عليهما هو وأصحابه من بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم.
فكل طائفة اعتقدت أن العلم معها وفرحت به {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} المؤمنون53, وأكثر ما عندهم كلام وآراء وخرص, والعلم وراء الكلام كما قال حمّاد بن زيد: قلت لأيوب: العلم اليوم أكثر أو فيما تقدّم؟ فقال: الكلام اليوم أكثر والعلم فيما تقدم أكثر!
ففرق هذا الراسخ بين العلم والكلام. فالكتب كثيرة جدا والكلام والجدال والمقدرات الذهنية كثيرة, والعلم بمعزل عن أكثرها, وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه:{ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ..} آل عمران 61, وقال:{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ..} البقرة 120, وقال في القرآن:{ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } النساء166, أي وفيه علمه.
ولما بعد العهد بهذا العلم آل الأمر بكثير من الناس إلى أن اتخذوا هواجس الأفكار وسوانح الخواطر والآراء علما, ووضعوا فيها الكتب, وأنفقوا فيها الأنفاس, فضيعوا فيها الزمان, وملأوا بها الصحف مدادا, والقلوب سوادا, حتى صرح كثير من الناس منهم أنه ليس في القرآن والسنة علم, وأن أدلتهما لفظية لا تفيد يقينا ولا علما. وصرخ الشيطان بهذه الكلمة فيهم, وأذن بها بين أظهرهم, حتى أسمعها دانيهم لقاصيهم, فانسلخت بها القلوب من العلم والإيمان كانسلاخ الحية من قشرها, والثوب عن لابسه. قال الإمام العلامة شمس الدين ابن القيم: ولقد أخبرني بعض أصحابنا عن بعض أتباع أتباع تلاميذ هؤلاء أنه رآه يشتغل في بعض كتبهم ولم يحفظ القرآن, فقال له: لو حفظت القرآن أولا كان أولى, فقال: وهل في القرآن علم.
قال ابن القيم: وقال لي بعض أئمة هؤلاء: إنما نسمع الحديث لأجل البركة لا لنستفيد منه العلم لأن غيرنا قد كفانا هذه المؤونة فعمدتنا على ما فهموه وقرروه, ولا شك أن من كان هذا مبلغه من العلم فهو كما قال القائل:
نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبطحاء أبعد منزل قال: وقال لي شيخنا مرة في وصف هؤلاء: أنهم طافوا على أرباب المذاهب ففازوا بأخس الطلب, ويكفيك دليلا على أن هذا هو الذي عندهم ليس من عند الله, ما ترى فيه من التناقض والاختلاف ومصادمة بعضه لبعض, قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} النساء82, وهذا يدل على أن ما كان من عنده سبحانه لا يختلف, وأن ما اختلف وتناقض فليس من عنده, وكيف تكون الآراء والخيالات وسوانح الأفكار دينا يدان به ويحكم به على الله ورسوله, سبحانك هذا بهتان عظيم.
وقد كان علم الصحابة الذي يتذاكرون فيه غير علوم هؤلاء المختلفين الخرّاصين كما حكى الحاكم في ترجمة أبي عبد الله البخاري, قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا إنما يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم, ليس بينهم رأي ولا قياس. ولقد أحسن القائل:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة, ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه كلا, ولا جحد الصفات ونفيها حذرا من التمثيل والتشبيه وأما الإيمان فأكثر الناس, أو كلهم, يدعونه: { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} يوسف 103, وأكثر المؤمنين إنما عندهم إيمان مجمل, وأما الإيمان المفصل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة وعلما وإقرارا ومحبة ومعرفة بضده وكراهيته وبغضه, فهذا إيمان خواص الأمة وخاصة الرسول, وهو إيمان الصدّيق وحزبه. وكثير من الناس حظهم من الإيمان الإقرار بوجود الصانع, وأنه وحده هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما, وهذا لم يكن ينكره عبّاد الأصنام من قريش ونحوهم. وآخرون الإيمان عندهم هو التكلم بالشهادتين, سواء كان معه عمل أو لم يكن, وسواء وافق تصديق القلب أو خالفه. وآخرون عندهم الإيمان مجرد تصديق القلب بأن الله سبحانه خالق السماوات والأرض وأن محمدا عبده ورسوله وإن لم يقر بلسانه ولم يعمل شيئا, بل ولو سب الله ورسوله وأتى بكل عظيمة, وهو يعتقد وحدانية الله ونبوة رسوله فهو مؤمن. وآخرون عندهم الإيمان هو جحد صفات الرب تعالى من علوه على عرشه وتكلمه بكلماته وكتبه وسمعه وبصره ومشيئته وقدرته وإرادته وحبه وبغضه, وغير ذلك مما وصف به نفسه, ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فالإيمان عندهم إنكار حقائق ذلك كله وجحده والوقوف مع ما تقتضيه آراء المتهوكين وأفكار المخرصين الذين يرد بعضهم على بعض وينقض بعضهم قول بعض, الذين هم كما قال عمر بن الخطاب والإمام أحمد: "مختلفون في الكتاب, مخالفون للكتاب, متفقون على مفارقة الكتاب". وآخرون عندهم الإيمان عبادة الله بحكم أذواقهم ومواجيدهم وما تهواه نفوسهم من غير تقييد بما جاء به الرسول. وآخرون الإيمان عندهم ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم بحكم الاتفاق كائنا ما كان, بل إيمانهم مبني على مقدمتين, إحداهما: أن هذا قول أسلافنا وآبائنا. والثانية: أن ما قالوه فهو الحق. وآخرون عندهم الإيمان مكارم الأخلاق وحسن المعاملة وطلاقة الوجه وإحسان الظن بكل أحد وتخلية الناس وغفلاتهم. وآخرون عندهم الإيمان التجرد من الدنيا وعلائقها وتفريغ القلب منها والزهد فيها. فإذا رأوا رجلا هكذا جعلوه من سادات أهل الإيمان, وإن كان منسلخا من الإيمان علما وعملا. وأعلى من هؤلاء من جعل الإيمان هو مجرد العلم وإن لم يقارنه عمل. وكل هؤلاء لم يعرفوا حقائق الإيمان ولا قاموا به ولا قام بهم, وهو أنواع: منهم من جعل الإيمان ما يضاد الإيمان, ومنهم من جعل الإيمان ما لا يعتبر في الإيمان, ومنهم من جعله ما هو شرط فيه ولا يكفي في حصوله, ومنهم من اشترط في ثبوته ما يناقضه ويضاده, ومنهم من اشترط فيه ما ليس منه بوجه.
والإيمان وراء ذلك كله, وهو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم, والتصديق به عقدا, والإقرار به نطقا, والانقياد له محبة وخضوعا, والعمل به باطنا وظاهرا, وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان وكماله في الحب في الله والبغض في الله, والعطاء لله والمنع لله, وأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده. والطريق إليه تجريد متابعة رسوله ظاهرا وباطنا, وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, وبالله التوفيق. من اشتغل بالله عن نفسه, كفاه الله مؤونة نفسه, ومن اشتغل بالله عن الناس, كفاه الله مؤونة الناس, ومن اشتغل بنفسه عن الله, وكّله الله إلى نفسه, ومن اشتغل بالناس عن الله, وكله الله إليهم.