الفرق بين التصديق وبين اليقين
إن التصديق في حقيقته يُبنى على معلوم الإنسان، سواء كان هذا المعلوم لديه من قبيل الحق أو كان من قبيل الباطل،
إلا أن الفرق بينهما: أن التصديق أمر اختياري،
وأما اليقين: فهو أمر ضروري، بمعنى أن اليقين شئ يوجد في نفس الإنسان إذا وُجد مُوجِبُه من غير اختيار الإنسان، كالشِبَع إذا أكل الإنسان وجد الشِبَع، ولو أن الإنسان يريد أن يأكل كثيراً ولا يشبع؛ لجودة الطعام، أو لحاجته إليه، أو لأنه يستخسر إلقاءه وإهداره، فهو يريد أن يأكل ولا يشبع من هذا الطعام؛ فإنه لا يستطيع ذلك. وهكذا لو أنه شرب فإنه بهذا الشرب يرتوي ولابد إذا وصل إلى حدٍ معين، وهذا الرِّى الذي يقع للإنسان هو أمر غير اختياري، فالشرب اختياري، ولكن الرِّى ليس اختيارياً.
وهكذا اليقين إذا حصلت موجباته؛ فإنه يوجد في القلب، ويرسخ فيه، ويثبت من غير اختيار؛ ولهذا فإن الكفار بل عتاة الكافرين مع تمردهم، وعتوهم على الله عز وجل، وعلى رسله،
فإن الله عز وجل يقول
{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا...[14]}
[سورة النمل]
أي : أنهم جحدوا بها ظلماً وعلواً مع وجود اليقين في نفوسهم، ولهذا نقول: إن التصديق أمر اختياري باعتبار أن الإنسان يُقرُّ به ويُظهره ويصدق، فيكون مؤمناً، وقد لا يصدق فيجحد:
{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ...[14] }
[سورة النمل]
فاليقين يكون في القلب، والتصديق يكون أمراً اختيارياً، وهو إظهار مقتضى العلم، فهو يُقر بذلك، ويثبته، ويعترف بهذه الحقائق التي عُرضت أمامه، فيعترف برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم أو بوحدانية الله عز وجل وما إلى ذلك.
فمن جئت له بالأدلة المتنوعة المختلفة لتقرره بأمر من الأمور، ولم يكن له حجه إطلاقاً، فبينت له الحق بياناً واضحاً لا لبس فيه؛ فإنه بذلك قد يحصل له اليقين ولكنه قد لا يُصدقك، قد لا يُظهر الاعتراف والإقرار والإذعان، ولهذا فإن أولئك الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلموتنزل القرآن بين أظهرهم، تنزل عليهم، ومع ذلك كثير منهم لم يصدقوا مع استقرار مقتضى هذه الحقائق في نفوسهم، فهي أمور ثابتة لكنهم لم يظهروا مقتضاها، فكانوا بذلك مكذبين.
وبهذا يتبين الفرق بين اليقين وبين التصديق، فقد يكون الإنسان مصدقاً مع حصول اليقين في قلبه، وقد يكون الإنسان متيقناً من أمر من الأمور إلا أنه مكابرٌ جاحدٌ، لا يقرُّ ولا يُذعن بالحقيقة.