الفكر مبدأ الارادة وهو أصل الخير والشر
أصل الخير والشر من قبل التفكّر, فن الفكر مبدأ الارادة والطلب في الزهد والترك والحب والبغض. وأنفع الناس المتفكر في مصالح المعاد وفي طرق اجتلابها وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها, فهذه أربعة أفكار من أجل الأفكار. ويليها أربعة: فكّر في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها, وفكّر في مفاسد الدنيا وطرق الاحتراز منها, فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء. ورأس القسم الأول الفكر في آلاء الله ونعمه, وأمره ونهيه, وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما والاهما, وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة. فاذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها, وفي الدنيا خستها وفنائها, أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة, والزهد في الدنيا, وكلما فكّر في قصر الأمل, وضيق الوقت, أورثه ذلك الجد والاجتهاد, وبذل الوسع في اغتنام الوقت.
وهذه الأفكار تعلي همّته, وتحييها بعد موتها, وسفولها, وتجعله في واد والناس في واد. وبازاء هذه الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق, كالفكر فيما لم يكلف الفكر فيه, ولا أعطى الاحاطة به من فضول العلم الذي لا ينفع, كالفكرفي كيفية ذات الرب وصفاته, مما لا سبيل للعقول الى ادراكه, ومنها الفكر في الصناعات الدقيقة التي لا تنفع بل تضر, كالفكر في الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال والتصاوير.
ومنها الفكر في العلوم التي لو كانت صحيحة لم يعط الفكر فيها النفس كمالا ولا شرفا, كالفكر في دقائق المنطق والعلم الرياضي والطبيعي, وأكثر علوم الفلاسفة التي لو بلغ الانسان غاياتها لم يكمل بذل ولم يزك بنفسه.
ومنها الفكر في الشهوات واللذات وطرق تحصيلها, وهذا وان كان للنفس فيه لذة لكن لا عاقبة له, ومضرّته في عاقبة الدنيا قبل الآخرة أضعاف مسرّته. ومنها الفكر فيما لم يكن لو كان كيف كان يكون, كالفكر فيما اذا صار ملكا, أو وجد كنزا, أو ملك ضيعة, ماذا يصنع؟ وكيف يتصرّف, ويأخذ, ويعطي, وينتقم؟ نحو ذلك من أفكار السفل. ومنها الفكر في جزئيات أحوال الناس ومداخلهم ومخارجهم وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة. ومنها الفكر في أنواع الشعر وصروفه وأفانينه في المدح والهجاء والغزل والمراثي ونحوها, فانه يشغل الانسان عن الفكر فيما فيه سعادته وحياته الدائمة. ومنها الفكر في المقدرات الذهنية التي لا وجود لها في الخارج ولا بالناس حاجة اليها البتة, وذلك موجود في كل علم حتى في علم الفقه والأصول والطب, فكل هذه الأفكار مضرّتها أرجح من منفعتها ويكفي في مضرّتها شغلها عن الفكر فيما هو أولى به وأعود عليه بالنفع عاجلا وآجلا.