المَعْلَمُ الثاني: الإمامةُ العِلْمِيَّة
إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم يحدد (إمامة) بعثة التجديد، وينص عليها بصورة واضحة، لا غَبَش فيها ولا إبهام.
وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ. وإنّ الأنبِيَاءَ لَمْ يُوَرّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، إِنّمَا وَرّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍ وَافِرٍ)
([1]).
بيد أن (الوراثة) ههنا تقتضي إرث العلم بكل وظائفه الدعوية والتربوية. لا مجرد العلم الخالي من كل عمل، ومن أي رسالة! فذلك علم مُدَّعًى غير موروث! فالعلماء الورثة: هم أهل الرسالة، وحُمَّالُ البلاغ القرآني. ولقد أصل أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله (ت: 790هـ) ذلك. وهو رحمه الله أحد أئمة التجديد في الأندلس. فوصف العالم المتصدر للتربية والتجديد؛ بـ(الوارث)، و(المُنْتَصِب)، كما وصفه بالرباني، والحكيم، والراسخ في العلم، والعالم، والفقيه، والعاقل. في نصوص جديرة بأن تشد إليها الرحال! وهي اصطلاحات كلها دالة عنده على (إرث) النبوة في منهج التربية والتعليم والتزكية للأمة. (فالانتصاب) إنما هو تجرد لمهمة البلاغ. تماما كما تنتصب الجبال بين الصحارى والبطاح؛ أعلاما للضالين عن الطريق، فيراها كل العابرين، وتكون بذلك مثارات اتباع واقتداء. قال رحمه الله: (إن المنتصب للناس، في بيان الدين مُنْتَصِبٌ لهم بقوله، وفعله! فإنه وارثُ النبي! والنبي كان مبينا بقوله، وفعله. فكذلك الوارثُ لابد أن يقوم مقام الموروث، وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة! ومعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتلقون الأحكام من أقواله، وأفعاله، وإقراراته. وسكوته، وجميع أحواله. فكذلك الوارث، فإن كان في التحفظ في الفعل؛ كما في التحفظ فى القول؛ فهو ذلك! وصار من اتبعه على هدى. وإن كان على خلاف ذلك صار من اتبعه على خلاف الهدى! لكن بسببه!)([2]) وقال في منهج اقتداء الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم: (وكانوا يبحثون عن أفعاله، كما يبحثون عن أقواله. وهذا من أشد المواضع على العالم المنتصب!)([3])
وقال رحمه الله في تفصيل الخصائص المعرفة للعالم الرباني المنتصب، واصفا إياه بأنه: (يتحقق بالمعاني الشرعية منزلة على الخصوصيات الفرعية، بحيث لا يصده التبحر في الاستبصار بطرف؛ عن التبحر في الاستبصار بالطرف الآخر. فلا هو يجرى على عموم واحد منهما؛ دون أن يعرضه على الآخر. ثم يلتفت مع ذلك إلى تنزل ما تلخص له على ما يليق في أفعال المكلفين (...) فهو صاحب التمكين والرسوخ، فهو الذى يستحق الانتصاب للاجتهاد، والتعرض للاستنباط (...) ويسمى صاحب هذه المرتبة: الرباني، والحكيم، والراسخ في العلم، والعالم، والفقيه، والعاقل؛ لأنه يربي بصغار العلم قبل كباره، ويوفى كل أحد حقه، حسبما يليق به. وقد تحقق بالعلم وصار له كالوصف المجبول عليه. وفهم عن الله مراده. ومن خاصته أمران: أحدهما أنه يجيب السائل على ما يليق به في حالته على الخصوص، إن كان له في المسألة حكم خاص (...) والثاني: أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات!)([4]).
ذلك هو عالِم البعثة إذن؛ داعية رباني حكيم، مجدِّد ومجتهد، منتصب للناس بعلمه وورعه؛ مُعَلِّماً، وداعيا، وهاديا، ومربيا.
وملاحظة السيرة النبوية تفضي إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كوَّن عددا كبيرا من علماء الصحابة. كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وغيرهم كثير! جيل من العلماء الأئمة، كانوا فقهاء، وحكماء ربانيين، ولم يكونوا مجرد نقلة. بل أسهموا في بناء حضارة الأمة، ونهضتها الأولى.
وبعثة التجديد لن تكون إلا بمثلهم، منهجيا. أي بقيادة علمية متميزة كما وكيفا. فلا بد من عدد وفير من أهل العلم. من الذين يحملون الرسالة، ويشتغلون بالقرآن؛ تعليماً، وتزكيةً، وتفقيها في الدين. وإنما أولئك هم العلماء الربانيون – كما سبق قول أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله – (الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره)، كما جاء في بعض تراجم الإمام البخاري رحمه الله([5]). والذين لا تفتنهم آحاد الجزيئات عن ملاحظة الكليات، ويراعون المآلات قبل الجواب عن السؤالات! إنهم قوم يحملون أخلاق النبوة علما وحِلْماً! ولقد ظن بعض أهل الخير من المشتغلين بالدعوة اليوم؛ أن الناس قد انصرفوا إلى طلب العلم الشرعي بوفرة زائدة عن الحاجة! ولا يزالون ينصحون الشباب بالعدول عن ذلك؛ بدعوى أننا في حاجة إلى الطبيب المسلم، والمهندس المسلم، والفيزيائي المسلم. وأقول: نعم، نحن في حاجة إلى كل أولئك وأضرابهم، لكن حاجتنا إلى (علماء البعثة) آكد وأشد! ودعوى حصول الكفاية من العلماء باطلة! فأولا ليس كل من انتسب إلى العلوم الشرعية هو من علماء بعثة التجديد، بما ذكرنا وما وصفنا من مفهوم (العالِمية)([6]).
فإنما العلماء: الفقهاء الربانيون الوُرَّاث، كما سبق تفصيله. وليس العالم المنتصب أو الوارث هو من جمع في ذهنه عددا كبيرا من المحفوظات والمكتبات! ولكنه من أوتي حكمة التصرف في المعلومات، بما يناسب الزمان والإنسان! ولشيخ المقاصد أبي إسحاق الشاطبي كلمة ذهبية في هذا. قال رحمه الله: إن على العالم الرباني (أن لا يذكر للمبتدئ من العلم ما هو حظ المنتهي! بل يربي بصغار العلم قبل كباره. وقد فرض العلماء مسائل، مما لا يجوز الفتيا بها، وإن كانت صحيحة فى نظر الفقه! (...) وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت فى ميزانها؛ فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله! فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة؛ فاعرضها فى ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم. وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ؛ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية!)([7]).
إن أمثال هؤلاء ليس منهم في الأمة إلا الندرة! بله القلة، بله الكثرة والوفرة! ولقد رأيتَ كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرَّج للناس منهم جيلا! فما بالك بزماننا هذا؟ وقد بلغ عدد المسلمين في العالم مليارا ونصفا! هذا إذا حددنا مخاطَبنا في المسلمين خاصة، وإنما الإسلام جاء لمخاطبة العالمين!
المراجع
- جزء حديث رواه أحمد والأربعة، وابن حبان. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، رقم: 6297.
- الموافقات: 3/317
- الموافقات: 4/250
- الموافقات: 4/232
- صحيح البخاري، كتاب العلم، (باب العلم قبل القول والعمل).
- لك أن تنظره في كتابنا: "مفهوم العالمية".
- الموافقات: 4/190-191